تحميل العدد الثاني العاشر كاملا - دورية نماء لعلوم...

181

Transcript of تحميل العدد الثاني العاشر كاملا - دورية نماء لعلوم...

ونشــر بإعــداد تعــى حبثيــة، مؤسســة والدراســات يف جمــال البحــوث وترمجــة الدراســات اإلســامية واإلنسانية، تأسست

عام 2010م/1432هـ.

حقــول يف البحــث تطويــر إىل يهــدف الدراســات اإلســامية واإلنســانية، وتعزيز

التكامل املعريف بينهما.

الدراســات وطلبــة الباحثــن يســتهدف القــرار وصنــاع املثقفــن وعمــوم العليــا، املهتمن بالدارسات اإلسامية واإلنسانية.

إصــدار عــر رســالته لتوصيــل يشــتغل البحــوث والدراســات، والنشــر اإللكتروين، النقــاش، وحلقــات األكادمييــة والــدورات

واالستشارات البحثية.

تصميم وإخراج: أمل مجال

179 ص، )جملـة دوريـة حمكمـة؛ العدد10(. 17 × 24 سم

سكرتري اجمللة : سعد خضر.

ISSN: 2785-9746

رئيس التحرير: د. سعيد بنتاجر أستاذ املنطق جبامعة احلسن الثاين بالدار البيضاء،

)املغرب(

مدير التحرير: د. عبد الغين سلطان الفقيهالسياســة وفقــه وأصولــه الفقــه يف دكتــوراه

)اليمــن( الشــرعية،

أ. د. أمحد حممود إبراهيمأستاذ التاريخ، بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة )مصر(

أ.د. عبد الرمحن بودرعأستاذ لسانيات النص وحتليل اخلطاب جبامعة عبد

املالك السعدي، كلية اآلداب، تطوان، )املغرب(

د. عبد احلليم مهور باشةأستاذ علم االجتماع جبامعة سطيف 2 )اجلزائر(

أ.د. يوسف الكالمأستاذ مقارنة االديان مبؤسسة دار احلديث احلسنية

جامعة القرويني )املغرب(

أ.د. نورة بوحناشأستاذة فلسفة األخالق جبامعة قسنطينة 2

)اجلزائر(

أ.د. حممد سيد أمحد متويل أستاذ البالغة والنقد األديب واألدب املقارن بكلية

دار العلوم – جامعة القاهرة )مصر(

د. حممد الريوشدكتوراه يف الدراسات اإلسالمية )املغرب(

هيئة التحرير

املدير العام:ياسر ماطر املطريف

العلــوم دار بكليــة اإلســامية الفلســفة أســتاذ ورئيس جممع اللغة العربية السابق

أستاذ العلوم السياسية بكلية االقتصاد والعلوم السياسية جبامعة القاهرة سابقا )مصر(

العدد 12 | شتاء 2021 م

افتتاحية العدد

رئيس التحرير

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � د� سعيد بنتاجر

الدراسات واألبحاث

أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد

والفتوى

مقاربة منهجية أصولية

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � د� ربيع الحمداوي

مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

مقاربة للجذور واملعنى والتامثالت

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � د� التجاين بولعوايل

يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

-قول يف فلسفة الرياضيات عند ابن

الهيثم-

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � إسامعيل املوساوي

Editorial

Research Papers

The impact of the Reality reference

in Ijtihad and fatwa

An approach in the Usul al-fiqh

Methodology

Dr� RABII EL HAMDAOUI � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

The Issue of Citizenship between

Islam and the West

An Approach to Roots, Meaning and

Similarities

Tijani Boulaouali � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

In the concept of the known of

Al-Hassan Ibn Al-HaythamWael AL

Harthi

Saying in the philosophy of mathe-

matics at Ibn Al Haytham

ASMAIL ELMOUSSAOUI� � � � � � � � � � � � � � �

By Editor:

Dr� Said Bentajar � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � 8

13

41

57

نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن

الفعل الكالمي باعتباره مدخال من

مداخل فلسفة الفعل

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � عبد القادر ملوك

الرتجامت

األرسطية واألفالطونية يف فلسفة

العرص الوسيط

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ألكسندر كويري

� � � � � � � � � � � � � � � ترجمة: محمد منادي إدرييس

هل كان ابن تيمية به مس من جنون؟

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � دونالد ب� لتل

� � � � � � � � � � � � ترجمة: د� أحمد محمود إبراهيم

مراجعات الكتب

مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب ''

الجذور)األصول( الالهوتية للحداثة''

ملايكل ألني جليسببي�

� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � عبد الرحيم البرصي:

العدد 12 | شتاء 2021 م

The Speech Acts theory: a study of

Speech Act as one of the entries of

the philosophy of action

Abdelkader Mellouk � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

Translations

Aristotelianism and Platonism in

Medieval Philosophy

Alexandre Koyré � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

MOHAMED MOUNADI IDRISSI � � � � � � � � � � �

Did Ibn Taymiyya Have a Screw

Loose?

Donald P� Little � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

Ahmed Mahmoud Ibrahim � � � � � � � � � � � � � � � �

Book Reviews

The Theological Origins of Modernity

Michael Allen Gillespie

Abderrahim Elbasri � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �

79

102

102

132

132

149

العدد 12 | شتاء 2021 م

حوارات

حوار األستاذ الدكتور/ عبد الرحمن بودرع

� � � � � � � � � � � � � � � � � � يحاوره األستاذ/ فضيل نارصي

Dialogues

A Conversation with Professor

Dr�Abderrahmane BOUDRAA

By: Professor: Fadil Nasseri � � � � � � � � � � � � � � � � � 164

افتتاحية العدد

دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية8

افتتاحية العدد

Editorial رئيس التحرير: د. سعيد بنتاجر By Editor: Dr. Said Bentajar

تدخــل دوريــة نمــاء بهــذا العــدد ســنتها الخامســة، وهــي فــي

علــى ســهروا والــذي مؤسســيها جهــود بفضــل العطــاء أوج

إقامــة بنيانهــا. وقــد جــرى منــذ العــدد الماضــي انطــاق مرحلــة ثانيــة

ضمــن مســار هــذه الدوريــة الفتيــة، ليــس بانضمــام أعضــاء جــدد

إلــى فريقهــا التحريــري واإلداري فقــط، بــل أساســا بفضــل العزمــة

الجديــدة علــى تبويئهــا مكانــة مرموقــة فــي ســماء النشــر األكاديمــي

فــي مجــال العلــوم اإلنســانية واإلســامية علــى المســتوى الدولــي،

تبــوأت هــذه المكانــة علــى المســتوى العربــي واإلســامي بعدمــا

بفضــل جهــود الفريــق المؤســس. ولــن يتحقــق الهــدف المــراد بهذه

المقبــول األكاديمــي للنشــر الدنيــا الشــروط بتحقيــق إال العزمــة

المقــاالت جــودة مــن الرفــع طليعتهــا فــي يأتــي والــذي عالميــا،

المنشــورة، وأخذهــا باألعــراف المقبولــة للنشــر األكاديمــي. ويقــف

دون تحقيــق هــذا الهــدف أمــران، ال تســلم منهمــا دوريــة تريــد النشــر

باللغــة العربيــة وفــي مجــال العلــوم اإلنســانية واإلســامية، وهمــا:

مجــال التخصــص فــي العلــوم اإلنســانية واإلســامية، مــن جهــة؛

ولغــة النشــر، أي النشــر باللغــة العربيــة، مــن جهــة أخــرى.

يمثــل تحــدي النشــر فــي تخصصــات الفلســفة والعلــوم اإلنســانية

واإلســامية واحــدا مــن أســباب تأخــر المجــات والجامعــات العربيــة،

للنشــر العالمــي والترتيــب التقويــم ســلم فــي أيضــا، والعالميــة

هــذه تحتلهــا التــي المعنويــة القيمــة بســبب وهــذا األكاديمــي،

التخصصــات فــي مقابــل مجــاالت البحــث فــي العلــوم الدقيقــة والعلــوم

لمعاييــر النســبي الغمــوض هــذا، إلــى يضــاف والتطبيقيــة؛ التقنيــة

والتــي المجــاالت، هــذه فــي المعرفيــة واإلضافــة األصالــة تقويــم

األساســية العلميــة المجــاالت فــي وضوحهــا بنفــس تكــون ال قــد

المعتمــدة والتقويــم التأثيــر معاييــر فــإن ذلــك، ومــع والتطبيقيــة.

عالميــا، تســمح بــأن يكــون لعــدد مــن الدوريــات فــي المجــاالت المذكورة

مكانــة الئقــة بهــا. وإذا كان التحــدي الســابق يواجــه الجماعــة العلميــة

فــي التخصــص الواحــد وال يكــون اســتيفاؤه إال بــأن تجعــل تخصصهــا

أو دورياتهــا فــي المقــام المــرام، فــإن التحــدي الثانــي تحــد حضــاري أمــام

9دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

الباحثيــن والمؤسســات األكاديميــة العربيــة، وهــو

الدوريــات وجعــل العربيــة باللغــة النشــر تحــدي

والمعتبــرة المفهرســة الدوريــات ضمــن العربيــة

عالميــا. وقــد آلينــا علــى أنفســنا المشــاركة فــي هــذا

الجهــد الحضــاري فــي الرفــع مــن شــروط النشــر حتــى

باســتيفاء الشــروط المعتبــرة فــي النشــر األكاديمــي

األكاديميــة للدوريــات يكــون حتــى العالمــي،

العربيــة فــي مجــال العلــوم اإلنســانية واإلســامية

مكانتهــا. ولــن يتحقــق هــذا إال بالمســاهمة الفعالــة

المجــال نمــاء دوريــة لهــم تفتــح الذيــن للباحثيــن،

تفتحــه كمــا والنقديــة التركيبيــة دراســاتهم لنشــر

التحليليــة. لدراســاتهم

الدراســات مــع البنــاء التفاعــل بــأن وإليماننــا

يضيــف الــذي اإليجابــي والتراكــم الســابقة واآلراء

القائمتــان همــا المعنــي المعرفــي للحقــل الجديــد

اللتــان يقــوم عليهمــا تطــور المعرفــة، فــإن الدوريــة

تشــجع الباحثين على التفاعل اإليجابي مع الدراســات

واإلســامية اإلنســانية العلــوم فــي المتخصصــة

المنشــورة فــي هــذه الدوريــة أو فــي غيرهــا ســواء كان

التفاعــل تعديــا أو إضافــة أو نقــدا وتقويمــا.

ومثلــت إتاحــة الفرصة للباحثين لتحليل ومناقشــة

ــا اإلشــكالية المتخصصــة واحــدة مــن دوافــع القضاي

تأســيس المجلــة، ومــا زال ذلــك الدافــع مؤثــرا ومحركا

لتشــجيع ونشــر األبحــاث المتخصصــة فــي مجــاالت

العلــوم اإلنســانية واإلســامية، وقــد كان مــن نصيــب

هــذا العــدد دراســات تناولــت جانبــا مــن هــذه القضايــا

والمســائل؛ فقــد تنــاول الباحــث د. ربيــع الحمــداوي في

دراســته "أثــر مرجعيــة الواقــع فــي االجتهــاد والفتــوى:

مقاربــة منهجيــة أصوليــة" مســألة العاقــة بيــن الوحي

والواقــع فــي الفكــر والممارســة الشــرعيين، وحــاول

االجتهــاد مراجــع مــن مرجــع الواقــع أن فهــم بيــان

عــن بالكشــف وذلــك التنزيــل محــل ألنــه والفتــوى؛

معالــم مرجعيــة الواقــع فــي فقــه الدليــل الشــرعي،

مــن جهــة فهــم األحــكام الشــرعية الجزئيــة فــي ضــوء

االســتدالل منهجيــة وفــي المقاصديــة، الكليــات

الفقهــي التنزيلــي، حيــث يكــون لمرجعيــة الواقــع أثــر

التجانــي د. الباحــث وعقــد والفتــاوي؛ األحــكام فــي

الفكــر بيــن المواطنــة مفهــوم مقارنــة بولعوالــي

اإلســامي والفكــر الغربــي فــي دراســته الموســومة

بـ"مســألة المواطنــة بيــن اإلســام والغــرب: مقاربــة

للجــذور والمعنــى والتماثــات"، واســتعرض النواحــي

فــي المواطنــة عناصــر اإلســام فيهــا تمثــل التــي

تتيــح أصــول وجــود عــن مدافعــا الغربــي، الفكــر

للمســلمين فــي الغــرب تمثــل مفهــوم المواطنــة مــن

منطلقاتهــم العقديــة والفكريــة الخاصــة؛ وفــي مجــال

تاريــخ العلــوم وفلســفتها، دافــع الباحــث إســماعيل

الموســاوي فــي دراســته "فــي مفهــوم المعلــوم عنــد

متميــزة رياضيــة فلســفة وجــود عــن الهيثــم" ابــن

النظــري اإلطــار مــن تخرجــه الهيثــم، ابــن للعامــة

ــة، بنظــره ــات العربي ــر فــي الرياضي ــذي أث ــدي ال األوقلي

إلــى األشــكال الهندســية نظــرة حركيــة ال ثبــات فيهــا

أقليــدس بتأثيــر الرياضييــن عــن الســائد عكــس

اليونانــي، فأدمــج بذلــك النظــر الطبيعــي )نســبة إلــى

العلــم أو الفلســفة الطبيعيــة األرســطية( فــي النظــر

الرياضــي )نســبة إلــى الرياضيــات(. وقــد تجلــى ذلــك

فــي نظريتــه فــي المعلــوم، والــذي دل بــه علــى اعتقــاد

ــي ال ــة الت ــة واألجســام التعليمي ــي الرياضي فــي المعان

يصــح فيهــا التغيــر، وقــد توســع الباحــث فــي عــرض

التصــور الهيثمــي لمفهــوم المعلــوم ومتعلقاتــه؛ وقــد

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 10

لعــرض ملــوك مقالــه القــادر عبــد الباحــث خصــص

نظريــة أفعــال الــكام التــي كان لهــا األثــر فــي نقــل

والداللــي التركيبــي المســتوى مــن اللغــة دراســة

إلــى المســتوى التداولــي ممــا يجعــل القــول مرتبطــا

بالفعــل واإلنجــاز، وقــد اســتعرض الباحــث اإلســهام

أوســتين جــون مــن لــكل الموضــوع فــي النظــري

أحســن الترجمــات، محــور وفــي ســورل؛ وجــون

محمــد منــادي اإلدريســي فــي اختيــار ترجمــة دراســة

العصــر فلســفة فــي واألفاطونيــة "األرســطية

الوســيط" البســتيمولوجي ومــؤرخ العلــوم ألكســندر

كويــري، والتــي كانــت ذات نفــس تصحيحــي للقــراءات

التاريخيــة الشــائعة والمتحاملــة علــى عصــور بأكملهــا

فيــه يكــن لــم وكأن الظــام بعصــور إياهــا واســمة

ــن كويــري إجمــاال مــن خــال رصــد إنجــاز فكــري، وقــد بي

والفلســفة األفاطونيــة الفلســفة حضــور طبيعــة

والاتينيــة اإلســامية الحضارتيــن فــي األرســطية

الفلســفة فيهــا حضــرت التــي الكيفيــة الوســيطة

فــي الحضارتيــن، وأن التعامــل معهــا لــم يكــن ســلبيا

فيهمــا، بــل أثمــر نهضــة فكريــة فــي كل واحــدة منهمــا،

نهضــة فــي القــرن التاســع فــي الحضــارة اإلســامية

الحضــارة فــي عشــر الثالــث القــرن فــي ونهضــة

الرحيــم عبــد الباحــث وتولــى الاتينيــة؛ المســيحية

البصــري مراجعــة كتــاب "الجــذور الاهوتيــة للحداثــة"

ــببي، والــذي

ليسللمفكــر األمريكــي مايــكل أليــن ج

تنــاول فيــه، كمــا يــدل عنوانــه، مناقشــة مســألة عاقــة

الســابقة المرحلــة مــع الحداثــة وانفصــال اتصــال

الدينيــة واألصــول الوســطى العصــور فــي عليهــا

الاهوتيــة للحداثــة. وقــد حــرص المراجــع علــى تحليــل

نقــدي بنفــس المركزيــة الكتــاب مقــاالت وتقويــم

ولغــة رائقــة. وقــد اختــار الدكتــور أحمــد محمــود ابراهيم

ترجمــة دراســة بعنــوان مثيــر لانتبــاه لكــن بمضمــون

ــة ــد ب. لتــل بعنــوان "هــل كان ابــن تيمي عميــق لدونال

الباحــث فيــه انطلــق والــذي جنــون؟" مــن مــس بــه

مــن حكــم ابــن بطوطــة علــى ابــن تيميــة منطلقــا ليثيــر

مســائل متعلقــة بطبيعــة شــخصية العامــة شــيخ

اإلســام ابــن تيميــة وتأثيــر ذلــك علــى كتاباتــه ومكانتــه

فــي زمانــه والزمــان الــذي بعــده؛ وقــد اعتمــد الباحــث

علــى كــم مــن الكتابــات والشــهادات التــي صــدرت عــن

محبيــه وخصومــه معــا فــي وصــف الشــيخ وتقويــم

أفعالــه، خاصــة شــهادة تلميــذه الذهبــي. وســيكون

وعميــق مفيــد حــوار مــع مســكا العــدد هــذا ختــم

عالــم مــع العربيــة اللغــة اللســانيات ومكانــة حــول

اللغويــات األســتاذ الدكتــور عبــد الرحمــن بــودرع، والــذي

أجــاب فيــه عــن أســئلة شــائكة وراهنــة حــول ماهيــة

اللســانيات مطلقــا واللســانيات فــي العالــم العربــي

البحــث وبيــن بينهمــا العاقــة وطبيعــة خاصــة،

توجيهــات الحــوار تضمــن وقــد العربــي، اللغــوي

منهجيــة ومضمونيــة مفيــدة للباحثيــن حــول أولويــات

البحــث فــي مجــال اللســانيات.

11

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية12

الدراسات واألبحاثResearch Papers

الدراسات واألبحاث

13 دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية

Research Papers | الدراسات واألبحاث

أثر مرجعية الواقع في االجتهاد والفتوى

مقاربة منهجية أصولية

The impact of the Reality reference in Ijtihad and fatwaAn approach in the Usul al-fiqh Methodology

((( Dr. RABII EL HAMDAOUI | د. ربيع الحمداوي

)1( باحــث فــي الفكــر اإلســامي وأســتاذ متعاقــد فــي الدراســات اإلســامية، جامعــة الســلطان مــوالي ســليمان، كليــة اآلداب [email protected] :والعلــوم اإلنســانية، بنــي مــال، المملكــة المغربيــة، البريــد اإللكترونــي

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 14

ملخص البحث:

إن علــم أصــول الفقــه مــن خــال تقعيــد قواعــده مثــل

عنــد االجتهــاد ملكــة توجيــه يبتغــي مقصديــا منهجــا

بــه أســس حيــث الشــرعية، العلــوم فــي الباحثيــن

العقــل اإلســامي منهجــا فلســفيا شــرعيا قــادرا علــى

االجتهــاد الســتنباط األحــكام فــي جميــع مجــاالت البنــاء

الحضــاري فــي الفكــر اإلســامي، وبذلــك تضمــن هــذا

أو عنهــا االســتغناء يمكــن ال مهمــة، فوائــد العلــم

التقليــل مــن أهميتهــا.

يهــدف البحــث إلــى الــرد علــى منهجيــن فــي االجتهــاد،

فتمســك االعتبــار مــن الواقــع ألغــى منهــج أولهمــا

باألحــكام الجزئيــة فــي النصــوص الشــرعية دون مراعــاة

الكليــات فــي التنزيــل، ومنهــج آخــر أولى مرجعيــة الواقع

علــى النــص فســلب الوحــي قدســيته وجعلــه جــزءا مــن

التــراث اإلســامي دون تمييــز لمكانتــه.

انفــرط مــن التــوازن لمــا البحــث إلعــادة يســعى هــذا

تفكيــر هــؤالء وهــؤالء، وذلــك ببحــث معالــم مرجعيــة

الواقــع فــي االجتهــاد والفتــوى مــن خــال تلمــس هــذه

بيــان ثــم أوال، الشــرعي الدليــل فقــه فــي المرجعيــة

معالــم هــذه المرجعيــة فــي منهجيــة االســتدالل ثانيــا،

قصــد االســتعانة بذلــك فــي فقــه التنزيــل.

الكلمــات المفتاحيــة: المرجعيــة، الواقــع، االجتهــاد ، الفتــوي،

المنهــج.

Abstract:The science of the fundamentalist Method based on

rules formation represented a purposeful methodology that

seeks to direct the ijtihad skill for researchers in the Islamic

15أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

sciences, where the Islamic mind established

a legitimate philosophical approach that

capable of ijtihad to derive rulings in all areas

of civilized construction in Islamic thought,

and thus this science contained important

benefits, irreplaceable or underestimated.

The research aims is to refuting two

groups whose method has already spread all

over the world, a group that eliminated the

reality from its consideration and adhered to

some parts of the shariah texts without even

looking the complete texts, and another

group denied the shariah text and made

the reality as their source and deprived the

revelation from its sanctity and made it part

of the Islamic heritage without distinguishing

its status.

This research seeks to restore balance

to what has been unbound of the thinking

of these groups, firstly by examining

the parameter of the reference reality

in jurisprudential in understanding the

shariah proof, and secondly by explaining

the symbols of this reference in the

jurisprudential reasoning, to recourse with

that in the jurisprudence of the revelation.

Key words: reference, reality, ijtihad,

fatwa, method.

تقديم:

إن مــن أصعــب عقبــات فهــم اجتهــادات

العلمــاء فــي التراث االســامي بنــاء مواقف

غيــر علميــة منهــا، وذلــك ببحــث قضاياهــا

تحليــل دون وصراعاتهــا وخافاتهــا

نشــأتها فــي أســهمت التــي المؤثــرات

هــذا فــي مســارها ورســمت وتطورهــا

االتجــاه أو ذاك، وهــذه القــراءة تعــزل فعــل

وواقــع محيطــه عــن والفتــوى االجتهــاد

ومقــوالت قضايــا مجــرد فتبــدو تنزيلــه،

أو المنقــول الدليــل اقتضاهــا علميــة

المعقــول، وكأن االجتهــاد ينشــأ ويتطــور

يراعــي المجتهــد ال أن أو المجتمــع خــارج

والفتــوى. االجتهــاد فــي واقعــه

إن جهــود قــراءة التــراث االســامي فــي معــزل

عــن واقعــه، تجعــل الجهــد ينصــب علــى الدفــاع

مــن اتجــاه خــال مــن نفســه المــوروث عــن

اتجاهاتــه، أو اختيــار مــن اختياراتــه، وفــي كثيــر مــن

األحيــان يكــون الخطــأ أو القصــور فــي اآلراء نتيجــة

ذلــك، خصوصــا عندمــا يتجــاوز الواقــع المجتهــد

فــردا كان أو جماعــة، وذلــك حينمــا يتعلــق األمــر

برمتهــا. ثقافــة أو بأكملــه بخصوصيــات عصــر

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 16

مرجعيــة ألثــر العلمــاء مــن كثيــر تنبــه لقــد

هللا عبــد الشــيخ ولعــل االجتهــاد، فــي الواقــع

ــة وهــو يؤلــف كتــاب بــن الشــيخ المحفــوظ بــن بي

الواقــع«، فقــه تأصيــل علــى المراجــع »تنبيــه

قــد تنبــه لخطــورة عــدم اســتحضار الواقــع فــي

فــي عملــه جعــل ولذلــك والتنظيــر، التقعيــد

البحــث عــن أرضيــة تجديديــة لفقــه واقــع المرحلــة

همــا: اثنيــن لســببين

أوال: إقبــال النــاس علــى أحــكام الشــريعة دون

أن يحيطــوا علمــا بمصادرهــا ومواردهــا وجزئيــات

نصوصهــا وكليــات مقاصدهــا، ممــا أدى مــن جهــة

إلــى انفعــال فيــه شــطط، ورد فعــل مــن الجهــة

ســوق فيــه نفقــت وغلــط. خطــأ فيــه األخــرى

ظاهريــة قــل علمهــا وضــاق فهمهــا، فــكادت أن

ــرت أكثــر المســلمين، تفســد الدنيــا والديــن، وكف

فــي ونبشــت واألمــوات، األحيــاء علــى واعتــدت

اســتظهروا الرفــات، عــن تبحــث األرض تخــوم

بعــض الجزئيــات دون ردهــا إلــى الكليــات، فغــاب

الجمــع والفــرق والتعليــل، فلــم يصيبــوا عنهــم

فــي التنزيــل. فقابلتهــم نابتــة علمانية-كــرد فعــل-

ــا ــال الغــرب، بحث ــوذ بأذي ع الديــن وتل ــود كادت أن ت

تعهــده لــم منطــق مــن وفــرارا الخــاص، عــن

لــم ومســتقبل مداهــا، تعــرف لــم ومنطلقــات

علــى الشــعوب فأصبحــت حاضرهــا، يهيئــه

شــفير هاويــة المفاصلــة، النحيــاز كل فريــق إلــى

المنابــذة. فســطاط

أجوبــة عــن باحــث واقــع متغيــر إلحــاح ثانيــا:

علميــة فــي قضايــا متنوعــة تمــس حيــاة األمــة فــي

شــتى المجــاالت والمياديــن فــي وقــت واحــد وفــي

كل مــكان«))(.

منــه ينطلــق التــي المحــوري اإلشــكال إن

ــة الجــواب عــن ســؤال محــوري البحــث هــو محاول

فــي الواقــع مرجعيــة طبيعــة هــي مــا مفــاده:

فيهــا البحــث يعيــن وكيــف والفتــوى؟ االجتهــاد

فــي فهــم ظــروف االجتهــاد فــي التــراث اإلســامي،

العلميــة اإلجابــة فــي الفهــم بهــذا واالســتعانة

الســؤال عــن تتفــرع ثــم الراهنــة؟ القضايــا عــن

مرجعيــة هــل مفادهــا: أخــرى أســئلة المحــوري

االجتهــاد فــي الوحــي لمرجعيــة نــد الواقــع

هــي فمــا بالنفــي الجــواب كان وإذا والفتــوى؟

مرجعيــة مــع الواقــع مرجعيــة تــازم معالــم

بيــن مزعــوم تصــادم أي ينتفــي بحيــث الوحــي

المرجعيتيــن؟ هــل ثنائيــة النــص والواقــع ضــدان ال

يجتمعــان كمــا يدعــي بعــض المعاصريــن أم همــا

صنــوان ال يفترقــان؟ مــا ســبب الخطــأ المنهجــي

الــذي وقعــت فيــه بعــض الدراســات المعاصــرة

فــي فهمهــا لمرجعيــة الواقــع ممــا أحــدث خلــا

فــي الفهــم والتنزيــل؟ هــذه كلهــا أســئلة يحــاول

عنهــا. اإلجابــة البحــث

أهــداف لتحقيــق إذن تســعى الدراســة هــذه

منهــا:

بيــان معالــم مرجعيــة الواقــع فــي االجتهــاد

فــي فيهــا البحــث يعيــن وكيــف والفتــوى،

))( ابــن بيــة، المحفــوظ عبــد هللا بــن الشــيخ »تنبيــه المراجــع والتذكيــر والتبشــير التيســير الواقــع فقــه تأصيــل علــى والتبصيــر«، مركــز نمــاء للبحــوث والدراســات، بيروت، بالشــراكة

014)م، ص7. جــدة، ط1، التجديــد، دار مــع

17أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

بهــذا واالســتعانة االســامي التــراث فهــم

القضايــا عــن العلميــة االجابــة فــي الفهــم

المعاصــرة.

بيــان معالــم مرجعيــة الواقــع فــي فقــه الدليــل

الشــرعي، عــن طريــق فهــم األحــكام الجزئيــة فــي

ضــوء الكليــات المقاصديــة.

منهجيــة فــي الواقــع مرجعيــة معالــم بيــان

االســتدالل، قصــد االســتعانة بذلــك فــي فقــه

يــل. التنز

ولتحقيــق هــذه األهــداف فقــد نظمــت البحــث

وفــق ثاثــة محــاور، أولهــا عنوانــه: الواقــع أســاس

مرجعــي فــي االجتهــاد والفتــوى، والثانــي: معالــم

الشــرعي، الدليــل فقــه فــي الواقــع مرجعيــة

منهجيــة فــي الواقــع مرجعيــة معالــم والثالــث:

االســتدالل.

الوصفــي المنهــج علــى البحــث يســتند

التحليلــي الــذي يتأســس علــى جمــع المعطيــات

بينهــا، بالمقارنــة القيــام أجــل مــن ووصفهــا

نماذجهــا إلــى الوصــول بغيــة وتفكيكهــا،

فــي عليــه اعتمــدت فالوصــف التفســيرية،

مقارنتهــا ثــم والمعلومــات، الحقائــق تجميــع

إلــى تعميمــات مقبولــة، وتفســيرها للوصــول

اإلشــكاالت دراســة فــي وظفتــه والتحليــل

مــن وتركيبــا، وتقويمــا تفكيــكا العلميــة،

ونقدهــا وتحليلهــا األفــكار اســتخاص أجــل

نتائجهــا. واســتعراض

أوال:الواقع أساس مرجعي في

االجتهاد والفتوى

تحقيــق يبتغــي الشــرعي النــص كان إذا

الشــريعة أن مــن انطاقــا للعالميــن مقاصــد

العاجــل فــي المكلفيــن مقاصــد لرعايــة جــاءت

ذلــك إدراك فــي أهميتــه للواقــع فــإن واآلجــل،

ألنــه محــل التنزيــل، وإهمالــه مــؤذن بخطــر كبيــر،

»فــإذا كان مــن المقــرر بداهــة أن طبيعــة االجتهــاد

متخصصــة، مقتــدرة ملكــة ذو متفهــم عقــل

ونــص تشــريعي مقــدس يتضمــن حكمــا ومعنــى

يســتوجبه، أو مقصــدا يستشــرفه، وتطبيــق علــى

موضــوع النــص أو متعلــق الحكــم، ونتيجــة متوخاة

مــن هــذا التطبيــق، فــإن كل أولئــك يكــون نظريــا ما

لــم تكــن الواقعــة أو الحالــة المعروضــة قد درســت

درســا وافيــا، بتحليــل دقيــق لعناصرهــا، وظروفهــا

ومابســاتها، إذ التفهــم للنــص التشــريعي يبقــى

فــي حيــز النظــر، وال تتــم ســامة تطبيقــه إال إذا كان

بمكوناتهــا وظروفهــا، للوقائــع واع تفهــم ثمــة

وتبصــر بمــا عســى أن يســفر عنــه التطبيــق مــن

مــن المتوخــاة العلميــة الثمــرة ألنهــا نتائــج،

»فقيمــة وعليــه كلــه«))(، التشــريعي االجتهــاد

مــن يؤتــي فيمــا تنحصــر إنمــا عمليــا االجتهــاد

التشــريع مقاصــد تحقــق تطبيقــه، فــي ثمــرات

وأهدافــه فــي جميــع مناحــي الحيــاة«)4(. فمــا هــو

الواقــع الــذي أتحــدث عنــه إذا؟

))( الدرينــي، فتحــي »المناهــج األصوليــة فــي االجتهــاد بالــرأي للطباعــة الرســالة مؤسســة اإلســامي«، التشــريع فــي

ص)1-)1. 4)14ه/)01)م، ط)، لبنــان، بيــروت، والنشــر،

)4( نفسه، ص)1.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 18

الواقــع لغــة، مــن الفعــل وقــع، يقــع، وقوعــا،

أصلــه مــن الســقوط، يقــول ابــن فــارس »)و.ق.ع(

إليــه يرجــع واحــد أصــل والعيــن والقــاف الــواو

وقــع يقــال: شــيء، ســقوط علــى يــدل فروعــه،

الشــيء وقوعــا فهــو واقــع«))(، ومنــه اســتعمل

مجــازا فــي ثبــوت الشــيء وتحققــه علــى حالــة مــا،

القــول ووقــع وأنزلــه أحدثــه األمــر »وقــع يقــال

وجــب«))(. إذا والحكــم

أمــا مصطلــح الواقــع فــي االصطــاح الفقهــي،

فرغــم أن المدونــات األصوليــة لــم تتطــرق لحــده

كغيــره مــن المصطلحــات، إال أنه حاضر في الشــق

الفــروع فــي بالفقــه خصوصــا المرتبــط العملــي

الفقهيــة المرتبطــة بالواقــع، ومــن ثــم فرغــم عــدم

وجــود تعريــف للمصطلــح فــي أمهــات المدونــات

إذ فيهــا، غائــب غيــر حاضــر أنــه إال األصوليــة،

»أغلــب الكتــب األصوليــة تبــدأ الــكام عــن عناصــر

مهمــة فــي العمليــة األصوليــة، وهــي المقدمــات

فيــه والمحكــوم والحاكــم، )الحكــم، األساســية

ال عــادة واألصوليــون عليــه(، والمحكــوم بــه، أو

يتكلمــون عــن عنصــر مهــم فــي هــذه التقســيمات

األصوليــة وهــو عنصــر الواقــع، وال يعنــي أنهــم ال

ــم ــل إنهــم ل ــوه، ب يهتمــون بالواقــع أو أنهــم أهمل

يتكلمــوا عــن الواقــع فــي كتــب األصــول علــى اعتبــار

المجتهــد، ويحــدده الزمــن، يحــدده مــا هــذا أن

ذلــك علــى والدليــل ذهنــه، فــي حاضــرا ويكــون

زكريــاء بــن بــن فــارس أبــو الحســين أحمــد ابــن فــارس، )((محمــد الســام عبــد تحقيــق: اللغــة« مقاييــس »معجــم هــارون، اتحــاد الكتــاب العــرب، طبعــة ))14ه/)00)م ،مادة:)وقــع(،

ص))4-1)1. ج)،

))( ابــن منظــور، محمــد بــن مكــرم األفريقــي المصــري، »لســان العــرب«، دار صــادر بيــروت، ط1،)د ن(، مــادة :)وقــع(، ج8، ص)40.

الفــروع الفقهيــة الكثيــرة، التــي كان للواقــع حضــور

كبيــر عنــد بيــان الحكــم الشــرعي«)7( فيهــا.

»فقــد بقولــه الخادمــي أكــده مــا وهــذا

اســتحضره الســلف والخلــف بتفــاوت مــن حيــث

مقــدار الفهــم ودرجات صوابــه وماءمته للحقيقة،

ورتبــوا عليــه أحكامهــم وفتاواهــم وآراءهــم، وأبرزوا

ــر الزمــان ــر األحــكام بتغي بجــاء تحقــق قاعــدة تغي

والمــكان والحــال، وتبدلهــا -فيمــا يقبــل التبديــل

الحياتــي الواقــع بتبــدل القواطــع- فــي وليــس

وحوادثــه«)8(. وظواهــره ومشــكاته

ونتيجــة لعــدم وجــود تعريــف بالحــد لمصطلــح

الواقــع فــي أمهــات المؤلفــات األصوليــة، تحــدث

ــة ــه، فنجــد الشــيخ بيــن بي ــن عن بعــض المعاصري

يقــول فيــه »الواقــع هــو الوجــود الخارجــي الحقيقــي

ــذي يمكــن أن يكــون محققــا للوجــودات األخــرى ال

عبــد وعرفــه والمكتوبــة«))(، واللســانية الذهنيــة

المجيــد النجــار بقولــه »نعنــي بالواقــع مــا تجــري

ــاة النــاس، فــي مجاالتهــا المختلفــة، مــن عليــه حي

مــن عليــه تســتقر ومــا المعيشــة، فــي أنمــاط

عــادات وتقاليــد وأعــراف، ومــا يســتجد فيهــا مــن

نــوازل وأحــداث«)10(.

الســياق »هــو الواقــع بقولــه آخــر وعرفــه

التنزيــل »فقــه المعمــاري أحمــد حســن مرعــي، أحمــد )7(دراســة أصوليــة تطبيقيــة«، مركــز نمــاء للبحــوث والدراســات،

ص87. )01)م، ط1، ،)14( شــرعية دراســات بيــروت،

المقاصــدي »االجتهــاد مختــار بــن الديــن نــور الخادمــي، )8(ــاب األمــة، العــدد))، ط1، )141ه، ــه ضوابطــه مجاالتــه«، كت حجيت

ص))-)). ج)،

))( ابــن بيــة »تنبيــه المراجــع علــى تأصيــل فقــه الواقــع«، مرجــع ســابق، ص11.

وتنزيــا«، التديــن فهمــا المجيــد »فــي فقــه عبــد النجــار، )10(ص111. ج1، )8)1م، ،((-(( العــدد األمــة، كتــاب سلســلة

19أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

التاريخــي الــذي يعيــش فيــه مجتمــع مــا، وينــدرج

فــي ذلــك عنصــر الزمــان والمــكان، والبنيــة التحتيــة،

المجتمــع فئــات ومختلــف الفوقيــة، والبنيــة

والماديــة«)11(. المعنويــة ومؤسســاته

أنهــا الســابقة التعريفــات مــن والماحــظ

الواقــع، العــام لمصطلــح التعريــف عــن تتحــدث

وليــس قصــره علــى مجــال الــدرس الفقهــي محــل

المصطلــح هــذا ألن األصولــي، المنهــج تنزيــل

يتداخــل النظــر إليــه مــن زوايــا علــوم مختلفــة، بينمــا

بإضافــة تقييــده تــم األصوليــة الدراســات فــي

مصطلــح يميــزه وهــو مصطلح فقه الواقع، والذي

يعنــى بالواقــع الــذي لــه تأثيــر فــي األحــكام الشــرعية،

وليــس مطلــق مصطلــح الواقــع، وهــذا مــا أكــده

الشــيخ بــن بيــة فــي معــرض بيانــه تأثيــر الواقــع فــي

األحــكام الشــرعة عندمــا قــال »معنــاه أن الواقــع

شــريك فهــو األشــياء، علــى الحكــم فــي أثــر لــه

فــي اســتنباط الحكــم، كمــا دلــت عليــه النصــوص

الراشــد«))1(. الســلف وممارســة واألصــول

المنهــج فــي الواقــع مرجعيــة دراســة إن

بعــض تعريــف علــي تفــرض األصولــي،

عنــد المرجعيــة لهــذه المكونــة المصطلحــات

العاقــة وحــدود التمايــز بيــان مــع األصولييــن

الواقــع فقــه هــي المصطلحــات وهــذه بينهــا،

وفقــه التنزيــل، وإذا كان المصطلحــان يشــتركان

فــي لفــظ الفقــه فــي كليهمــا، فســأبدأ بتعريفــه

إليهمــا. الرجــوع قبــل

المــدار دار والواقــع«، األصــول »جــدل حمــادي ذويــب، )11(ص1). )00)م، ط1، بيــروت، االســامي،

))1( ابــن بيــة »تنبيــه المراجــع علــى تأصيــل فقــه الواقــع«، مرجــع سابق، ص11.

الفقــه فــي اللغــة يطلــق علــى »إدراك الشــيء

بالديــن العلــم بــه وفهمــه، وغلــب علــى والعلــم

مــر االصطــاح وفــي وشــرفه«))1(، لســيادته

كمــا شــمولي عــام تعريــف بمرحلتيــن، تعريفــه

هــو عنــد اإلمــام أبــي حنيفــة، فهــو عنــده »معرفــة

النفــس مــا لهــا ومــا عليهــا«)14(، وهــذا التعريــف

شــامل لعلــم األحــكام الشــرعية وغيرهــا، وتعريــف

خــاص وهــو »العلــم باألحــكام الشــرعية العمليــة

وهــو التفصيليــة«))1(، أدلتهــا مــن المكتســب

العمليــة الشــرعية األحــكام بعلــم المخصــوص

غيرهــا. دون

إن مفهــوم فقــه التنزيــل وإن لــم يتــم تعريفــه

بالحــد عنــد المتقدميــن، إال أنــه كان حاضــرا ممــا

يؤكــد مراعاتهــم لــه فــي تنزيــل الفقــه علــى الواقــع،

يقــول ابــن القيــم »والفقــه تنزيــل المشــروع علــى

الواقــع«))1(، كمــا أن اإلمــام الشــاطبي مــن األوائــل

الذيــن احتفــوا بهــذا المصطلــح ألن مشــروعه فــي

علــم األصــول عامــة وفــي نظريــة المقاصــد خاصــة

يرتكــز عليــه، وال يقــوم إال باالعتمــاد عليــه، حيــث

يقــول »إن الدليــل المأخــوذ بقيــد الوقــوع معنــاه

))1( ابــن فــارس »معجــم مقاييــس اللغــة«، مــادة )فقــه(، ج4، )44.ابــن منظــور »لســان العــرب«، ج)1، ص))).

)14( التفتازانــي، ســعد الديــن مســعود بــن عمــر »شــرح التلويــح علــى التوضيــح لمتــن التنقيــح فــي أصــول الفقه«تحقيــق زكريــا عميــرات، دار الكتــب العلميــة بيروت، ط1، )141ه/)))1م، ج1، ص)1.

))1( ابــن الســبكي، تــاج الديــن بــن تقــي الديــن علــي عبــد الكافــي »اإلبهــاج فــي شــرح المنهــاج علــى منهــاج الوصــول إلــى علــم األصــول للبيضــاوي«، دار الكتــب العلميــة بيــروت، ط1، 1404ه،

ج1، ص8).

))1( ابــن قيــم الجوزيــة، محمــد بــن أبــي بكــر بــن أيــوب بــن ســعد شــمس الديــن »زاد المعــاد فــي هــدي خيــر العبــاد«، مؤسســة ط7)، الكويــت، اإلســامية، المنــار مكتبــة بيــروت، الرســالة،

)141ه/4))1م، ج)، ص)47.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 20

المعيــن«)17(، ومنهــا قولــه المنــاط التنزيــل علــى

العــرب فــي أقوالهــا وأفعالهــا »معرفــة عــادات

فــي وقــال التنزيــل«)18(، حالــة أحوالهــا ومجــاري

موضــع آخــر » المقصــود مــن وضــع األدلــة تنزيــل

حســبها«))1(. علــى المكلفيــن أفعــال

أمــا مــن المعاصريــن فــا حاجــة للخــوض فــي

اختــاف ألفاظهــم فــي تعريفــه وإن كانــوا يتفقــون

فــي المعنــى، حيــث نجــد قولهــم فيــه »أنــه يعنــي

الشــرعية الكليــات تطبيــق فــي الدقيــق الفهــم

ــن المشــخصة، مــع ــى واقــع المكلفي المجــردة عل

مراعــاة تحقيــق مقاصدهــا ومآالتهــا«)0)(.

النظــر مــن ينطلــق التنزيــل فقــه كان وإذا

ــة ــك بمراعــاة ثاث ــل لفهمــه، وذل ــق فــي الدلي الدقي

عناصــر مهمــة فــي التنزيــل هــي الحكــم والمكلــف

علــى الحكــم تنزيــل يقتضيــه مــا وفــق والواقــع،

المحــل، فــإن فقــه الواقــع ينطلــق مــن خصائــص

الواقــع بدراســته ليــس مــن أجــل تبريــره، بــل مــن

الشــرعية، المقاصــد مــع ليتوافــق تجديــده أجــل

ولذلــك »تعــد دراســة الواقــع اإلنســاني مــن أعقــد

الدراســات وأعســرها، وذلــك لطبيعــة ذلــك الواقــع

وتداخــل معطياتــه وخيوطــه وظواهــره، وتســارع

أحداثــه وقضايــاه ونوازلــه، ولذلــك فــإن فهمــه يعــد

الحكــم إذ االجتهــاد، فــي عمليــة جــدا أمــرا مهمــا

)17( الشــاطبي، أبــو إســحاق إبراهيــم بــن موســى بــن محمــد الشــريعة«، أصــول فــي »الموافقــات الغرناطــي اللخمــي تحقيــق: أبــو عبيــدة مشــهور بــن حســن آل ســلمان، دار ابــن

ص))). ج)، 7))1م، 1417هـــ/ ،1 الطبعــة عفــان،

)18( نفسه، ج4، ص4)1.

))1( نفسه، ج)، ص17).

تطبيقيــة«، أصوليــة دراســة التنزيــل »فقــه المعمــاري )(0(ص)4. ســابق، مرجــع

أهــل يقــول كمــا تصــوره، عــن فــرع الشــيء عــن

العلــم والمنطــق، وكلمــا كان الفهــم لطبيعــة ذلــك

الواقــع قريبــا مــن الصــواب، كان تطبيــق األحــكام

كذلــك«)1)(. ومقاصدهــا مراميهــا وتحقيــق

يؤكــد الواقــع بفقــه المتقدميــن اهتمــام إن

ضرورتــه فــي تنزيــل األحــكام، يقــول ابــن القيــم »ال

يتمكــن المفتــي وال الحاكــم مــن الفتــوى والحكــم

فهــم أحدهمــا الفهــم، مــن بنوعيــن إال بالحــق

الواقــع والفقــه فيــه، واســتنباط علــم حقيقــة مــا

وقــع بالقرائــن واألمــارات والعامــات حتــى يحيــط

بــه علمــا، والنــوع الثانــي فهــم الواجــب فــي الواقــع،

وهــو فهــم حكــم هللا الــذي حكــم بــه فــي كتابــه أو

علــى لســان رســوله فــي هــذا الواقــع، ثــم يطبــق

أحدهمــا علــى اآلخــر، فمــن بــذل جهــده واســتفرغ

وســعه فــي ذلــك لــم يعــدم أجريــن أو أجــرا، فالعالم

مــن يتوصــل بمعرفــة الواقــع والتفقــه فيــه، إلــى

معرفــة حكــم هللا ورســوله«)))(.

ــن أهميتــه، وأكــد أن هــذا كمــا أن الشــاطبي بي

النــوع مــن االجتهــاد يســتحيل انقطاعــه عكــس

ارتفــاع فــرض »فلــو االجتهــاد، أنــواع مــن غيــره

هــذا االجتهــاد لــم تتنــزل األحــكام الشــرعية علــى

ولذلــك الذهــن«)))(، فــي إال المكلفيــن أفعــال

يقــول فيــه »قــد يتعلــق االجتهــاد بتحقيــق المنــاط،

فــا يفتقــر فــي ذلــك إلــى العلــم بمقاصــد الشــارع،

ــة، ــم العربي ــى معرفــة عل ــه إل ــه ال يفتقــر في كمــا أن

ضوابطــه حجيتــه المقاصــدي »االجتهــاد الخادمــي )(1(ص)). ج)، مجاالتــه«،

ــة، أبــو عبــد هللا محمــد بــن أبــي بكــر أيــوب )))( ابــن قيــم الجوزيالزرعــي »إعــام الموقعيــن عــن رب العالميــن«، تحقيق:طــه عبــد

الــرؤوف ســعد،دار الجيــل، بيــروت، طبعــة )7)1م، ج1، ص87.

)))( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص)1.

21أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

ألن المقصــود مــن هــذا االجتهــاد إنمــا هــو العلــم

بالموضــوع علــى مــا هــو عليــه، وإنمــا يفتقــر فيــه

إلــى العلــم بمــا ال يعــرف ذلــك الموضــوع إال بــه،

مــن حيــث قصــدت المعرفــة بــه، فــا بــد أن يكــون

المجتهــد عارفــا ومجتهــدا مــن تلــك الجهــة التــى

ينظــر فيهــا، ليتنــزل الحكــم الشــرعي علــى وفــق

المقتضــى«)4)(. ذلــك

اعتبــاره فــي تتمثــل الواقــع فقــه أهميــة إن

إلــى يفضــي ألنــه األحــكام، تنزيــل فــي »أساســا

ــر مــا إذا كان الفعــل اإلنســاني المحقــق فيــه تقدي

ينــدرج تحــت هــذا الحكــم المعيــن لينــزل عليــه، أو

ينــدرج تحــت حكــم آخــر فينــزل عليــه ذلــك الحكــم

اآلخــر، وتقديــر مــا إذا كان هــذا الفعــل مســتجمعا

للشــروط التــي تجعــل تنزيــل الحكــم عليــه مؤديــا

إلــى تحقيــق مقصــد الشــرع فينــزل، أو غيــر محقــق

فــا ينــزل«)))(.

بيــن الوســطى الحلقــة هــو الواقــع فقــه إن

فقــه الخطــاب الشــرعي وفهمــه، وبيــن فقــه تنزيــل

»فالواقــع وعليــه وتطبيقــه، الشــرعي الخطــاب

األســاس، يمثــل شــرطه التنزيــل لفقــه بالنســبة

تكليــف يوجــد ال ألنــه فيــه، ينــزل الــذي وميدانــه

ــف مجــرد عــن واقعــه، فــكان النظــر ــى مكل ــزل عل ين

منــاص ال مهمــا أمــرا التنزيــل عنــد الواقــع إلــى

فيــه يتخــذ الفقــه أصــول علــم كان وإذا منــه«)))(،

)4)( نفسه، ج)، ص8)1.

)))( النجــار عبــد المجيــد »خافــة اإلنســان بيــن الوحــي والعقــل، بحــث فــي جدليــة النــص والعقــل والواقع«المعهــد العالمــي ط)، ،( االســامية المنهجيــة سلســلة االســامي، للفكــر

ص1)1. )141ه/)))1م،

تطبيقيــة«، أصوليــة دراســة التنزيــل »فقــه المعمــاري )(((ص)8. ســابق، مرجــع

النظــر العقلــي بعديــن أحدهمــا يتجــه نحــو النــص

وفهمــه، والثانــي نحــو الواقــع الخارجــي لتحديــد محــل

الحكــم وتحقيــق مناطــه، »ففقــه التنزيــل إذا يتعلــق

بالوصــل بيــن الوحــي والواقــع، علــى معنــى تبييــن

المســالك والكيفيــات التــي يأخــذ بهــا الوحــي مجــراه

نحــو الوقــوع، ويأخــذ بهــا الواقــع مجــراه نحــو التكيــف

بإلزامــات الوحــي«)7)(، وقــد ســمى اإلمــام الشــاطبي

هــذا الــدور االجتهــادي للعقــل )بتحقيــق المنــاط(،

وقــال فيــه أنــه »ال يمكــن أن ينقطــع حتــى ينقطــع

الســاعة)...(، قيــام عنــد وذلــك التكليــف، أصــل

لكــن الشــرعي، بمدركــه الحكــم يثبــت أن ومعنــاه

النظــر فــي تعييــن محلــه«)8)(. يبقــى

إن »المواءمــة بيــن النــص والواقــع واعتبــاره

عنــد التنزيــل، يكــون مــن خــال فقــه التنزيــل الــذي

هــو أعــم مــن فقــه الواقــع، ألن فقــه التنزيــل هــو

الواقــع وفقــه الواقــع، إلــى النــص مــن انبعــاث

انبعــاث مــن الواقــع إلــى النــص«)))(، وكاهمــا هــو

المعبــر عنــه بمرجعيــة الواقــع.

مــن شــقين تشــمل إذا الواقــع فمرجعيــة

الدراســة »فقــه واقــع النــص، وفقــه واقــع تطبيــق

النــص، إذ إن فقــه واقــع النــص يبيــن لنــا األوصــاف

الحكــم تقريــر ســياق فــي ذكــرت التــي المؤثــرة

والمقصــود إعمالــه، عــدم أو إعمالــه المقتضــي

بــه اإلحاطــة بفقــه النصــوص تنــزال وورودا، وصفــة

واســتخراجا للعلــل المؤثــرة والمقاصــد التــي جــاء

الوحــي بيــن اإلنســان »خافــة المجيــد عبــد النجــار، )(7(ص)11. ســابق، مرجــع والعقــل«،

)8)( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص11-)1.

تطبيقيــة«، أصوليــة دراســة التنزيــل »فقــه المعمــاري )(((ص)8. ســابق، مرجــع

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 22

النــص لتحقيقهــا، أمــا فقــه واقــع تطبيــق النــص

فيشــمل: الظــروف، واألحــوال النازلــة، التي يطالب

لألوصــاف اســتظهارا باســتكناهها، الفقيــه

يــدار عليهــا الحكــم، فالهــدف مــن التــي المؤثــرة

ذلــك هــو تطبيــق الحكــم الشــرعي ضمــن الواقــع

المعــاش، وكيفيــة النظــر االجتهــادي فــي التطبيــق

فــي إطــار الواقــع هــو مــا اصطلــح عليــه بفقــه واقع

التطبيــق«)0)(، ومجمــوع األمرين:فقــه النــص وفقه

ــة الواقــع. تطبيقــه هــو مــا أجملتــه فــي مرجعي

وبنــاء عليــه يمكــن القــول إن مرجعيــة الواقــع

كمــا أســلفت تشــمل شــقين همــا: واقــع الدليــل

فــي المتازمــان الشــقان وهمــا تنزيلــه، وواقــع

النــص دون فهــم أن فقــه األحــكام »ذلــك فقــه

نصــف يمثــل التنزيــل، محــل يعــد الــذي الواقــع

ــف عندهــا توق التــي الحقيقــة أو نصــف الطريــق

الكثيــر مــن الفقهــاء فــي هــذا العصــر، والتــي ســوف

ال تحقــق شــيئا إذا لــم نفهــم الواقــع«)1)(.

إن القصــد مــن مرجعيــة الواقــع فــي البحــث

جعلهــا وال مســتقلة، مرجعيــة جعلهــا ليــس

الشــرعية، األحــكام الســتمداد بديلــة مرجعيــة

ترشــيد فــي هــو الواقــع عمــل مجــال وإنمــا

مــن كثيــر يدركــه لــم مــا الشــريعة، وهــذا تنزيــل

مرجعيــة إلعــاء انبــروا الذيــن المعاصريــن

لتبريــر فاعتمــدوا الوحــي، مرجعيــة علــى الواقــع

دعواهــم علــى ثاثــة أســس لذلــك، أولهــا خضــوع

األحــكام فــي حتــى للواقــع الفقهــي االجتهــاد

)0)( حصــوة، ماهــر حســن »فقــه الواقــع وأثــره فــي االجتهــاد«، المعهــد العالمــي للفكــر االســامي، ط1، 0)14ه/)00)م، ص)0-1)،

بتصــرف.

)1)( الخادمي »االجتهاد المقاصدي«، مرجع سابق، ج)، ص18.

القطعيــة، وهــو مــا أقرتــه اجتهــادات عمــر رضــي

هللا عنــه فــي نصــوص مــن الوحــي قطعيــة الــورود

نصــوص اختصــاص دعــوى وثانيهــا والداللــة،

الوحــي بظــروف نزولــه وأســبابه، وتغيرهــا يعــود

علــى هــذه النصــوص بالتغييــر حســب متطلبــات

بيــن التناقــض بدعــوى القــول والثالــث الواقــع،

الوحــي والواقــع، وهــي كلهــا مزاعــم هدفهــا إعــاء

مرجعيــة الواقــع علــى مرجعيــة الوحــي، وســأوضح

عليهــا. وأرد دعواهــم

للواقــع، الوحــي تبعيــة بعضهــم بــرر لقــد

العمريــة)))( االجتهــادات ببعــض فاستشــهدوا

فــي عــدم تنزيــل بعــض الحــدود واألحــكام الشــرعية

زعمهــم حســب دليــل وهــذا للواقــع، مراعــاة

لخضــوع األحــكام للواقــع، فمرجعيــة الواقــع هــي

يقــول حســن لهــا كمــا تبــع األصــل ومــا دونهــا

فــي كان ولــو حتــى مجتهــد يخطــئ »وال حنفــي:

اجتهــاده فــي واقعــة نــص ألن للواقــع األولويــة

مؤقتــا النصــوص إيقــاف ويمكــن النــص، علــى

كمــا أوقــف عمــر حــد الســرقة عــام الرمــادة، ونــص

اإلســام«)))(، قــوي أن بعــد قلوبهــم المؤلفــة

ــه، كمــا ــع ل ــره تاب ــه فالواقــع هــو األصــل وغي وعلي

قــال نصــر حامــد أبــو زيــد »الواقــع إذن هــو األصــل

وال ســبيل إلهــداره، مــن الواقــع تكــون النص، ومن

خــال ومــن مفاهيمــه، صيغــت وثقافتــه لغتــه

فالواقــع داللتــه، تتجــدد البشــر بفعاليــة حركتــه

)))( منهــا اجتهــادات عمــر ابــن الخطــاب رضــي هللا عنــه فــي المؤلفــة ســهم ووقــف المجاعــة أيــام الســرقة حــد وقــف

قلوبهــم.

)))( حنفــي، حســن »مــن النــص إلــى الواقــع محاولــة إلعــادة بنــاء علــم أصــول الفقــه«، بيــروت: دار المــدار اإلســامي، ط

ص))4. ج)، )00)م،

23أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

أوال والواقــع ثانيــا، والواقــع أخيــرا، وإهــدار الواقــع

والداللــة، المعنــى ثابــت جامــد نــص لحســاب

النــص يتحــول أســطورة، إلــى كليهمــا يحــول

إلــى أســطورة عــن طريــق إهــدار بعــده اإلنســاني

الغيبــي«)4)(. بعــده علــى والتركيــز

هــذه أن الدعــاوى هــذه مثــل عــن غــاب لقــد

األحــكام االجتهاديــة التــي عمــل بهــا بعــض الصحابــة

األحــكام ألن الوحــي، مــن مرجعيتهــا اســتمدوا

ــك الشــرعية كمــا أن لهــا منطوقــا للحكــم، لهــا كذل

فمراعــاة التنزيــل، حــال تبتغــى ومقاصــد معــان

الواقــع مســلك اجتهــادي تقــاس بــه األحــكام حــال

الشــرعي مقصدهــا تحقــق هــل فينظــر تنزيلهــا،

منهــا أم ال، ومــن ثــم فاألحــكام ال تنــزل فــي الواقــع

تنزيــا آليــا فــي جميــع الظــروف واألحــوال بعيــدا عــن

الواقــع، بــل مراعــاة فقــه الواقــع مــن شــروط التنزيل

بعــض عــن فالعــدول ولذلــك لألحــكام، الصحيــح

األحــكام وترجيــح بعضهــا ليــس انتصــارا لمرجعيــة

الواقــع علــى الوحــي، وإنمــا هــو نتيجــة عــدم تحقــق

المســالك مــن الواقــع، ألنــه فــي التنزيــل شــروط

المعتبــرة كمــا ســأحدده الحقــا. االجتهاديــة

بعــض تطبيــق عــن العــدول هــذا أن كمــا

إعــاء فــي هــؤالء بــه استشــهد ممــا األحــكام

بــأن عنــه يــرد النــص، علــى الواقــع مرجعيــة

مــن أكثــر مدركيــن كانــوا الصحابــة مجتهــدي

تبتغــى، مقاصــد الشــرعية لألحــكام أن غيرهــم

وغايــات ترتجــى، كيــف ال وهــم قــد عايشــوا النبــي

صلــى هللا عليــه وســلم فــي الفتــرة المكيــة التــي

)4)( أبــو زيــد، نصــر حامــد »نقــد الخطــاب الديني«ســينا للنشــر، القاهــرة، ط)، 4))1م، ص0)1.

دامــت ثاثــة عشــر ســنة، لــم تطبــق فيهــا بعــض

األحــكام الشــرعية، وعمــل الدعــوة االســامية فــي

هــذه الفتــرة ارتكــز علــى بنــاء اإلنســان اســتعدادا

لتقبــل األحــكام، فبنــاء واقــع اإلنســان قبل تشــريع

الصحابــة تربيــة فــي نبــوي منهــج هــو األحــكام

أن علــى يــدل مبــادئ اإلســام، ممــا وتعليمهــم

الواقــع هــو األولــى بالتغييــر ليتوافــق مــع األحــكام

العكــس. وليــس الشــرعية

أن عليهــم هللا رضــوان الصحابــة أدرك لقــد

ــه إذا ــر شــرعا، وعلي ــة واقــع الحكــم أمــر معتب تهيئ

تطبيــق يــؤدي بحيــث الحكــم تنزيــل واقــع تغيــر

الحكــم إلــى نقيــض مقصــده، فإنــه ال يتــم إلغــاء

حكــم األصــل كمــا يدعــي دعــاة االنتصــار للواقــع،

يتــم العــدول عــن حكــم األصــل حتــى يتــم وإنمــا

تغييــر الواقــع مــن جديــد ليتقبلــه، ومــن ثــم ال مجــال

لدعــوى االنتصــار لمرجعيــة الواقــع علــى مرجعيــة

الوحــي فيمــا ذهــب إليــه هــؤالء.

ــرى بعــض دعــاة ــذي انب ــي ال إن المســلك الثان

هــي الوحــي، علــى الواقــع لمرجعيــة االنتصــار

وهــو ثقافــي، واقــع نتــاج الشــريعة إن قولهــم

بأســباب االســامي التــراث فــي عنــه المعبــر

النــزول، فالحكــم الشــرعي خاضــع لظــروف الواقــع

الواقــع عــن إال اإلجابــة يمكنــه وال االجتماعــي،

الــذي نشــأ فيــه، يقــول حســن حنفــي »الوحــي ذاتــه

ــة وعشــرين ــان ثاث ــت إب ــات نزل مجموعــة مــن اآلي

عامــا، كل آيــة أو كل مجموعــة مــن اآليــات تمثــل

حــا لموقــف معيــن فــي الحيــاة اليوميــة لفــرد أو

لجماعــة مــن األفــراد، نصــوص الوحــي ليســت كتابــا

أنــزل مــرة واحــدة مفروضــا مــن عقــل إلهــي ليتقبله

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 24

جميــع البشــر، بــل مجموعــة مــن الحلــول لبعــض

التــي تزخــر بهــا حيــاة الفــرد المشــكات اليوميــة

والجماعــة، وكثيــر مــن هــذه الحلــول قــد تغيــرت

اإلنســان مقــدار علــى التجربــة حســب وتبدلــت

وقدرتــه علــى التحمــل، وكثيــر مــن الحلــول لــم تكــن

كذلــك فــي بــادئ األمــر معطــاة مــن الوحــي، بــل

ــم أيدهــا كانــت مقترحــات مــن الفــرد أو الجماعــة ث

وفرضهــا«)))(. الوحــي

نفســه التــراث »أصــول بالقــول يضيــف ثــم

وتغيــرت الواقــع، علــى مبنيــة الوحــي- –وهــو

كلهــا التشــريع وأصــول لــه، طبقــا وتكيفــت

تعقيــل للواقــع وتنظيــر لــه، ولكــن الواقــع القديــم

تخطتــه الشــريعة، وتجــاوزه التشــريع إلــى واقــع

الــذي الحالــي واقعنــا أن حيــن فــي تقدمــا، أكثــر

يقــام التجديــد عليــه لــم يتخطــاه أي تشــريع بعــد،

وتظــل كل التشــريعات أقــل ممــا يحتاجــه، ويظــل

ــه التشــريعات«)))(. ــر ممــا تعطي هــو مرتبطــا ألكث

إن الفهــم الــذي يتبنــاه حســن حنفــي للوحــي

أنــه منتــج ثقافــي، ولذلــك صنفــه ضمــن التــراث

وهــذه وجهــة نظــره فيــه، والتــي ال يوافقــه عليهــا

ــراث اإلســامي، ــر الباحثيــن المنصفيــن فــي الت أكث

لعمــوم الموجــه تعالــى هللا خطــاب فالوحــي

والمــكان الزمــان تأثيــر عــن المنــزه البشــرية

والظــروف واألحــوال، وهــو وإن وافقــت آياتــه واقــع

اإلنســان عصــر التنزيــل، فذلــك ال يعنــي اختصاصــه

لتقبــل تربــوي منهــج هــو وإنمــا الوقائــع، بتلــك

التــراث مــن موقفنــا والتجديــد »التــراث حنفــي، حســن )(((القديــم«، المؤسســة الجامعيــة للدراســات والنشــر والتوزيــع،

ص))1-))1. )141ه/)))1م، ط4،

)))( نفسه، ص7)-8).

األحــكام، »فتزامــن التكاليــف مــع تلــك المناســبات

واألحــداث لــم يكــن إال وســيلة تربويــة غايتهــا تهيئة

النــاس للفهــم واالمتثــال فــي االنتقــال بهــم مــن

مجتمــع الجاهليــة إلــى مجتمــع اإلســام«)7)(، وهــو

كذلــك منهــج لفهــم مقاصــد األحــكام، ألن أســباب

علــل إدراك فــي فائدتهــا لهــا والــورود، النــزول

تشــريع األحــكام، ولوالهــا لنزعــت صفــة الواقعيــة

عــن شــريعة االســام.

أمــا المســلك الثالــث إلعــاء مرجعيــة الواقــع

الوحــي بيــن التعــارض زعــم فهــو الوحــي، علــى

علــم »يتفــق حنفــي حســن يقــول والواقــع،

األصــول مــع الــكام والفلســفة فــي أن كليهمــا

نظريــة عقليــة أو إعمــال للعقــل فــي النــص، إال أنــه

يختلــف عنهمــا فــي اآلتــي: ظهــور الواقــع كطــرف

ــة تكــون ــا عناصــر ثاث مقابــل للنــص، وأصبــح لدين

المنطــق الدينــي وهي:النــص أو الوحــي، والعقــل،

اإليمــان هــو الفكــر موضــوع يعــد لــم والواقــع،

أو الديــن أو الوحــي أو النــص كمــا هــو الحــال فــي

علــم الــكام، أو الفكــرة الغازيــة والحضــارة الدخيلــة

كمــا هــو الحــال فــي الفلســفة، بــل أصبــح موضــوع

الفكــر هــو الواقــع الــذي تعيشــه الجماعــات األولــى،

علــى يحتــوي بطبيعتــه النــص وأن ســيما وال

الواقــع فــي باطنــه، كمــا بيــن األصوليــون ذلــك فــي

طــرق اســتنباط العلــل الثــاث مــن النص:تحقيــق

المنــاط، وتخريــج المنــاط، وتنقيــح المنــاط، لذلــك

حكــم البعــض علــى األصــول بأنــه الفكــر األصيــل

الــذي اســتطاعت الجماعــة األولــى وضعــه، والــذي

يــدل علــى جهدهــا وإعمــال عقلهــا، أمــا نحــن فقــد

العقــل والوحــي«، مرجــع بيــن النجــار »خافــة اإلنســان )(7(ص)10. ســابق،

25أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

مســتقا واعتبرنــاه واقعــه عــن النــص فصلنــا

بذاتــه يحتــوي علــى حكــم بصــرف النظــر عــن الواقــع

الــذي يمكنــه أن يتقبــل هــذا الحكــم«)8)(.

إن مــا جــاء بــه حســن حنفــي وإن كان كثيــر مــن

األصولييــن يتفقــون معــه فــي مــا آل إليــه الــدرس

األصولــي المعاصــر مــن فصــل الواقــع عــن النــص،

ومــا نتــج عنــه مــع تعســف فــي تنزيــل األحــكام علــى

الواقــع، إال أن الكثيــر ال يشــاطره الــرأي في الفصل

نقيــض، طرفــي بجعلهمــا والواقــع الوحــي بيــن

وكأن الحديــث عــن الوحــي هــو بالضــرورة حديــث

عــن نفــي الواقــع، أو أن الحديــث عــن الواقــع هــو

بالضــرورة مناقــض للوحــي، فــي حيــن أن التجربــة

لــم تشــهد هــذه الثنائيــات التاريخيــة االســامية

كمــا شــهدتها التجربــة الغربيــة.

حســن بهــا اســتدل التــي الثانيــة المســألة

حنفــي فــي تبريــر دعــواه هــي قولــه بتبعيــة الوحــي

بــأن يــرد عنهــا دعــوى الواقــع، وهــي لمتطلبــات

التصــور االســامي الوحــي والواقــع فــي وظيفــة

بمــا متناقضــة وغيــر التكامــل، تحقــق مختلفــة

فــي الواقــع وظيفــة التنافــر،ألن زعــم يحقــق

حــال النــص ــل تعق هــي اإلســامي المنهــج

النــص حســب اعــادة صياغــة وليســت التنزيــل،

التلقــي فــي الوحــي ثــم فمرجعيــة ومــن الواقــع،

التنزيــل كاهمــا يحققــان الواقــع فــي ومرجعيــة

التكامــل لوحــدة مصدريهمــا، وعليــه فتداخلهمــا

ال يلغــي ســلطة النــص علــى الواقــع فــي الفهــم،

وهــذا مــا عبــر عنــه األصوليــون بقاعــدة »العبــرة

بعمــوم اللفــظ ال بخصــوص الســبب« فالشــريعة

)8)( حنفي، حسن »التراث والتجديد«، مرجع سابق، ص))1.

ال أنــه بمعنــى عامــة، كليــة المكلفيــن بحســب

يختــص بالخطــاب بحكــم مــن أحكامهــا الطلبيــة

بعــض دون بعــض، وال يحاشــي مــن الدخــول تحــت

أحكامهــا مكلــف البتــة«)))( كمــا قــال الشــاطبي.

الــدرس فــي الواقــع بمرجعيــة االعتــداد إن

األصولــي أمــر حاصــل بمعاينــة مناهــج العلمــاء في

ذلــك قديمــا وحديثــا، لكــن الزعــم مــن قبــل بعــض

المعاصريــن بأولويــة الواقــع علــى النــص فيــه كثيــر

مــن عــدم إدراك وظيفــة كل مــن الوحــي والواقــع

فاالجتهــاد عليــه وبنــاء ، االجتهــاد منهــج فــي

للواقــع النظــر عــن إطاقــا ينفــكان ال والفتــوى

ألنــه محــل التنزيــل.

وإذا تقــررت لدينــا حقيقــة مرجعيــة الواقــع فــي

االجتهــاد والفتــوى، فإننــا بحاجــة إلــى دراســة أثــر

مرجعيــة الواقــع فــي فقــه الدليــل الشــرعي، ثــم أثــر

مرجعيــة الواقــع فــي منهجيــة االســتدالل.

ثانيا:مرجعية الواقع في فقه

الدليل الشرعي

النــزول ســبب ذكــر أن البعــض ادعــى لقــد

والــورود ال فائــدة منــه، وأنــه ال طائــل تحــت هــذا

نظرهــم وأخطــأ التاريــخ، مجــرى لجريانــه الفــن

فــي ذلــك حيــث رد اإلمــام الســيوطي عنهــم بذكــر

منهــا«: فوائــده

تشــريع 9 علــى الباعثــة الحكمــة وجــه معرفــة

الحكــم.

)))( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص407.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 26

ومنهــا أن اللفــظ قــد يكــون عامــا ويقــوم الدليــل 9

قصــر الســبب عــرف فــإذا تخصصــه، علــى

التخصيــص علــى مــا عــدا صورتــه، فــإن دخــول

باالجتهــاد وإخراجهــا الســبب قطعــي صــورة

ممنــوع.

وإزالــة 9 المعنــى علــى الوقــوف ومنهــا

. )4 0 ( » ل شــكا إل ا

فهــم فــي المهمــة المرتكــزات مــن إن

أســباب ضــوء فــي وتنزيلــه الشــرعي الخطــاب

نزولــه ووروده، فــا يخفــى علــى دارس هــذا العلــم

مرتبطــة الشــرعية، النصــوص مــن كثيــرا أن

تشــريع إلــى دعــت التــي األســباب مــن بســبب

الحكــم للواقعــة المحــددة، إمــا عــن طريــق ســؤال

تلــك أن معرفــة ، وال شــك أو واقعــة أو قصــة

األســباب تعيــن فــي التعــرف علــى جملــة الغايــات

أي لتحقيقهــا، ألن النــص جــاء التــي والمقاصــد

ــه مــن فهــم عميــق ودقيــق ــد في حكــم شــرعي ال ب

أوال، الخطــاب واقــع ومســتلزمات لمابســات

ثــم واقــع تنزيــل حكمــه فــي الوقائــع المســتجدة

ثانيــا، وبذلــك »يصبــح ســبب الــورود نوعــا مــن فقــه

وأهميــة إدراك علــى المجتهــد وإعانــة المحــل،

للتنزيــل«)41(. نفســها والظــروف الشــروط توفــر

فــإدراك واقــع الدليــل الشــرعي هــو الســبيل

وواقــع الخطــاب واقــع بيــن المجتهــد لموازنــة

تنزيلــه، ومــن هــذا المنطلــق فــإن الســياق المقامي

لــه أهميتــه فــي فهــم مقاصــد النصــوص الشــرعية

والمســاعدة فــي حســن تنزيلهــا، لكــن المؤلفــات

تحليــل الحديــث ورود »أســباب ســعيد رأفــت محمــد )41(ص1). 1414ه، ط1، ،(7 األمــة كتــاب وتأســيس«،

فوائــد ذكــر عــن أعرضــت مــا كثيــرا األصوليــة

األســباب، وتــم التركيــز علــى مــن لــه األولويــة فــي

للفــظ األولويــة هــل الدليــل، فهــم فــي االعتبــار

بــل إن القاعــدة المشــهورة )العبــرة أم لســببه،

توهــم الســبب( بخصــوص ال اللفــظ بعمــوم

الدارســين لهــذا العلــم بعــدم اهتمــام األصولييــن

أثنــاء باألســباب، يقــول عمــر عبيــد حســنة »إننــا

التنزيــل للنــص علــى الواقــع، الــذي قــد يقتضينــا:

االســتثناء، أو التأجيــل، أو التــدرج فــي الحكــم، فــإن

ــي عليهــا المحــل ــي أن هــذه الحــال الت ــك ال يعن ذل

هــي الصــورة النهائيــة، أو المرحلــة النهائيــة للحكــم

ــق الترقــي، ــة فــي طري الشــرعي، وإنمــا يعنــي مرحل

وتحضيــر المحــل، ليكــون أهــا للحكــم النهائــي)...(،

والمشــكلة كل المشــكلة -فــي نظــري- قــد تكــون

فــي هــذا الفقــه الغائــب، الــذي هــو فقــه التنزيــل

الــذي يمنحــه )ســبب النــزول والــورود(...«))4(.

بعاقــة الفقــه أصــول علمــاء اهتــم لقــد

النصــوص الشــرعية بأســبابها، لكــن هــذا االهتمام

ارتبــط بعاقــة الســبب باللفــظ كمــا ســأوضحه

الخــاص، ولــم يتعــداه إلــى عاقــة الســبب بمعنــى

النــص العــام ومقصــده إال مــع بعــض المتأخريــن

عندمــا تطــورت نظريــة المقاصــد، فكانــت أســباب

مقاصــد إدراك فــي وســيلتها والــورود النــزول

الشــريعة، إن هــذا الوضــع هــو الــذي أوهــم البعض

باألســباب األصولييــن متقدمــي اعتــداد بعــدم

مدوناتهــم، فــي بهــا اهتمامهــم لعــدم نظــرا

وكذلــك مــن خــال قاعــدة )العبــرة بعمــوم اللفــظ

ال بخصــوص الســبب( التــي تبناهــا الجمهــور.

))4( نفسه، ص))-)).

27أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

أن »فالحــق المحصــول فــي الــرازي قــال

الســبب بخصــوص ال اللفــظ بعمــوم العبــرة

أن زعمــا فإنهمــا ثــور، وأبــي للمزنــي خافــا

لعمــوم مخصصــا يكــون الســبب خصــوص

اللفــظ«))4(، وحاصــل المســألة فــي قاعــدة )العبــرة

بعمــوم اللفــظ ال بخصــوص الســبب( ترجيــح مــا

ذهــب إليــه الجمهــور فــي اعتبارهــا، قــال الشــوكاني

»وهــذا المذهــب هــو الحــق الــذي ال شــك فيــه وال

شــبهة، ألن التعبــد للعبــاد إنمــا هــو باللفــظ الــوارد

عــن الشــارع، وهــو عــام ووروده علــى ســؤال خــاص

ال يصلــح قرينــة لقصــره علــى ذلــك الســبب«)44(.

الفقــه لقــد اســتنزفت جهــود علمــاء أصــول

قديمــا فــي ضبــط عاقــة الســبب باللفــظ، وذلــك

بحصرهــا فــي الســبب الخــاص وعاقتــه باللفــظ

الخــاص، وهــذا األمــر لــه مــا يبــرره ألن علــم أصــول

اللفــظ، ببيــان مرتبطــا بدايتــه فــي نشــأ الفقــه

أوال، البيانــي بالــدرس األصوليــون اهتــم حينمــا

ولــم يتطــور إلــى الــدرس المقاصــدي إال بعــد فتــرة

طويلــة مــن الزمــن، وهــذا الســبب هــو الــذي جعــل

التركيــز علــى عاقــة الســبب باللفــظ أيهمــا أولــى

باالعتبــار، وتــم إهمــال فائــدة الســبب فــي إدراك

بعــض لــه ــه تنب مــا وهــو اللفــظ، مــن المعنــى

عنــد ))70هـــ( العيــد دقيــق ابــن منهــم العلمــاء

شــرحه لحديــث النبــي صلــى هللا عليــه وســلم الــذي

الحســن بــن عمــر بــن محمــد الديــن فخــر الــرازي، )4((فيــاض جابــر طــه تحقيــق األصــول« علــم فــي »المحصــول العلوانــي، الناشــر جامعــة اإلمــام محمــد بــن ســعود االســامية

ص)18. ج)، 1400ه، ط1، الريــاض،

)44( الشــوكاني، محمــد بــن علــي بــن محمــد »إرشــاد الفحــول عــزو أحمــد مــن علــم األصــول«، تحقيــق: الحــق إلــى تحقيــق

ج1، ص))). )141ه/)))1م، العربــي، ط1، الكتــاب دار عنابــة،

قــال فيــه »ليــس مــن البــر الصيــام فــي الســفر«))4(،

حيــث قــال »والظاهريــة المانعــون مــن الصــوم فــي

الســفر يقولــون:إن اللفــظ عــام والعبــرة بعمــوم

تتنبــه أن ويجــب الســبب، بخصــوص ال اللفــظ

للفــرق بيــن داللــة الســياق والقرائــن الدالــة علــى

تخصيــص العــام وعلــى مــراد المتكلــم، وبيــن مجــرد

ورود العــام علــى الســبب ال يقتضــي التخصيــص

ٱقطعــوا ف ة ــارق وٱلس ــارق ﴿وٱلس بــه كقولــه تعالــى:

يديهمــا﴾ ))4(، بســبب ســرقة رداء صفــوان، وأنــه أ

بالضــرورة واالجمــاع، بــه التخصيــص ال يقتضــي

مــراد علــى الدالــة والقرائــن: فإنهــا الســياق أمــا

بيــان إلــى المرشــدة وهــي كامــه، مــن المتكلــم

المحتمــات«)47(. وتعييــن المجمــات

ثــم يضيــف تــاج الديــن الســبكي نقــا عنــه قولــه

»ألن الســياق طريــق إلــى بيــان المجمــات وتعييــن

المحتمــات، وتنزيــل الــكام علــى المقصــود منــه،

قال:وفهــم ذلــك قاعــدة كبيــرة مــن أصــول الفقــه،

بعــض إال األصــول فــي لهــا تعــرض مــن أر لــم

ــا أصحابهــم«)48(. ــن ممــن أدركن المتأخري

الــذي المقامــي للســياق التجاهــل هــذا إن

اســتحضره قــد العيــد، دقيــق ابــن عنــه تحــدث

كذلــك اإلمــام الشــاطبي بعــده، فتحــدث عــن الــدور

))4( الطبرانــي فــي معجمــه األوســط ج )، ص )0) حديــث رقــم: ((48

))4( سورة المائدة، اآلية 8).

ــو الفتــح محمــد بــن علــي )47( ابــن دقيــق العيــد، تقــي الديــن أببــن وهــب بــن مطيــع القشــيري »إحــكام األحــكام شــرح عمــدة األحــكام«، تحقيق:مصطفــى شــيخ مصطفــى ومدثــر ســندس،

مؤسســة الرســالة، ط1، ))14ه/)00)م، ص78).

)48( الســبكي، تــاج الديــن عبــد الوهــاب بــن تقــي الديــن علــي ابــن عبــد الكافــي »األشــباه والنظائــر«، دار الكتــب العلميــة، ط1،

ص7)1. ج)، 1411ه/1))1م،

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 28

الكبيــر ألســباب النــزول والــورود فــي ادراك المعنــى

عــن األصــول علمــاء إعــراض بذلــك متجــاوزا

االســتفاضة فيــه، بــل إن اإلمــام الشــاطبي أبــدع

فيــه فقســمه إلــى ســياق مقامــي خــاص مرتبــط

ورود وأســباب القرآنيــة اآليــات نــزول بأســباب

األحاديــث النبويــة، وإلــى ســياق مقامــي عــام مرتبــط

بمجــاري عــادات العــرب وأحوالهــا عصــر التنزيــل.

وتقســيم واقــع النــص إلــى واقــع عــام وخــاص

الواقــع بجعــل الشــاطبي، إليــه ذهــب مــا هــو

الخــاص مرتبطــا بأســباب النــزول والــورود، حيــث

يقــول »معرفــة أســباب التنزيــل الزمــة لمــن أراد

علــم القــرآن، والدليــل علــى ذلــك أمــران:

أحدهمــا: أن علــم المعانــي والبيــان الــذي يعرف

بــه إعجــاز نظــم القــرآن فضــا عــن معرفــة مقاصــد

كام العــرب، إنمــا مــداره علــى معرفــة مقتضيــات

األحــوال: حــال الخطــاب مــن جهــة نفــس الخطــاب،

أو المخاطــب، أو المخاطــب، أو الجميــع، إذ الــكام

الواحــد يختلــف فهمــه بحســب حاليــن، وبحســب

مخاطبيــن، وبحســب غيــر ذلــك )...( وإذا فــات نقــل

بعــض القرائــن الدالــة، فــات فهــم الــكام جملــة، أو

فهــم شــيء منــه، ومعرفــة األســباب رافعــة لــكل

مشــكل فــي هــذا النمــط، فهــي مــن المهمــات فــي

فهــم الكتــاب بــا بــد، ومعنــى معرفــة الســبب هــو

معنــى معرفــة مقتضــى الحــال.

التنزيــل بأســباب الجهــل أن وهــو الثانــي:

موقــع فــي الشــبه واإلشــكاالت، ومــورد للنصــوص

االختــاف، يقــع حتــى اإلجمــال مــورد الظاهــرة

وذلــك مظنــة وقــوع النــزاع«))4(، ثــم يقــول »وقــد

ــر يشــارك القــرآن فــي هــذا المعنــى الســنة، إذ كثي

مــن األحاديــث وقعــت علــى أســباب، وال يحصــل

ذلــك«)0)(. بمعرفــة إال فهمهــا

نظــره فــي الشــاطبي اإلمــام تجــاوز لقــد

لألســباب منطــق الســبق واألولويــة فــي االعتبــار

لعاقــة النظــر فــي قبلــه ســائدة كانــت والتــي

الســبب باللفــظ عنــد األصولييــن، وتبنــى منطلقــا

الســبب عاقــة هــو لألســباب، النظــر فــي آخــر

بالمعنــى، وهــو مــا كان غائبــا فــي دراســات علمــاء

حســب اللفــظ مــن المعنــى فــإدراك األصــول،

اإلمام الشــاطبي ال يســتقيم إال بالنظر لما ســماه

مقتضيــات األحــوال وعمدتهــا معرفــة األســباب،

بــد، بــا الكتــاب فــي فهــم المهمــات مــن فهــي

كمــا أن إهمالهــا موقــع فــي الشــبه واإلشــكاالت

تعبيــره. حســب

فهــو الشــاطبي حســب العــام الواقــع أمــا

عصــر واألحــوال العــادات بمجــاري المحتــف

ــل، حيــث يقــول »ومــن ذلــك معرفــة عــادات التنزي

العــرب فــي أقوالهــا وأفعالهــا ومجــاري أحوالهــا

حالــة التنزيــل، وإن لــم يكــن ثــم ســبب خــاص ال بــد

لمــن أراد الخــوض فــي علــم القــرآن منــه، وإال وقــع

فــي الشــبه واإلشــكاالت التــي يتعــذر الخــروج منهــا

المعرفــة«)1)(. بهــذه إال

لهــا الدليــل فهــم فــي الواقــع مرجعيــة إن

أهميتهــا فــي فهــم المقصــد الشــرعي مــن النــص،

))4( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج4، ص)14.

)0)( نفسه، ج4، ص))1.

)1)( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج4، ص4)1.

29أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

عــن المعاصريــن بعــض تحــدث بذلــك وارتباطــا

الداللــة الواقعيــة للحكــم، والمقصــود بها أن األحكام

فــي مجملهــا مرتبطــة بوقائــع خاصــة أو عامة توضح

ظــروف تنزيــل األحــكام فــي الواقــع، ففهــم النــص

ووضعهــا إليهــا بالنظــر إال يســتقيم ال الشــرعي

فــي االعتبــار عنــد المفتــي والمجتهــد، وهــذه الداللــة

الخــاص الواقــع إلــى »تنقســم للحكــم الواقعيــة

بالتنزيــل، أي المقتــرن مــع نــزول النــص، وإلــى الواقــع

النــص لفهــم ضــروري فــاألول المطلــق، العــام

ومقصــده الخــاص، وكــذا الثانــي فإنــه ضــروري مــن

تنقلــب قــد وبدونــه عمومــا، النــص لفهــم جانــب

الكثيــر مــن موازيــن الفهــم ويصبــح النــص االلهــي

برمتــه غيــر معقــول وال مقبــول«)))(.

ثالثا:مرجعية الواقع في منهجية

االستدالل

معنــى معنييــن، يحتمــل االســتدالل كان لمــا

عــام مســتمد مــن التعريــف اللغــوي للفــظ وهــو ذكــر

فــي االســتدالل، ومعنــى عرفــي خــاص كمــا الدليــل

بينــه الجوينــي بقولــه »معنــى مشــعر بالحكــم مناســب

الفكــر العقلــي، مــن غيــر وجــدان لــه فيمــا يقتضيــه

أصــل متفــق عليــه والتعليــل المنصــوب جــار فيــه«)))(.

كا فــي حاضــرة الواقــع مرجعيــة فــإن

التعريفيــن، باعتبــار االســتدالل اجتهــادا عقليــا إمــا

)))( يحيــى، محمــد »نظريــة المقاصــد والواقــع« مجلــة قضايــا إســامية معاصــرة، العــدد 8، 0)14ه/)))1م، ص171.

بــن هللا عبــد بــن الملــك عبــد المعالــي أبــو الجوينــي، )(((يوســف »البرهــان فــي أصــول الفقــه«، تحقيــق : عبــد العظيــم محمــود الديــب، طبعــة الوفــاء - المنصــورة – مصــر، الطبعــة 1

، 1418ه، ج)، ص1)7.

فــي الدليــل، وإمــا فــي المعانــي المشــعرة بالدليــل،

وكاهمــا مرتبــط بواقــع للتنزيــل، والــذي يتأســس

والمصــدر العقــل بيــن »جدليــة، عاقــة علــى

النصــي، وبيــن واقــع الحيــاة، كعنصــر أساســي فــي

العاقــة«)4)(. هــذه

ــر عــن ــط وأساســه المعب إن وســيلة هــذا الرب

مرجعيــة الواقــع فــي االســتدالل، مــا ذكــره العلمــاء

مــن اعتبــار المــآل حيــن النظــر الفقهــي »فــا يطلــق

القــول بنــاء علــى النظــر فــي الفعــل فقــط، وكذلــك

ال يطلــق القــول بنــاء علــى النظــر فــي المــآل، وإنمــا

بنــاء علــى بــد مــن النظــر فــي األمريــن، وذلــك ال

الضروريــات والحاجيــات، الشــرعية مــن القواعــد

المــآالت فــي النظــر علــى وبنــاء والتحســينيات،

الكليــة والجزئيــة«)))(.

ألن النظــر فــي مــآالت األفعــال منهــج إســامي

معتبــر فــي شــريعة االســام، ففــي الســنة النبويــة

تطبيقــات هاديــة فــي اعتبــار المــآل، فقــد امتنــع

النبــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن قتــل المنافقيــن

مــع علمــه بهــم، ومــع علمــه باســتحقاقهم القتــل،

فقــد هــم عمــر بــن الخطــاب بقتــل أحــد المنافقيــن،

ال »دعــه وســلم عليــه هللا صلــى النبــي فقــال

، أصحابــه«)))( يقتــل محمــدا أن النــاس يتحــدث

وتخلــى عــن إعــادة بنــاء البيــت الحــرام، حتــى ال يثيــر

االختــاف بيــن العــرب، وكثيــر منهــم حديثــو عهــد

)4)( النجــار »فــي فقــه التديــن فهمــا وتنزيــا«، مرجــع ســابق، ص)1 ج)،

اإلمــام عنــد »المقاصــد الهــادي عبــد محمــود فاعــور، )(((للطباعــة، بســيوني فقهيــة«، أصوليــة دراســة الشــاطبي

ص0). ج)، 7)14ه/)00)م، ط1، لبنــان، صيــدا،

)))( أخرجــه البخــاري فــي صحيحــه »بــاب ســورة المنافقيــن«، األخ نصــر »بــاب مســلم صحيــح ،4((( رقــم حديــث ،)18(1/4(

رقــم:748). حديــث ،)1(/8( أو مظلومــا«، ظالمــا

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 30

رضــي عائشــة مخاطبــا قــال ولذلــك باإلســام،

هللا عنهــا » ألــم تــري أن قومــك حيــن بنــوا الكعبــة

فقلــت قالــت: إبراهيــم، قواعــد عــن اقتصــروا

يــا رســول هللا أفــا تردهــا علــى قواعــد إبراهيــم،

فقــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم : لــوال

حدثــان قومــك بالكفــر لفعلــت «)7)(، وعندمــا بــال

لزجــره الصحابــة وقــام المســجد، فــي أعرابــي

ومنعــه، قــال عليــه الصــاة والســام » ال تزرمــوه

الحديــث. آخــر دعوه ...«)8)(إلــى

مراعــاة علــى دالــة النبويــة األحاديــث فهــذه

المــآل فــي تشــريع الحكــم فــي اإلســام، فمراعــاة

ــه لمــآل الحكــم الشــرعي فــي النبــي صلــى هللا علي

التنزيــل يثبــت اعتبــار مرجعيــة الواقــع فــي تنزيــل

تحقيــق تبتغــي الشــرعية األحــكام ألن الحكــم،

عــن المفاســد ودفــع المصالــح لجلــب مقاصــد

المكلفيــن، فــإذا كان مــآل الحكــم يناقــض مقصده

غيــاب فــي بالوســائل عبــرة فــا التنزيــل، فــي

مقاصدهــا، وبذلــك »فالعبــرة مــن تنزيــل األحــكام

الشــرعية هــي تحقيــق مصالحهــا في جزئيــات واقع

المكلفيــن، ألنــه ال عبــرة بالوســائل إذا لــم تتحقــق

المقاصــد أو إذا تحققــت مفاســد، فاألصــل هــو

أن الفعــل يشــرع لمــا يترتــب عليــه مــن المصالــح،

فيحكــم المفاســد، مــن إليــه يــؤدي لمــا ويمنــع

محققــا كان طالمــا بالمشــروعية الفعــل علــى

إذا لكــن تحقيقهــا، بــه قصــد التــي للمصلحــة

إلــى حصــول مفســدة كان وقــوع الفعــل مؤديــا

)7)( أخرجــه مســلم فــي صحيحــه »بــاب نقــض الكعبــة وبنائهــا« )7/4)(، حديــث رقم:)0)).موطــأ اإلمــام مالــك »بــاب مــا جــاء فــي

بنــاء الكعبــة«، ))/0))(، حديــث رقــم:)))1.

)8)( أخرجــه مســلم فــي صحيحــه »بــاب وجــوب غســل البــول وغيــره مــن النجاســات«)1/))1(، حديــث رقــم:87).

أكبــر مــن المصلحــة التــي تحققــت بــه فــي ذاتــه،

غيــر أو مــن مصلحتــه، أهــم أو مفوتــا لمصلحــة

محصــل لمصلحتــه التــي شــرع لتحقيقهــا، فإنــه

بالمشــروعية أن ينظــر فــي يحتــاج للحكــم عليــه

الفعــل يكيــف الــذي هــو التنزيــل فمــآل مآالتــه،

وعدمهــا«)))(. بالمشــروعية

فاعتبــار الواقــع فــي المــآل أصــل معتبــر فــي

الشــريعة، ذلــك أن المجتهــد ال يمكنــه الحكــم علــى

فعــل للمكلــف إال بالنظــر إلــى مآلــه وواقــع تنزيلــه،

فقــد يكــون الفعــل مشــروعا ومآلــه نقيضــه، وقــد

يكــون الفعــل غيــر مشــروع فــي ذاتــه لكــن مآلــه

محقــق لمصلحــة تجلــب أو مفســدة تــدرأ، فكثيــر

» مــن األفعــال ال ينهــى عنهــا لحقيقتهــا وذاتهــا،

ويؤمــر ثمراتهــا، لقبــح مــرة عنــه ينهــى ولكــن

لمصالــح تــارة وتبــاح ثمراتهــا، لحســن تــارة بــه

تتقاربهــا فــي اإلقــدام عليهــا واإلحجــام عنهــا«)0)(،

فــي »النظــر بقولــه الشــاطبي أكــده مــا وهــذا

كانــت شــرعا، مقصــود معتبــر األفعــال مــآالت

مخالفــة...«)1)(. أو موافقــة األفعــال

إن االجتهــاد الشــرعي المســتحضر لمرجعيــة

الوحــي فــي التلقــي، ولمرجعيــة العقــل فــي الفهــم،

تحــدث مــا هــو التنزيــل، فــي الواقــع ولمرجعيــة

عنــه اإلمــام الشــاطبي فــي تكامــل الوحــي والعقــل

)))( العضــراوي، عبــد الرحمــن »مدخــل تأسيســي فــي الفكــر بيــروت، ط1، للبحــوث والدراســات، المقاصــدي«، مركــز نمــاء

ص88). )01)م،

محمــد أبــو الحســن بــن القاســم أبــو الســلمي، ينظــر: )(0(عــز الديــن عبــد العزيــز بــن عبــد الســام »قواعــد األحــكام فــي مكتبــة ســعد، الــرؤوف عبــد تحقيق:طــه األنــام«، مصالــح الكليــات األزهريــة، القاهــرة، دار الكتــب العلميــة، بيــروت، دار أم

ص0). ج)، ط1414ه/1))1م، القاهــرة، القــرى،

)1)( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص178-177.

31أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

من النص إلى الواقع )فقه النزيل(

من الواقع إلى النص)فقه الواقع(

إن تقديــر الحكــم الشــرعي للواقعــة أو النازلــة

مــن ينطلــق أحدهمــا مســارين، يتخــذ المعينــة

النــص لتحديــد الحكــم الشــرعي وفقــه مقصــده،

والثانــي مــن الواقــع إلــى النــص باســتحضار مــآل

الحكــم فــي الواقــع، فينطلــق المجتهــد مــن مــآل

تطبيــق الحكــم ليوســع النظــر االجتهــادي في فهم

النــص وإدراك مقاصــده، وانطاقــا مــن هــذا فــأي

حكــم يــؤدي إلــى نقيــض مقصــده فــي التنزيــل، فهو

المجتهــد إذا »تحقــق بحيــث غيــر معتبــر شــرعا،

أنــه يفضــي فــي ظــرف مــن أو غلــب علــى ظنــه،

الظــروف إلــى مــآل يناقــض هــذه )المقاصــد( التــي

اســتهدفها التشــريع، فإنــه ال يجــوز المصيــر إلــى

ذلــك بــأي حــال مــن األحــوال، لمنافــاة ذلــك للنظــام

الشــرعي العــام فــي مقاصــده وأهدافــه«)))(.

إن هــذا األصــل الــذي هــو اعتبار مــآالت األفعال

قــد بنيــت عليــه قواعــد كبــرى فــي االســتدالل منهــا

االستحســان، والذرائــع والحيــل، ومراعــاة الخــاف،

فلنبدأ أوال باالستحســان.

اعتبــار أصــل عــن متفــرع االستحســان

المــآالت، فــإذا كان تعريفــه حســب الشــاطبي أنــه

فــي بالــرأي االجتهــاد فــي »المناهــج األصوليــة الدرينــي )(((ص))1. ســابق، مرجــع اإلســامي«، التشــريع

الواقعالنص العقل

لشــروطه المســتكمل االجتهــاد فــي والواقــع

وضوابطــه الشــرعية، وفــي ذلــك يقــول » وضابطه

أنــك تعــرض مســألتك علــى الشــريعة، فإن صحت

فــي ميزانهــا، فانظــر فــي مآلهــا بالنســبة إلــى حــال

ــؤد ذكرهــا إلــى مفســدة، ــم ي ــه، فــإن ل الزمــان وأهل

فاعرضهــا فــي ذهنــك علــى العقــول، فــإن قبلتهــا،

فلــك أن تتكلــم فيهــا إمــا علــى العمــوم إن كانــت

علــى وإمــا العمــوم، علــى العقــول تقبلهــا ممــا

وإن بالعمــوم، الئقــة غيــر كانــت إن الخصــوص

فالســكوت المســاغ، هــذا لمســألتك يكــن لــم

عنهــا هــو الجــاري علــى وفــق المصلحــة الشــرعية

والعقليــة«)))(.

التنزيــل فــي الواقــع مرجعيــة فاســتحضار

ــط مــن عــدم التعســف فــي تطبيــق إذا هــو الضاب

أن فكمــا مآالتهــا، فــي النظــر دون األحــكام

المجتهــد ينطلــق مــن النــص نحــو الواقــع فــي فقــه

التنزيــل، فإنــه ينعكــس كذلــك مــن الواقــع نحــو

النــص فــي فقــه الواقــع، وهــذا ال يعنــي أن للواقــع

ســلطة علــى النــص وهــذا مــا دحضتــه فيمــا ســبق،

فهــم فــي العقــل نظــر لتجديــد وســيلة ولكنــه

ــه قابــل إلعــادة الفهــم حســب ظــروف النــص، ألن

فالواقــع اإلنســان، وأحــوال والمــكان الزمــان

محفــز للعقــل لتجديــد النظــر فــي النــص، وهــذا مــا

أوضحــه فــي الرســم البيانــي اآلتــي:

)))( نفسه، ج)، ص)17.

الواقعالعقلالنص

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 32

»األخــذ بمصلحــة جزئيــة فــي مقابلــة دليــل كلــي«)4)(،

فــإن هــذا االســتثناء مــن القاعــدة الكليــة ناتــج عــن

النظــر فــي مــآالت التطبيــق الــذي رجــح المصلحــة

الجزئيــة عــن القاعــدة العامــة، ألنهــا ألصــق بالعدل

مقصــودة مصلحــة بذلــك فهــي والمصلحــة،

شــرعا، »ومقتضــاه الرجــوع إلــى تقديــم االســتدالل

استحســن مــن فــإن القيــاس، علــى المرســل

لــم يرجــع إلــى مجــرد ذوقــه وتشــهيه، وإنمــا رجــع

إلــى مــا علــم مــن قصــد الشــارع فــي الجملــة فــي

أمثــال تلــك األشــياء المفروضــة، كالمســائل التــي

األمــر ذلــك أن إال أمــرا، فيهــا القيــاس يقتضــي

يــؤدي إلــى فــوت مصلحــة مــن جهــة أخــرى، أو جلــب

مفســدة كذلــك، وكثيــر مــا يتفــق هــذا فــي األصــل

التكميلــي، مــع والحاجــي الحاجــي مــع الضــروري

الضــروري فــي مطلقــا القيــاس إجــراء فيكــون

مــوارده، بعــض فــي ومشــقة حــرج إلــى يــؤدي

فيســتثنى موضــع الحــرج، وكذلــك فــي الحاجــي مــع

التكميلــي«)))(. الضــروري مــع أو التكميلــي،

يمكــن إذا القــول إن نشــوء فكرة االستحســان

مــا تعالــج أي: القيــاس، »غلــو تعالــج جــاءت

مــا علــى العامــة القواعــد تطبيــق إليــه يفضــي

ينــدرج تحــت حكمهــا مــن وقائــع، مــن نتائــج غيــر

مقصــودة للشــارع«)))(، والتــي تــؤول إلــى المفاســد

بــدل المصالــح، وبذلــك عندمــا يــرى المجتهــد أن

يحقــق ال العامــة القواعــد تطبيــق أو القيــاس

هــدف التشــريع فــي الواقــع، ومناقــض لمــا هــو

)4)( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص4)1.

)))( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص4)1.

فــي بالــرأي االجتهــاد فــي األصوليــة »المناهــج الدرينــي )(((ص)1. ســابق، مرجــع اإلســامي«، التشــريع

مقــرر فيــه، فإنــه يعــدل عنــه إلــى منهــج يحفــظ

ســامة التنزيــل مــن ســوء التقديــر، »وال شــك أن

االستحســان بما هو منهج أصولي يعالج الواقع،

وعلــى ضــوء مــن المصلحــة والعــدل، هــو أقــوى

أثــرا مــن تلــك القاعــدة النظريــة العامــة المجــردة،

إذا أفضــى تطبيقهــا علــى جزئيــة مــن جزئياتهــا فــي

بعــض الظــروف إلــى غلــو ومفســدة ال تتفــق مــع

ــه الشــريعة كلهــا ــذي قامــت علي األصــل العــام ال

مــن جلــب المصالــح ودرء المفاســد، أو باألحــرى:

العــدل والمصلحــة«)7)(. تجافــي

إن االستحســان غيــر خــارج عــن مقتضــى األدلــة

الشــرعية التــي تراعــي ســامة طبيــق األحــكام فــي

الواقــع، ولذلــك عــده بعــض العلمــاء قياســا خفيــا

مثــل القيــاس الجلــي، يقــول السرخســي »القيــاس

واالستحســان في الحقيقة قياســان، أحدهما جلي

ضعيــف أثــره فســمي قياســا، واآلخــر خفــي قــوي

أثــره فســمي استحســانا، أي قياســا مستحســنا

فالترجيــح باألثــر ال بالخفــاء والظهــور«)8)(.

االستحســان بتقديــم يصــرح فالسرخســي

عنــه، الناتــج األثــر هــو لمرجــح القيــاس علــى

فــي تنزيلــه عنــد عنــه المترتــب باألثــر لنقــل أو

الواقــع، فتطبيــق الحكــم فــي الواقــع هــو المرجــح

لاســتدالل باالستحســان بــدل القيــاس مراعــاة

أو »فالتخصيــص وبذلــك الشــريعة، لمقاصــد

أو العامــة، القاعــدة مــن االســتثناء باألحــرى

)7)( نفسه، ص)487-48.

)8)( السرخســي، شــمس الديــن أبــو بكــر محمــد بــن أبــي ســهل »المبســوط«، تحقيق:خليــل محــي الديــن الميــس، دار الفكــر للطباعــة والنشــر والتوزيــع، بيــروت، لبنــان، ط1، 1)14ه/000)م، ج10،

ص0)).

33أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

األصــل العــام، بمــا هــو ضــرب مــن التوفيــق بيــن

المجــردة، العامــة النظريــة القاعــدة مقتضــى

وبيــن مقتضــى الحيــاة الواقعيــة يعتبــر فــي الواقــع

مســتبصرا أصوليــا تشــريعيا منهجــا أو خطــة

مــن مناهــج االجتهــاد يعالــج غلــو التطبيــق اآللــي،

والمصلحــة العــدل تجافــي التــي نتائجــه وســوء

الحقيقيــة، نتيجــة للجهــل بالواقــع وظروفــه«)))(.

القاعــدة الثانيــة التــي روعــي فيهــا الواقــع والتــي

تتفــرع عــن اعتبــار المــآل هــي الذرائــع، وهــي »منــع

الجائــز وإجــازة الممنــوع على وفق قانــون المصالح

وبذلــك التنزيــل«)70(، عنــد المتحققــة والمفاســد

فهــي كل وســيلة يتوصــل بهــا لمقصــد معيــن،

وحكــم هــذه الوســيلة كحكــم مــا أفضــت إليــه مــن

المصالــح أو المفاســد، ومــن ثــم فالحكــم عليهــا

الواقــع، فــي لمآلهــا راجــع اإللغــاء أو باالعتبــار

فتحهــا، يجــب ســدها يجــب كمــا »فالذريعــة

ــاح باعتبارهــا وســيلة، فكمــا أن ــدب وتب وتكــره وتن

وســيلة المحــرم محرمــة، فوســيلة الواجــب واجبــة

كالســعي للجمعــة والحــج«)71(.

إن منــاط اعتبــار الذريعــة مــن عدمهــا مــا يتوقــع

مــن الفعــل عنــد مآلهــا، ذلــك أن الجائــز قــد يمنــع إذا

أوصــل إلــى مفســدة محققــة، كمــا أن الممنــوع قــد

يجــاز إذا أوصــل إلــى مصلحــة تفــوق مفســدة ذلــك

الممنــوع ابتــداء، يقــول العــز بــن عبــد الســام »قــد

فــي بالــرأي االجتهــاد فــي األصوليــة »المناهــج الدرينــي )(((ص)48. ســابق، مرجــع اإلســامي«، التشــريع

تطبيقيــة«، أصوليــة دراســة التنزيــل »فقــه المعمــاري )70(ص))). ســابق، مرجــع

بــن إدريــس أبــو العبــاس أحمــد )71( القرافي،شــهاب الديــن الفــروق« أنــواء فــي البــروق أنــوار أو »الفــروق الصنهاجــي تحقيــق خليــل المنصــور، دار الكتــب العلميــة، بيــروت، طبعــة

ص1). ج)، 8))1م، - 1418هـــ

يجــوز اإلعانــة علــى المعصيــة ال لكونهــا معصيــة،

المصلحــة تحصيــل إلــى وســيلة لكونهــا بــل

ــو الراجحــة، وكذلــك إذا حصــل باإلعانــة مصلحــة ترب

علــى مصلحــة تفويــت المفســدة كمــا تبــذل األمــوال

فــي فــدى األســرى األحــرار المســلمين«))7(.

الذرائــع ســد عــن العلمــاء تحــدث لقــد

ومقصدهــم منهــا كمــا قــال الشــاطبي »التوســل

وعرفهــا مفســدة«))7(، إلــى مصلحــة هــو بمــا

المســألة هــي الذرائــع »ســد بقولــه الزركشــي

فعــل إلــى بهــا ويتوصــل اإلباحــة ظاهرهــا التــي

بقولــه الشــاطبي لهــا المحظــور«)74(، وقــد مثــل

»فــإن عاقــد البيــع أوال علــى ســلعة بعشــرة إلــى

أجــل ظاهــر الجــواز، مــن جهــة مــا يتســبب عــن البيع

مــن المصالــح علــى الجملــة، فــإذا جعــل مــآل ذلــك

البيــع مؤديــا إلــى بيــع خمســة نقــدا بعشــرة إلــى

ــع ســلعته مــن مشــتريها ــأن يشــتري البائ أجــل، ب

بخمســة نقــدا، فقــد صــار مــآل هــذا العمــل إلــى أن

بــاع صاحــب الســلعة مــن مشــتريها منــه خمســة

نقــدا بعشــرة إلــى أجــل، والســلعة لغــو ال معنــى

لهــا فــي هــذا العمــل، ألن المصالــح التــى ألجلهــا

شــرع البيــع لــم يوجــد منهــا شــيء«))7(.

تنزيــل ســامة فــي مهمــا دورا للذرائــع إن

فــي تطبيقهــا إليــه يــؤول مــا باعتمــاد األحــكام

الــذي العــام األصــل »يوثــق دورهــا ألن الواقــع،

))7( الســلمي، بــن عبــد الســام »قواعــد األحــكام فــي مصالــح األنــام«، مرجــع ســابق، ج1، ص)7.

))7( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص)18.

)74( الزركشــي، بــدر الديــن محمــد بــن بهــادر بــن عبــد هللا »البحــر تامــر،دار الفقــه« تحقيق:محمــد محمــد فــي أصــول المحيــط

الكتــب العلمية،بيــروت،ط 1)14ه/000)م، ج4، ص)8).

))7( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص)18.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 34

قامــت عليــه الشــريعة مــن جلــب المصالــح ودرء

المفاســد، ذلــك ألنــه يمنــع االفتئــات علــى مقاصــد

الشــريعة عــن طريــق غيــر مباشــر، وذلــك باتخــاذ

وســيلة مشــروعة فــي الظاهــر لتحقيــق غــرض غيــر

مشــروع، أو بإفضائهــا بذاتهــا إلــى مــآل ممنــوع

فــي ظــروف معينــة«))7(.

أن القــول يمكــن ســبق مــا علــى تأسيســا

مرجعيــة الواقــع حاضــرة فــي قاعــدة الذرائــع التــي

تنطلــق مــن واقــع تنزيــل الحكــم بمراعــاة مــآالت

تطبيقــه، فيتــم الحكــم علــى ســامة هــذا التطبيــق

مــن عدمــه، فــإذا أثبــت النظــر االجتهــادي أن تنزيــل

حكــم معيــن ســيكون مناقضــا لمقصــده الشــرعي

بــأن تنتفــي المصلحــة المترتبــة عليــه، أو تتحقــق

العمــل يمنــع فإنــه بــه، المدفوعــة المفســدة

بــه ســدا للذريعــة، ممــا يترتــب عنــه مــن الفســاد

الشــريعة كليــات بيــن للتناقــض درءا والضــرر

تناقــض ال مترابــط كل الشــريعة إذ وجزئياتهــا،

فيهــا بيــن الكليــات والجزئيــات.

ــة التــي روعــي فيهــا الواقــع أمــا القاعــدة الثالث

وتتفــرع عــن اعتبــار المــآل كذلــك فهــي الحيــل، وقــد

عرفهــا ابــن القيــم بقولــه »نــوع مخصــوص مــن

التصــرف والعمــل الــذي يتحــول بــه فاعلــه مــن حال

الــى حــال، ثــم غلــب عليهــا بالعــرف اســتعمالها فــي

ــي يتوصــل بهــا الرجــل ــة الت ســلوك الطــرق الخفي

الــى حصــول غرضــه، بحيــث ال يتفطــن لــه إال بنــوع

مــن الــذكاء والفطنــة، فهــذا أخــص مــن موضوعها

أمــرا المقصــود كان وســواء اللغــة، أصــل فــي

فــي بالــرأي االجتهــاد فــي األصوليــة »المناهــج الدرينــي )7((ص477. ســابق، مرجــع اإلســامي«، التشــريع

جائــزا أو محرمــا أو خــص مــن هــذا اســتعمالها فــي

أو شــرعا، منــه الممنــوع الغــرض الــى التوصــل

عقــا أو عــادة، فهــذا هــو الغالــب عليهــا فــي عــرف

القيــم ابــن تعريــف مــن والماحــظ النــاس«)77(،

أن الحيــل يمكنهــا أن تشــمل الحيــل المشــروعة

األحــكام إلــى تنقســم فهــي ولذلــك وغيرهــا،

الخمســة حســب مآلهــا فــي الواقــع.

وحــدد الشــاطبي حقيقــة الحيــل بأنهــا »تقديــم

عمــل ظاهــر الجــواز إلبطــال حكــم شــرعي وتحويلــه

فــي الظاهــر إلــى حكــم آخــر، فمــآل العمــل فيهــا

ولــم الواقــع«)78(، فــي الشــريعة قواعــد خــرم

يكتــف الشــاطبي بالتعريــف بــل قــدم لهــا مثــاال

ليزيــد األمــر وضوحــا، فقــال »كالواهــب مالــه عنــد

ا مــن الــزكاة، فــإن أصــل الهبــة رأس الحــول فــرار

ــكان ــة ل ــر هب ــزكاة مــن غي ــو منــع ال ــى الجــواز، ول عل

ممنوعــا، فــإن كل واحــد منهمــا ظاهــر أمــره فــي

المصلحــة أو المفســدة، فــإذا جمــع بينهمــا علــى

أداء مــن المنــع الهبــة مــآل صــار القصــد، هــذا

الــزكاة، وهــو مفســدة، ولكــن هــذا بشــرط القصــد

إلــى إبطــال األحــكام الشــرعية«))7(.

ربــط أنــه الشــاطبي تعريــف مــن والماحــظ

الحيــل بقصــد المكلــف، وهــذا نابــع مــن حضــور فكــرة

المحرمــة الحيــل مــن يعتبــر فمــا لديــه، المقاصــد

شــرعا مــا أقــدم عليــه المكلــف مــن حكــم شــرعي جائــز

مــن متعلــق الخــروج بقصــد فــي صورتــه وشــكله

حكــم شــرعي آخــر مــع قصــده لــه، وبنــاء عليــه »إذا

)77( ابــن قيــم الجوزيــة »إعــام الموقعيــن عــن رب العالميــن«، مرجــع ســابق، ج)، ص40)-41).

)78( الشاطبي »الموافقات«، مرجع سابق، ج)، ص187

))7( نفسه، ج)، ص188-187.

35أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

عــن الوجــوب ذلــك إســقاط فــي المكلــف تســبب

نفســه، أو فــي إباحــة ذلــك المحــرم عليــه، بوجــه مــن

وجــوه التســبب حتــى يصيــر ذلــك الواجــب غيــر واجــب

أيضــا، الظاهــر فــي حــاال المحــرم أو الظاهــر، فــي

فهــذا التســبب يســمى حيلــة وتحيــا«)80(.

للحيــل النظــر يمكــن ذكرتــه ممــا وانطاقــا

يــن: باعتبار

أولهــا مــا كان وســيلة إلســقاط بعــض األحــكام •

يصــح ال وهــذا المكلــف، بقصــد الشــرعية

تنزيلــه لمعارضتــه مبــادئ الشــريعة وأحكامهــا

الواجبــات وحــرم إنمــا أوجــب »ألن هللا تعالــى

لمــا تتضمــن مــن مصالــح عبــاده المحرمــات

ومعادهــم«)81(. معاشــهم فــي

إســقاط • منهــا القصــد يكــن لــم مــا الثانــي

األحــكام الشــرعية، وإنمــا هــي نــوع مــن الموازنــة

يقــول ولذلــك والمفاســد، المصالــح بيــن

وردهــا الحيــل قبــول معيــار فــي الشــاطبي

»فــإذا كان األمــر فــي ظاهــره وباطنــه علــى أصــل

الظاهــر كان وإن إشــكال، فــا المشــروعية،

غيــر فالفعــل مخالفــة، والمصلحــة موافقــا

مشــروع«))8(. وغيــر صحيــح

إن القــول يمكــن ســبق مــا علــى تأسيســا

مــن المســتمدة القواعــد أحــد باعتبارهــا الحيــل

بمرجعيــة ارتبــاط لهــا المــآالت مراعــاة أصــل

الواقــع، ألنهــا تمثــل منهجــا يلجــأ إليــه المجتهــد

لتنزيــل الحكــم الشــرعي المائــم علــى الواقــع، لكــن

)80( نفسه، ج)، ص107.

)81( ابــن قيــم الجوزيــة »إعــام الموقعيــن عــن رب العالميــن«، مرجــع ســابق، ج)، ص180.

هــذا التنزيــل فــي الواقــع هــو الــذي يحــدد صــواب

قصــده ــل التحي كان فــإذا عدمــه، مــن االجتهــاد

وغرضــه التحلــل مــن بعــض األحكام الشــرعية مما

فيــه مخالفــة لمقصــد الشــارع مــن التشــريع، فهــو

منهــي عنــه بإطــاق، وإن كانــت الحيلــة ال تناقــض

مصلحــة شــرعية، بــل يمكــن أن تقــرب مــن بعــض

المصالــح المقصــودة، فهــي غيــر داخلــة فــي النهي،

هــذا ثبــت »إذا األمــر هــذا فــي الشــاطبي يقــول

فالحيــل التــي تقــدم إبطالهــا وذمهــا والنهــي عنهــا

مــا هــدم أصــا شــرعيا وناقــض مصلحــة شــرعية،

فــإن فرضنــا أن الحيلــة ال تهــدم أصــا شــرعيا، وال

تناقــض مصلحــة شــهد الشــرع باعتبارهــا، فغيــر

داخلــة فــي النهــي وال هــي باطلــة«))8(.

أمــا القاعــدة الرابعــة التــي روعــي فيهــا الواقــع

مراعــاة فهــي المــآل اعتبــار عــن متفرعــة وهــي

الخصــم دليــل »إعمــال ومفهومهــا الخــاف،

فــي الزم مدلولــه الــذي أعمــل فــي نقيضــه دليــل

آخــر«)84(، وحقيقتهــا »تعــارض المصالــح واختافها

فــي مــا مصلحــة فتتحقــق الواحــد، األمــر فــي

جهــة معينــة، بينمــا تتحقــق مصلحــة أخــرى فــي

بعــض لــدى إحداهــا فتترجــح المقابلــة، الجهــة

المجتهديــن، وترجــح األخــرى لــدى البعــض اآلخــر،

ثــم وقــع الفعــل علــى مقتضــى إحــدى المصلحتيــن،

فربمــا أدى وقــوع المصلحــة الراجحــة إلــى التســبب

ــر مــن المصلحــة المتوقعــة فــي فــي مفســدة أكب

))8( نفسه، ج)، ص4)1.

)84( ميــارة، أبــو عبــد هللا محمــد بــن أحمــد بــن محمــد الفاســي العقــود نكــت فــي الحــكام تحفــة شــرح واإلحــكام »اإلتقــان عبــد محمــد تحقيــق ميــارة، بشــرح واألحكام«المعــروف الســام محمــد ســالم، دار الحديــث، القاهــرة، ط ))14ه/011)م،

ص4). ج1،

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 36

يــؤول الــذي المــآل فــي فينظــر المســألة، حكــم

إليــه تطبيــق المصلحــة الراجحــة بمــا تتضمنــه مــن

مفســدة، فيصــرف عنهــا إلــى المصلحــة المرجوحة

اســتثمار للخــاف فــي دفــع المفســدة«))8(.

مراعــاة بصحــة يعــرف المالكيــة ومذهــب

الخــاف، قــال الشــاطبي »وهــو أصــل فــي مذهــب

ومثالــه كثيــرة«))8(، مســائل عليــه ينبنــي مالــك

»إعمــال مالــك دليــل خصمــه القائــل بعــدم فســخ

نــكاح الشــغار)87( فــي الزم مدلولــه الــذي هــو ثبــوت

اإلرث بيــن الزوجيــن المتزوجيــن بالشــغار إذا مــات

الفســخ(، عــدم )وهــو المدلــول وهــذا أحدهمــا،

أعمــل مالــك فــي نقيضــه )وهــو الفســخ( دليــا

آخــر، فمذهبــه وجــوب فســخ نــكاح الشــغار وثبــوت

اإلرث بيــن المتزوجيــن بــه إذا مــات أحدهمــا«)88(.

فمذهــب مالــك مــع كونــه يقــول بفســاد نــكاح

فإنــه ولــي بــدون النــكاح كذلــك الشــغار، ومثلــه

»يراعــي فــي ذلــك الخــاف عندمــا ينظــر فيمــا ترتــب

دليــا المكلــف واقــع إن الوقــوع، فيقــول: بعــد

التفريــع أن إال مرجوحــا، كان وإن الجملــة علــى

علــى البطــان الراجــح فــي نظــره يــؤدي إلــى ضــرر

ومفســدة أقــوى مــن مقتضــى النهــي علــى ذلــك

المــآل مراعــاة علــى مبنــي منــه وهــذا القــول،

))8( العضــراوي »مدخــل تأسيســي فــي الفكــر المقاصــدي«، مرجــع ســابق، ص)))-))).

))8( الشــاطبي، أبــو إســحاق إبراهيــم بــن موســى بــن محمــد عيــد بــن ســليم تحقيــق: »االعتصــام«، الغرناطــي اللخمــي الهالــي، دار ابــن عفــان، المملكــة العربيــة الســعودية، ط1،

ص)4). ج)، )141ه/)))1م،

ــزوج اآلخــر ــزوج الرجــل موليتــه علــى أن ي )87( الشــغار هــو أن يــه وال صــداق بينهمــا. موليت

»إيصــال المختــار محمــد بــن يحيــى محمــد الوالتــي، )88(حــزم ابــن مالــك«دار اإلمــام مذهــب أصــول إلــى الســالك للطباعــة والنشــر والتوزيــع، بيــروت، ط1، 7)14ه/)00)م، ص)18.

ذلــك ســببه حضــور وكل الشــارع«))8(، نظــر فــي

والتنظيــر. التقعيــد فــي الواقــع مرجعيــة

الــذي اتخــذ إن خصوصيــة المذهــب المالكــي

تبــرز قاعــدة مراعــاة الخــاف أصــا مــن أصولــه،

وبالشــق الواقــع بمرجعيــة الكبيــر االهتمــام

التطبيقــي التنزيلــي لألحــكام فــي المذهــب، فلــوال

مراعــاة الواقــع ومآلــه فــي التنزيــل لوقــع الضــرر

حصــول عــن منزهــة والشــريعة التفعيــل، فــي

ــح الضــرر للمكلفيــن، ألن مقصدهــا جلــب المصال

ودفــع المفاســد عــن النــاس فــي العاجــل واآلجــل،

مراعاتــه فــي المالكــي المذهــب ســاعد وممــا

لمــآالت تطبيــق األحــكام فــي الواقــع، هــو االهتمــام

ورعايــة الشــرعي الخطــاب بمقاصــد المبكــر

ــى ذلــك االهتمــام ــن، والدليــل عل ــح المكلفي مصال

مــن وغيرهــا واالستحســان بالمصلحــة الكبيــر

طــرق االســتدالل المراعيــة لواقــع تنزيــل األحــكام،

وهــذا يبــرز حقيقــة مؤداهــا مراعــاة مرجعيــة الواقــع

فــي االســتدالل، فــي الجانــب التنزيلــي التطبيقــي

لألحــكام عنــد علمــاء األصــول منــذ وقــت مبكــر.

خاتمة:

لقــد ابتلــي منهــج التفكيــر االســامي بفئتيــن

انتشــر منهجهمــا حتــى ظــن مــن قلــت بضاعتــه

طائفــة والصــواب، الحــق أنهمــا العلــم فــي

ألغــت الواقــع مــن اعتبارهــا فتمســكت بجزئيــات

ــت النصــوص الشــرعية دون ردهــا لكلياتهــا فضل

مرجعــي أســاس عــن أعرضــت ألنهــا ــت، وأضل

يشــكل إهمالــه خطــرا كبيــرا فــي الفهــم والتنزيــل،

كام مــن ص188-)18، ج)، »الموافقــات« الشــاطبي )8((ســلمان. آل حســن بــن مشــهور عبيــدة المحقق:أبــو

37أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

فــا يمكــن أن يحصــل الفهــم الســليم والتنزيــل

الســديد لألحــكام إال بمنهــج يراعيــه المجتهــد عنــد

نظــره فــي األدلــة بــرد الجزئيــات للكليــات، وهــو مــا

امتلكــه كثيــر مــن الصحابــة رضــوان هللا عليهــم

امتــاك يعتبــر حيــث بعدهــم، األمــة ومجتهــدو

هــذه الوســائل المنهجيــة فــي االجتهــاد ضــرورة ال

محيــد عنهــا، ألنهــا معيــار التمييــز بيــن المجتهــد

مــن كثيــر إذ للنصــوص، نظــره فــي والعامــي

النــاس يحفظــون مــن النصــوص الشــرعية شــيئا

معوجــا، فهمــا يفهمونهــا ولكنهــم قليــل، غيــر

فتــرى أفعالهــم وأقوالهــم مخالفــة فــي جملتهــا

لمضمــون مــا حملــوا وعلمــوا.

الشــرعي للنــص تنكــرت أخــرى وطائفــة

الوحــي فســلبت مصدرهــا الواقــع وجعلــت

هــذه للواقــع، وخلــل التلقــي ونســبتها مرجعيــة

القــراءات المعاصــرة أنهــا جعلــت شــبه قطيعــة

فالحديــث والواقــع، الوحــي بيــن ابســتيمولوجية

بالضــرورة الوحــي عنــد هــؤالء هــو عــن مرجعيــة

نقــض لمرجعيــة الواقــع، فــكل مــا هــو واقعــي هــو

بالضــرورة مناقــض لحقائــق الوحــي، وهــذا التصــور

إن كان مقبــوال فــي ســياق تطــور الفكــر الغربــي،

ومــا شــهده الفكــر الدينــي فيه من أحداث مؤســفة

مــع الحقائــق العلميــة والواقــع التجريبــي، إال أن

هــذا االســقاط غيــر ســليم فــي التصــور اإلســامي،

ألن العقــل عمــدة النقــل وليــس نقيضــه، كمــا أن

النــص يســاند الواقــع وليــس ضــده، فالثنائيــات

المعرفيــة المتداولــة فــي التــراث االســامي هــي

التاريــخ، فــي متــداول الفهــم مــن إرث نتيجــة

وليــس كمــا هــي فــي مقصدهــا الشــرعي منهــا،

ولمقصــد ألصلهــا المفاهيــم رد يجــب ولذلــك

الحكيــم منهــا. الشــارع

المعاصــر االســامي الفكــر يحتاجــه مــا إن

هــو اعــادة التــوازن لمــا انفــرط مــن تفكيــر هــؤالء

الواقــع مرجعيــة معالــم ببحــث وذلــك وهــؤالء،

الصافــي للنبــع بالرجــوع والفتــوى االجتهــاد فــي

فــي خاصــة الصحابــة، وفهــم النبــوة عصــر مــن

فأصبــح الفتــن، فيــه أطلــت الــذي العصــر هــذا

فكــر اإلفــراط أو التفريــط يجــد لــه نصيــرا وظهيــرا

فــي هــذا االتجــاه أو ذاك، فعظــم الخطــب بذلــك

واســتفحل.

معالــم أهــم بإجمــال البحــث انتهــى لقــد

والتــي والفتــوى، االجتهــاد فــي الواقــع مرجعيــة

اآلتــي: فــي اختصارهــا يمكــن

عــن منفصلــة غيــر العلميــة المعرفــة إن

واقعهــا فهــي تتأثــر بالواقــع وتؤثــر فيــه، وعــدم

إدراك ذلــك قــد يــؤدي للحكــم غيــر المحايــد علــى

المعرفــة العلميــة نتيجــة عــدم مراعاة ســياقها

ــخ. فــي التاري

والفتــوى االجتهــاد فــي الواقــع مرجعيــة إن

الصحابــة اجتهــادات مــن ادراكهــا يمكــن

جميعــا(، قدوتنــا )وهــم عليهــم هللا رضــوان

فهمهــا حــال للكليــات الجزئيــات بإرجاعهــم

ــه كمــا أن وتنزيلهــا، ومــرد ذلــك أنهــم أدركــوا أن

لألحــكام الشــرعية منطوقــا للحكــم، لهــا كذلــك

معــان ومقاصــد تبتغــى حــال التنزيــل، ومراعــاة

الواقــع مســلك اجتهــادي تقــاس بــه األحــكام

حــال تنزيلهــا بالنظــر فــي مآالتهــا عنــد مجتهــدي

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 38

الســلف والخلــف مــن علمــاء األمــة.

والفتــوى االجتهــاد فــي الواقــع مرجعيــة إن

أنهــا أو للنــص مكافــئ بديــل أنهــا تعنــي ال

أنصــار ذلــك يدعــي كمــا الوحــي لخطــاب نــد

الواقــع اعتبــار مــن القصــد وإنمــا التغريــب،

حــال فــي االجتهــاد والفتــوى مراعاتــه مرجعــا

التنزيــل، فالرجــوع للواقــع فــي التنزيــل أمــر ال

دور ألن األصولــي، المنهــج فــي منــه منــاص

العقــل فــي فهــم النــص يختلــف عــن دوره فــي

الواقــع. علــى تنزيلــه

الشــرعي الدليــل فقــه فــي دورا للواقــع إن

بالرجــوع ألســباب النــزول فــي القــرآن وأســباب

الــورود فــي الحديــث، ورغــم أن هــذه األســباب

وحدهــا الشــرعي الخطــاب بهــا يختــص لــم

)العبــرة المشــهورة القاعــدة مــن انطاقــا

بعمــوم اللفــظ ال بخصــوص الســبب(، إال أن

النصــوص فــي فهــم مقاصــد لألســباب دورا

للكليــات. الجزئيــات بــرد الشــرعية

منهجيــة فــي حاضــرة الواقــع مرجعيــة إن

األدلــة فــكل العلمــاء، عنــد االســتدالل

االجتهاديــة النقليــة منهــا والعقليــة ارتكــزت فــي

تأصيلهــا علــى مرجعيــة الواقــع، طبعــا ببعــض

ــاره، لكــن وجودهــا فــي التفــاوت بينهــا فــي اعتب

هــذه األدلــة ال يمكــن إنــكاره إال مــن معانــد أو

مكابــر.

البيبليوغرافيا:

القرآن الكريم برواية حفص. �

ابــن بيــة، المحفــوظ عبــد هللا بــن الشــيخ »تنبيــه �

المراجــع علــى تأصيــل فقــه الواقــع التيســير

نمــاء مركــز والتبصيــر«، والتذكيــر والتبشــير

للبحــوث والدراســات، بيــروت، بالشــراكة مــع دار

التجديــد، جــدة، ط1، 014)م.

ابــن دقيــق العيــد، تقــي الديــن أبــو الفتــح محمــد �

القشــيري مطيــع بــن وهــب بــن علــي بــن

األحــكام«، عمــدة شــرح األحــكام »إحــكام

ومدثــر مصطفــى شــيخ تحقيق:مصطفــى

))14ه/)00)م. ط1، الرســالة، مؤسســة ســندس،

ابــن فــارس، أبــو الحســين أحمــد بــن فــارس بــن �

زكريــاء »معجــم مقاييــس اللغــة« تحقيق:عبــد

ــاب العــرب، الســام محمــد هــارون، إتحــاد الكت

طبعــة ))14ه/)00)م

ابــن قيــم الجوزيــة، أبــو عبــد هللا محمــد بــن أبــي �

عــن الموقعيــن »إعــام الزرعــي أيــوب بكــر

الــرؤوف عبــد تحقيق:طــه العالميــن«، رب

)7)1م. طبعــة بيــروت، الجيــل، ســعد،دار

العبــاد«، خيــر هــدي فــي المعــاد »زاد

المنــار مكتبــة بيــروت، الرســالة، مؤسســة

)141ه/4))1م. ط7)، الكويــت، اإلســامية،

ابــن منظــور، محمــد بــن مكرم األفريقــي المصري، �

»لســان العرب«، دار صادر بيروت، ط1،)د ن(.

ــد، نصــر حامــد »نقــد الخطــاب الدينــي« � ــو زي أب

ســينا للنشــر، القاهــرة، ط)، 4))1م.

39أثر مرجعية الواقع يف االجتهاد والفتوى

أحمــد مرعــي، حســن أحمــد المعمــاري »فقــه �

مركــز تطبيقيــة«، أصوليــة دراســة التنزيــل

نمــاء للبحــوث والدراســات، بيــروت، دراســات

)01)م. )14(، ط1، شــرعية

عمــر � بــن مســعود الديــن ســعد التفتازانــي،

لمتــن التوضيــح علــى التلويــح »شــرح

زكريــا تحقيــق الفقــه« أصــول فــي التنقيــح

ط1، بيــروت، العلميــة الكتــب دار عميــرات،

)))1م. )141ه/

الجوينــي، أبــو المعالــي عبــد الملــك بــن عبــد هللا �

الفقــه«، أصــول فــي »البرهــان يوســف بــن

تحقيــق : عبــد العظيــم محمــود الديــب، طبعــة

الوفــاء - المنصــورة – مصــر، الطبعــة 1 ، 1418ه.

وأثــره � الواقــع ماهــر حســن »فقــه حصــوة،

للفكــر العالمــي المعهــد االجتهــاد«، فــي

0)14هـــ/)00)م. ط1، االســامي،

موقفنــا � والتجديــد »التــراث حســن حنفــي،

مــن التــراث القديــم«، المؤسســة الجامعيــة

)141هـــ/)))1م. والتوزيــع، ط4، والنشــر للدراســات

حنفي،حســن »من النص إلى الواقع محاولة �

إلعــادة بنــاء علــم أصــول الفقه«،بيــروت،دار

المــدار اإلســامي، ط )00)م.

»االجتهــاد � مختــار بــن الديــن نــور الخادمــي،

مجاالتــه«، ضوابطــه حجيتــه المقاصــدي

)141ه. العــدد))،ط1، األمــة، كتــاب

فــي � األصوليــة »المناهــج فتحــي الدرينــي،

االجتهــاد بالــرأي فــي التشــريع اإلســامي«،

مؤسســة الرســالة للطباعــة والنشــر، بيــروت،

4)14ه/)01)م. لبنــان، ط)،

ذويــب، حمــادي »جــدل األصــول والواقــع«، دار �

المــدار اإلســامي، بيــروت، ط1، )00)م.

الــرازي، فخــر الديــن محمــد بــن عمــر بــن الحســن �

»المحصــول فــي علــم األصــول« تحقيــق طــه

جابــر فيــاض العلوانــي، الناشــر جامعــة اإلمــام

ط1، الريــاض، االســامية ســعود بــن محمــد

1400هـ.

بــن � بهــادر بــن محمــد الديــن بــدر الزركشــي،

أصــول فــي المحيــط »البحــر هللا عبــد

الفقــه« تحقيق:محمــد محمــد تامــر،دار الكتــب

1)14هـــ/000)م. العلمية،بيــروت،ط

عبــد � علــي الديــن تقــي بــن الديــن تــاج الســبكي،

علــى المنهــاج شــرح فــي »اإلبهــاج الكافــي

منهــاج الوصــول إلى علم األصــول للبيضاوي«،

1404هـــ. بيــروت، ط1، العلميــة الكتــب دار

»األشــباه والنظائــر«، دار الكتــب العلميــة،

ط1، 1411هـــ/1))1م.

السرخســي، شــمس الديــن أبــو بكــر محمــد بــن �

أبــي ســهل »المبســوط«، تحقيق:خليــل محــي

والنشــر للطباعــة الفكــر دار الميــس، الديــن

والتوزيــع، بيــروت، لبنــان، ط1، 1)14هـــ/000)م.

الســلمي، أبــو القاســم بــن الحســن أبــو محمــد �

عــز الديــن عبــد العزيــز بــن عبــد الســام »قواعــد

تحقيق:طــه األنــام«، مصالــح فــي األحــكام

عبــد الــرؤوف ســعد، مكتبــة الكليــات األزهريــة،

أم دار بيــروت، العلميــة، الكتــب دار القاهــرة،

القاهــرة، ط1414ه/1))1م القــرى،

ــي بكــر � ــن أب ــد الرحمــن ب الســيوطي، جــال الديــن عب

»اإلتقــان فــي علــوم القــرآن«، تحقيق:مصطفــى

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 40

شــيخ مصطفــى، مؤسســة الرســالة، بيــروت، ط1،

))14ه/008)م.

بــن موســى � إبراهيــم إســحاق أبــو الشــاطبي،

بــن محمــد اللخمــي الغرناطــي »االعتصــام«،

تحقيــق: ســليم بــن عيــد الهالــي، دار ابــن عفــان،

المملكــة العربيــة الســعودية، ط1، )141ه/)))1م.

الشــريعة«، أصــول فــي »الموافقــات

تحقيــق: أبــو عبيــدة مشــهور بــن حســن آل

ســلمان، دار ابــن عفــان، الطبعــة 1، 1417هـــ/

7))1م

محمــد � بــن علــي بــن محمــد الشــوكاني،

مــن الحــق تحقيــق إلــى الفحــول »إرشــاد

علــم األصــول«، تحقيــق: أحمــد عــزو عنابــة، دار

)141ه/)))1م. ط1، العربــي، الكتــاب

ــد الرحمــن »مدخــل تأسيســي � العضــراوي، عب

فــي الفكــر المقاصــدي«، مركــز نمــاء للبحــوث

والدراســات، بيــروت، ط1، )01)م

»المقاصــد � الهــادي عبــد محمــود فاعــور،

أصوليــة دراســة الشــاطبي اإلمــام عنــد

فقهيــة«، بســيوني للطباعــة، صيــدا، لبنــان، ط1،

7)14ه/)00)م.

القرافي،شــهاب الديــن أبــو العبــاس أحمــد بــن �

إدريــس الصنهاجــي »الفــروق أو أنــوار البــروق

فــي أنــواء الفروق«تحقيــق خليــل المنصــور، دار

الكتــب العلميــة، بيــروت، طبعــة 1418هـــ - 8))1م

محمــد رأفــت ســعيد »أســباب ورود الحديــث �

تحليــل وتأســيس«، كتــاب األمــة 7)، ط1، 1414ه.

ميــارة، أبــو عبــد هللا محمــد بــن أحمــد بــن محمــد �

تحفــة شــرح واإلحــكام »اإلتقــان الفاســي

الحــكام فــي نكــت العقــود واألحكام«المعروف

بشــرح ميــارة، تحقيــق محمد عبد الســام محمد

ســالم، دار الحديــث، القاهــرة، ط ))14ه/011)م.

بيــن � اإلنســان »خافــة المجيــد عبــد النجــار،

النــص جدليــة فــي بحــث والعقــل، الوحــي

والعقــل والواقــع« المعهــد العالمــي للفكــر

االســامي، سلســلة المنهجيــة االســامية )،

)141ه/)))1م. ط)،

وتنزيــا«، فهمــا التديــن فقــه »فــي

وزارة العــدد))-))، األمــة، كتــاب سلســلة

)8)1م. قطــر، االســامية، والشــؤون االوقــاف

المختــار � محمــد بــن يحيــى محمــد الوالتــي،

»إيصــال الســالك إلــى أصــول مذهــب اإلمــام

مالــك« دار ابــن حــزم للطباعــة والنشــر والتوزيــع،

7)14ه/)00)م. ط1، بيــروت،

والواقــع« � المقاصــد »نظريــة محمــد يحيــى،

،8 العــدد معاصــرة، إســامية قضايــا مجلــة

0)14هـــ/)))1م.

41 دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية

Research Papers | الدراسات واألبحاث

مسألة المواطنة بين اإلسالم والغرب

مقاربة للجذور والمعنى والتماثالت

The Issue of Citizenship between Islam and the WestAn Approach to Roots, Meaning and Similarities

Tijani Boulaouali | (((د. التجاني بولعوالي

)1( كلية الاهوت والدراسات الدينية جامعة لوفان – بلجيكا[email protected] :اإليميل

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 42

ملخص البحث:

أصبحــت مســألة المواطنــة مــن القضايــا المهمــة التــي

باتــت تشــغل اليــوم اهتمــام الباحثيــن والخبــراء مــن

مختلــف الحقــول المعرفيــة من سياســة واجتماع ودين

دون وإعــام وغيرهــا. وال يقتصــر هــذا االهتمــام بســياق

آخــر، بقــدر مــا أصبحــت المواطنــة حديث وشــغل معظم

المجتمعــات اإلنســانية المعاصــرة. وقــد اســتجليت أن

نظــرة الغــرب إلــى هــذه القيمــة األخاقيــة واالجتماعيــة

تتقاطــع مــع رؤيــة الديــن اإلســامي فــي أكثــر مــن معنــى

وجانــب، لذلــك جــاءت هــذه الدراســة لتقريــب مســألة

المواطنــة مــن خــال مقارنــة مفهوميــة وتاريخيــة لهــذه

القيمــة المفصليــة بيــن اإلســام والفكــر الغربــي.

ومباحــث فصــول ثاثــة بيــن الدراســة هــذه وتتــوزع

فرعيــة. نقــارب فــي الفصــل األول مفهــوم المواطنــة

الغربــي. أو اإلســامي العربــي المنظــور فــي ســواء

أمــا فــي الفصــل الثانــي فنــوازن بيــن قيمــة المواطنــة

خــال مــن الغربــي الفكــر الديــن اإلســامي وفــي فــي

مســتوييها التاريخــي والفكــري، فــي حيــن نناقــش فــي

الفصــل األخيــر مســألة المواطنــة بكونهــا تشــكل آليــة

عمليــة فــي المجتمعــات المعاصــرة المتعــددة لتحفيــز

التماســك المجتمعــي وتبديــد آفــة الفوبيــا المتبادلــة

بيــن مختلــف مكونــات المجتمــع.

الغربــي، الفكــر اإلســام، المواطنــة، المفتاحيــة: الكلمــات

المدنــي المجتمــع المجتمعــي، التماســك

AbstractThe citizenship is one of the important issues that nowadays

occupies the interest of researchers and experts from different

43مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

knowledge fields, such as politics, sociology,

religion, media, etc. This interest is not limited

to one context without another, but the value

of citizenship is present in almost all modern

human societies. The western vision on this

moral and social value intersects with the

vision of the Islamic religion. Therefore, this

article is written to approximate the topic of

citizenship both conceptual and historical.

This article is divided into three sections.

Firstly, the concept citizenship is defined

both in Islamic and Arabic, and western

terminology. Secondly, a comparison is

made between the value of citizenship in

the Islamic religion and western thought

on historical and intellectual level. Finally,

the citizenship is discussed as a practical

mechanism in the modern multicultural

contexts to stimulate community cohesion

and dispel the mutual phobia between the

various components of society.

Keywords: Citizenship, Islam, Western

Thought, Community Cohesion, Civil Society

مقدمة

المواطنــة مســألة تتنــاول

ــد لمختلــف باعتبارهــا العامــل الموح

ومكوناتــه، المجتمــع شــرائح

بالتناغــم محكومــة يجعلهــا الــذي

التنافــر ال والتقــارب، واالتفاعــل

وإن الســيما والتباعــد، والتشــتت

علــى تنطــوي المواطنــة قيمــة

إمكانيــات هائلــة وعجيبــة، إذا مــا تــم

اســتثمارها بشــكل عقانــي ومتــوازن

عواقــب عنهــا تنتــج فســوف

محمــودة للشــعب واألمــة والبيئــة.

اإلنســانية المجتمعــات أحــوج ومــا

المتعــددة الثقافــات إلى هــذه القيمة

التــي تضــع جميــع مكونــات المجتمــع

المســاواة، قــدم علــى وشــرائحه

منطلــق مــن الــكل وتعامــل

المواطنــة العادلــة ال التوجــه الدينــي

ومــن اإليديولوجــي. أو الثقافــي أو

شــأن ذلــك أن يــرد االعتبــار خصوصــا

فــي المســتقرة األجنبيــة للشــرائح

المجتمعــات األوروبيــة والغربيــة عبــر

كســر الثنائيــات العنصريــة التقليديــة

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 44

المتحضــرون/ نحن/هــم، األنا/اآلخــر،

وطــأة يخفــف أو ويبــدد البرابــرة،

التمركــز الغربــي عبــر منــح فســحات

التعبيــر ــد

قص للهوامــش مناســبة

والحضــاري. التاريخــي وجودهــا عــن

لقد أدرك الكثيرون؛ مؤسســات وأفرادا األهمية

زمــن فــي الســيما المواطنــة، لمســألة القصــوى

النكــوص االجتماعــي والتــردي األخاقــي والطغيــان

السياســي، فراحــوا يلتمســون الحلــول والبدائــل فــي

هــذه القيمــة الجوهريــة، التــي صــارت اليــوم حديــث

واالجتماعيــة والدينيــة التربويــة النــوادي مختلــف

تنميــة قيمــة والسياســية واإلعاميــة. وقــد تمــت

مفهــوم صــوري مجــرد مــن وتطويرهــا المواطنــة

إلــى منهــج عملــي يحضــر فــي مختلــف المؤسســات

والسياســية. واالجتماعيــة التربويــة

مســألة تقريــب إلــى الدراســة هــذه تهــدف

ــة ــة وتاريخي ــة مفهومي ــة مــن خــال مقارن المواطن

لهــذه القيمــة األخاقيــة واالجتماعيــة بيــن اإلســام

ثاثــة الدراســة هــذه وتتــوزع الغربــي، والفكــر

فصــول ومباحــث فرعيــة. نقــارب فــي الفصــل األول

مفهــوم المواطنــة ســواء فــي المنظــور العربــي

الثانــي الفصــل فــي أمــا الغربــي. أو اإلســامي

فنــوازن بيــن قيمــة المواطنــة فــي الديــن اإلســامي

وفــي الفكــر الغربــي مــن خــال مســتوييها التاريخــي

والفكــري. فــي حيــن نناقــش فــي الفصــل األخيــر

عمليــة آليــة تشــكل بكونهــا المواطنــة مســألة

لتحفيــز المتعــددة المعاصــرة المجتمعــات فــي

الفوبيــا آفــة وتبديــد المجتمعــي التماســك

المجتمــع. مكونــات مختلــف بيــن المتبادلــة

الفصل األول:قراءة في مفهوم المواطنة

الجــذر مــن )المواطنــة( لفظــة اشــتقت

الثاثــي )و- ط- ن( الــذي يــرد فــي أغلــب المعاجــم

القديمــة والحديثــة بمعنــى »المنــزل تقيــم فيــه،

وهــو موطــن اإلنســان ومحلــه«.))( وال يوجــد أي أثــر

لهــذه اللفظــة فــي المصــادر المعجميــة واللغويــة

القديمــة، كمــا تــكاد تغيــب مــن المعاجــم العربيــة

المعاصــرة، مــا يــدل علــى أن هــذا المفهــوم حديــث

بذاتــه، يكتفــي ال وهــو والتكــون، بالظهــور عهــد

المصطلحــات مــن جملــة علــى يحيــل بقدرمــا

باعتبــاره كالوطــن ومعنــى، مبنــى منــه القريبــة

انتمــاؤه وإليــه ومقــره، اإلنســان إقامــة »مــكان

تعنــي التــي والوطنيــة يولــد«.))( لــم أم بــه ولــد

تنمــو -والتــي الفطريــة والروابــط »المشــاعر

الــذي الوطــن إلــى اإلنســان لتشــد باالكتســاب-

بكونــه والمواطــن فيــه«.)4( وتوطــن اســتوطنه

لة عضــوا أساســيا فــي تركيبــة المجتمــع المشــك

المواطنيــن/ مــن مجموعــة مــن األصــل فــي

األعضــاء، الذيــن توفــق بينهــم مختلــف المبــادئ

والمشــاعر. واألهــداف

الكبيــر علــي هللا عبــد تــح. العــرب، لســان منظــور، ابــن )((48(8 ص ،)1(80 المعــارف، دار )القاهــرة: وآخــرون،

ــة، المعجــم الوســيط، ط 4، )القاهــرة: ))( مجمــع اللغــة العربيمكتبــة الشــروق الدوليــة، 004)(، ص )104.

)4( محمــد عمــارة، معركــة المصطلحــات بيــن الغــرب واإلســام، ط )، )القاهــرة: نهضــة مصــر، 004)(، ص ))1.

45مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

المواطنــة بمســألة االهتمــام بدايــة وتــؤرخ

فــي المناظــرات الفكريــة والســياقات األكاديميــة

حيــث الماضــي، القــرن تســعينيات بمســتهل

الــذي المواطــن« إلــى »العــودة مفهــوم ظهــر

أطلقــه الباحثــان ويــل كيمليــكا وواينــي نورمــان.))(

تناولــت التــي التعريفــات تنوعــت وقــد

والشــرح بالتوصيــف المواطنــة مصطلــح

والتحليــل، وهــي عــادة مــا تركــز علــى بعــده القانونــي

التربويــة جوانبــه إلــى العرضيــة اإلشــارة مــع

تعريــف فــي ورد والسياســية. واالجتماعيــة

»المفهــوم أن األوروبــي المجلــس لمؤسســة

ــق ــة بســيط نســبيا، فهــو يتعل ــي للمواطن القانون

ولعــل قوانينهــا. وفــق ويحــدد معينــة بدولــة

هــذا مــا يربــط فهــم العديــد مــن النــاس لفكــرة

المواطنــة مباشــرة بفكــرة الوطنيــة، حيــث كثيــرا

بمفهــوم صالــح مواطــن مفهــوم يلتبــس مــا

صالــح«.))( وطنــي

المفهــوم هــذا أن يــرى مــن هنــاك أن كمــا

Civil ارتبــط فــي اآلونــة األخيــرة بالمجتمــع المدنــي

مقابــل فــي يموضــع مــا عــادة الــذي ،Society

الدولــة واقتصــاد الســوق، ويشــير إلــى العاقــات

تبــادل يتــم حيــث المواطنيــن بيــن االجتماعيــة

لذلــك ومأسســتها. الثقافيــة والمعانــي القيــم

فــي أساســية المدنــي المجتمــع موضعــة فــإن

)5( Jane Jenson )ed.(, Introduction: thinking about citizenship and law in an Era of change, Law and citizenship, Law Commission of Canada, )Canada: UBC Press, 2006(, p. 3.

)6( Patricia Brander )ed.(, Kompas, een handleiding voor mensenrechteneducatie met jongeren, )England: Council of Europe England, 2001(, p. 318.

تحديــد مفهــوم المواطنــة؛ ألن األمــر يتعلــق فــي

والتعايــش االجتماعــي بالتماســك الصــدد هــذا

الذاتيــة وبالتنميــة جهــة، مــن المواطنيــن بيــن

لألفــراد وقيمهــم ومعاييرهــم مــن جهــة ثانيــة. لــذا

ال ينبغــي االقتصــار فــي مفهــوم المواطنــة علــى

ــل االهتمــام أيضــا المجــال السياســي فحســب، ب

والفــردي)7(. االجتماعــي بالمجــال

يمكــن ال أنــه البعــض يعتقــد لذلــك؛

إال واف، بشــكل المواطنــة، مفهــوم تحديــد

بالتعــرض إلــى مختلــف الــدالالت واألبعــاد التــي

المواطنــة حيــث القانونــي كالبعــد يتخذهــا،

تعنــي أن يكــون المواطــن عضــوا فــي مجتمــع

سياســي معيــن أو دولــة بعينهــا، وعــادة مــا

أساســيا معيــارا الجنســية« »رابطــة تكــون

فــي تحديــد مــن هــو المواطــن، وبموجــب ذلــك

ينــال مختلــف الحقــوق المدنيــة واالجتماعيــة

معينــة واجبــات مقابــل واالقتصاديــة،

والبعــد ودولتــه)8(. لصالــح مجتمعــه يؤديهــا

الوطنــي، االنتمــاء يعنــي الــذي السياســي

وهــو يمــس قضيــة ســيكولوجية مهمــة هــي

مجــرد وليــس للوطــن باالنتمــاء الشــعور

اإلقامــة فيــه))(. كمــا يحيــل مفهــوم المواطنــة

أيضــا علــى المشــاركة السياســية التــي تجعــل

ويعتبــر فاعــا«، »مواطنــا المواطــن مــن

الفيلســوف أرســطو أول مــن أشــار إلــى هــذا

)7( Geert ten Dam )ed.(, Burgerschapscompetenties: de ontwikkeling van een meetinstrument, )Amsterdam: Kohnstamm Instituut, UvA, 2010(, p 3

)8( ســامح فــوزي، المواطنــة، سلســلة: تعليــم حقــوق اإلنســان )10(، )القاهــرة: مركــز حقــوق اإلنســان، )00)(، ص ) – 11.

))( المصدر نفسه، ص )1.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 46

يعنــي حيــث السياســة، كتابــه فــي الجانــب

كونــك مواطنــا أن تشــارك فــي السياســة)10(.

والبعــد االجتماعــي الــذي يشــير إلــى »حــق كل

ــى فــرص متســاوية مواطــن فــي الحصــول عل

يعيشــها«)11(، التــي الحيــاة جــودة لتطويــر

والبعــد التربــوي الــذي يحيــل علــى األنشــطة

علــى المواطنيــن تســاعد »التــي التعليميــة

مشــاركين، فاعليــن، مواطنيــن يكونــوا أن

مجتمعهــم تجــاه بمســؤولية يتصرفــون

وشــركائهم فــي المواطنــة«))1(، وغيــر ذلــك مــن

األبعــاد.

فيلــم الهولنــدي السوســيولوجي ويميــز

شــخينكل بيــن جانبيــن جوهرييــن متداخليــن فــي

رســمي طابــع ذو أحدهمــا المواطنــة، مفهــوم

الجانــب يشــمل أخاقــي. طابــع ذو والثانــي

مــن جملــة المعاصــرة للمواطنــة الرســمي

الحقــوق والواجبــات، إذ إن كل مواطــن رســمي،

يعتبــر مواطنــا للدولــة، يحمــل جــواز ســفر، يحميــه

ــه هــذا ــون ويجــب أن يخضــع لمــا ينــص علي القان

القانــون، يدفــع الضرائــب والمســتحقات الماليــة

التــي عليــه للدولــة، ولــه الحــق فــي التعويضــات

االجتماعيــة، وغيــر ذلــك. وتنطــوي هــذه الحقــوق

أخاقيــة، جوانــب علــى الرســمية والواجبــات

كاحتــرام الدســتور ودفــع الضرائــب. غيــر أنــه مــن

الممكــن أيضــا توســيع قاعــدة الجانــب األخاقــي

بالمشــاركة المواطــن ليســاهم وتقويتهــا،

)10( Willem Schinkel, De gedroomde samenleving, )Kampen: Klement, 2008(, p. 54.

)11( سامح فوزي، ص )1.

))1( سامح فوزي، ص )).

ســوي بشــكل ويفكــر السياســة، فــي الفعالــة

والماحــظ والتربيــة، الديــن فــي مســائل وبنــاء

المواطنــة علــى أكثــر يركــز اليــوم أصبــح أنــه

وذلــك الرســمية،))1( المواطنــة بــدل األخاقيــة

البنــى شــهدتها التــي الجذريــة التغيــرات جــراء

الغربيــة للمجتمعــات والقانونيــة الديمغرافيــة

مــن والسياســية العماليــة الهجــرات عقــب

الشــمال. نحــو الجنــوب

بنــاء علــى هــذا، يتضــح أن مفهــوم المواطنــة ال

يتعلــق باالنتمــاء الرمــزي إلــى بقعــة ترابيــة معينــة،

ا الوطــن فحســب، بقــدر مــا يطلــق عليهــا مجــاز

يحيــل علــى شــتى المعانــي القانونيــة والسياســية

ــي تترجــم فــي شــكل ــة، الت ــة والتعليمي واالجتماعي

حقــوق وواجبــات مقننــة، تنظــم مختلــف قطاعــات

الجبــارة الجهــود ورغــم وأنســاقه. المجتمــع

قبــل مــن ســواء اإلطــار، هــذا فــي تبــذل التــي

مجــال تنظيــم قصــد األفــراد، أو المؤسســات

المواطنــة، تظــل العديــد مــن األســئلة بخصــوص

وتجــدر والجــدل، النقــاش مثــار القضيــة هــذه

اإلشــارة فــي هــذا المقــام إلــى ثاثــة أمــور أساســية،

يرتبــط األمــر األول بمســألة الهويــة؛ مــا هــي

العاقــة بينهــا وبيــن المواطنــة؟ هــل المواطنــة

تعنــي الهويــة أم أنهــا تختلــف عنها رغــم االرتباط

الوثيــق بيــن هذيــن المفهوميــن؟ أال يظهــر أن

علــى أدل وال الهويــة، مــن أشــمل المواطنــة

ذلــك مــن أنمــوذج المســيحيين العــرب، الذيــن

يشــاركون المواطنيــن المســلمين فــي مســألة

مســألة فــي عنهــم ويختلفــون المواطنــة،

)13( Schinkel, p. 54-55.

47مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

يحمــل منهمــا فريــق فــكل الدينيــة، الهويــة

هويــة تختلــف عــن الفريــق اآلخــر، غيــر أن الجميــع

تحكمــه واحــد وطــن ســقف تحــت يتعايــش

قوانيــن وآليــات المواطنــة.

الترابــي؛ بالمجــال فيتعلــق الثانــي األمــر أمــا

هــل يعتبــر هــذا العنصــر أساســيا فــي المواطنــة

كيــف عنــه؟ االســتغناء يمكــن أنــه أم الكاملــة

المســتقرين المســلمين مــع التعامــل ينبغــي

فقــط غربييــن مواطنيــن بكونهــم الغــرب، فــي

ينتظمــون الــذي الجغرافــي الســياق بحســب

باإلقامــة غربييــن مواطنيــن بكونهــم أم فيــه

ومســلمين باألصــل؟ وهــذا يعنــي أنهــم يمارســون

مواطنــة بضميــر الجمــع، أي ذات أبعــاد متنوعــة،

ــي أن »الفــرد ــة المتعــددة التــي تعن وهــي المواطن

يمكــن أن يكــون فــي الوقــت نفســه مواطنــا ألكثــر

مــن دولــة أو جســم منظــم«)14(. وهــذا مــا ينطبــق

علــى المواطنيــن األوروبييــن الذيــن لهــم حقــوق

وواجبــات، ليــس فقــط تجــاه بلدانهــم األصليــة، بــل

تجــاه االتحــاد األوروبــي أيضــا.

فــي حيــن يحيــل األمــر الثالــث علــى مســألة

فــي الســيما والعرقــي، الثقافــي التعــدد

علــى تتعايــش التــي الغربيــة المجتمعــات

أرضهــا مئــات الجنســيات والثقافــات واألديــان،

فــي تركــز الغربيــة السياســات صــارت لذلــك

الفــرد تأهيــل كيفيــة علــى المواطنــة مســألة

ألن يكــون مواطنــا إيجابيــا وفاعــا فــي مجتمــع

)14( Patricia Brander )ed.(,Kompas, een handleiding voor mensenrechteneducatie met jongeren, )England: Council of Europe England, (001(, p. (1(

بــل واإلثنيــة؛ الثقافيــة بالتعدديــة محكــوم

تفســير بطبعــه، حســب متعــدد فــرد كل وإن

المفكــر تزفينــان تــودوروف، وإن الهويــة الفرديــة

تنشــأ مــن اجتمــاع مختلــف الهويــات الجمعيــة

فــي الشــخص نفســه، حيــث إن كل واحــدة مــن

الثقافــات العديــدة التــي ننتمــي إليهــا تســاهم

نحــن؛ فالنــاس الــذي هــو المتفــرد الكائــن فــي

ليســوا جميعــا علــى قــدم المســاواة، وليســوا

مختلفيــن تمامــا؛ ألن كل واحــد منهــم متعــدد

فــي حــد ذاتــه، يشــترك فــي مواصفــات معينــة

مــع المجموعــات المختلفــة، غيــر أنــه يدمجهــا

الخاصــة))1(. بطريقتــه

دون التعدديــة مســألة ذكــر يمكــن وال

التاريــخ مــن مهمــة مراحــل إلــى اإلشــارة

مختلــف بيــن التعايــش ســادها اإلســامي

بغــداد فــي والفلســفات، والثقافــات األديــان

وغيرهــا. وإســطنبول واألندلــس

الفصل الثاني:المواطنة بين اإلسالم

والغرب

أثنــاء الذهــن إلــى تتبــادر ماحظــة أول إن

بيــن المواطنــة قيمــة حــول بمقارنــة القيــام

الغــرب واإلســام، هــي أن هــذا المفهــوم قطــع

أن قبــل الغــرب فــي ومتنوعــة أشــواطا طويلــة

يبلــغ الدرجــة التــي هــي عليــه، فــي حيــن أنــه ولــد فــي

)15( Tzvetan Todorov, Angst voor de barbaren, transl. Frans de Haan, )Amsterdam/Antwerpen: Atlas, 2009(, p. 86

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 48

ومبادئــه روحــه يســتمد وهــو مكتمــا، اإلســام

ــرا ــي كثي ــوة، الت ــث النب مــن نصــوص الوحــي وأحادي

مــا تتمحــور حــول المواطنــة الصالحــة والحســنة،

وتخطــط لمجتمــع مثالــي يحضــن كل مواطنيــه

الجميــع سواســية إجحــاف، حيــث أو تمييــز دون

المشــط. كأســنان

لمســألة الغربــي الفهــم اســتيعاب وقصــد

المواطنــة ال منــاص مــن التطــرق إلــى أهــم األطــوار

التاريخيــة والمعرفيــة التــي مــرت بهــا منــذ العصــر

اليونانــي إلــى اليــوم))1(، مــع مناقشــتها مــن وجهــة

النظــر اإلســامية.

كان للمواطنــة: اإلغريقيــة الجــذور

القديــم اليونانــي المجتمــع فــي المواطنــون

لهــا يخــول التــي االجتماعيــة الفئــة هــم

غيــر الدولــة، شــؤون فــي المشــاركة القانــون

أن الجميــع لــم يكــن يتمتــع بصفــة »مواطــن«،

خصوصــا العبيــد والنســاء الذيــن اعتبــروا رعايــا

أن ويمكــن الدنيــا، الدرجــة مــن ومواطنيــن

نســتحضر فــي هــذا الصــدد تشــبيه الفيلســوف

أفاطــون مجتمــع »دولــة المدينــة« بأنــه بمثابــة

جســد ينقســم إلــى ثاثــة أجــزاء: أولهــا الــرأس

االســتعاري بتعبيــره أو العقــل يحمــل الــذي

)اللوغــوس(، العقــل كرســي بكونــه الــرأس

وثانيهــا الصــدر الــذي تنبــع منــه الطموحــات

)التيمــوس(، والنبيلــة الســامية والعواطــف

وثالثهــا األطــراف الســفلى مــن الجســد حيــث

توجــد العواطــف الدنيــا والمنحطــة )اإليــروس(؛

االجتماعــي الجســد مــن األول الجــزء يمثــل

)16( Patricia Brander, p. 319

أصحــاب العقــول وهــم الفاســفة، أمــا الجــزء

الثانــي فيمثلــه ذوو األخــاق النبيلــة وهــم حراس

الثالــث دولــة المدينــة، فــي حيــن يمثــل الجــزء

الجماهيــر العاديــة مــن الشــعب)17(. فــي مقابــل

اإلســام رســخ العنصريــة، الوضعيــة هــذه

النــاس بيــن المســاواة مبــدأ ظهــوره منــذ

كافــة، وعــدم التمييــز بيــن الرجــل والمــرأة؛ بــل

ــر اإلنســان وحفــز اإلســام المجتمــع علــى تحري

حكــم والســنة القــرآن فأقــر االســتعباد، مــن

تحريــر رقبــة العبــد مــن االســترقاق فــي مختلــف

المناســبات، كمــا هــو األمــر أثنــاء إعطــاء زكاة

األمــوال التــي يمكــن تخصيصهــا لعتــق الرقــاب،

ــن ــكن وٱلعمل ــراء وٱلمس ــت للفق دق ــا ٱلص م ﴿إنــاب ﴾)18(. ــم وف ٱلرق وبه ل ــة ق ف ــا وٱلمؤل يه عل

والهويــة المواطنــة بيــن الوصــل

لــدى الرؤيــة طويــا الوطنيــة: ســادت هــذه

القوميــة النزعــات تنامــت حيــث األوروبييــن،

المواطــن ترهــن ظلــت التــي والوطنيــة،

ــه، وتشــحنه ــذي يســتقر في ــي ال بالمجــال التراب

مــا الضيقــة، والعرقيــة الجاهليــة بالعصبيــة

فســح المجــال أمــام الصراعــات المريــرة بيــن

التقليديــة، مختلــف اإلمبراطوريــات األوروبيــة

ولعــل أهمهــا مــا يعــرف فــي التاريــخ األوروبــي

نشــبت التــي المســيحية الدينيــة بالحــروب

فــي القرنيــن الســادس عشــر والســابع عشــر

واســتغرقت والبروتســتانت، الكاثوليــك بيــن

أكثــر مــن 0)1 ســنة، ســادها قتــال شــرس عــم

األوروبيــة، والــدول اإلمبراطوريــات معظــم

)17( Schinkel, p. 17, 18

)18( التوبة: 0)

49مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

اتفاقيــة عقــد عقــب نســبي بشــكل توقــف

مونســتر عــام 48)1. ))1(فــي حيــن يركــز اإلســام

الدينــي البعــد علــى المواطنــة قضيــة فــي

الجامــع، الــذي يتخطــى اإلحداثيــات الجغرافيــة

ليوفــق بيــن الشــعوب المســلمة أينمــا كانــت،

وكيفمــا كانــت، مــا يعنــي أن اإلســام يرفــض

الوطنيــة بالهويــة األعمــى التشــبث ذلــك

بالمفهــوم الغربــي الضيــق، ويدعــو إلــى مــا هــو

الــذي األمــة ذلــك، وهــو مفهــوم أوســع مــن

يســتوعب المســلمين كلهــم أجمعيــن، بغــض

النظــر عــن انتمائهــم العرقــي ولــون بشــرتهم

ولغــة حديثهــم وتموقعهــم الجغرافــي، وهــذا

مــا يشــدد عليــه القــرآن الكريــم بشــكل واضــح:

نــا ربكــم ــة وحــدة وأ م

تكــم أ م

﴿إن هــذهۦ أ

فٱعبــدون ٩٢﴾)0)(.

وقــد للمواطنــة: الليبرالــي البعــد

تولــدت اإلرهاصــات األولــى للبعــد الليبرالــي منــذ

اتفاقيــة عقــب وتحديــدا عشــر، التاســع القــرن

مصالــح علــى التركيــز انصــب حيــث مونســتر،

المواطنيــن، علــى اختــاف شــرائحهم وانتماءاتهــم

ومعتقداتهــم، الذيــن أصبحــوا يتمتعــون بالحقــوق

السياســية واالنتخابيــة. ولعــل ذلــك يشــكل قفــزة

نوعيــة فــي التاريــخ السياســي والفكــري األوروبــي،

الــذي كانــت قــد مهــدت لــه فلســفة عصــر األنــوار،

العلمــاء غرســه لمــا ثمــرة إال هــي مــا التــي

يكشــف كمــا أنــه غيــر المســلمون. والفاســفة

)19( Henk Vroom, Een waaier van visies godsdienstfilosofie en pluralisme, )Kampen: Agora, 2003(, p. 20

)0)( األنبياء: ))

ظــل فــروم هانــك الهولنــدي الديــن فيلســوف

ــى أرض الواقــع ــود معاهــدة مونســتر عل ــل بن تنزي

نســبيا؛ ألن حاكــم أو أميــر كل منطقــة أو دولــة كان

يســود البــاد فــي إطــار مــا تقــرره تعاليــم كل ديــن،

وهــذا مــا لــم يكــن أبــدا فــي صالــح األقليــات الدينيــة

األخــرى)1)(.

ارتفعــت االجتماعيــة: المواطنــة طــور

فــي القــرن العشــرين أصــوات تقــول بــأن الحقــوق

المدنيــة والسياســية مــا هــي إال جــزء ممــا ينتظــره

ذلــك، عــن فضــا ألنــه الدولــة؛ مــن المواطنــون

بتحســين ظــروف تتعلــق هنــاك حقــوق جوهريــة

المطالــب هــذه ترجمــت وقــد والعمــل، العيــش

منــذ منتصــف القــرن العشــرين فــي شــكل مواثيــق

عالميــة مشــتركة تصدرهــا منظمــات دوليــة، تأتــي

منظمــة األمــم المتحــدة علــى رأســها، وقــد ســجل

المســلمون الســبق فــي هــذا المجــال منــذ قــرون

طويلــة، الســيما أثنــاء مرحلــة حكــم العمريــن رضــي

هللا عنهمــا؛ عمــر بــن الخطــاب وعمر بن عبد العزيز،

اللذيــن طبقــت عدالتهمــا اآلفــاق، فــذاق عســيلتها

الدانــي والقاصــي، المســلم وغيــر المســلم، ولعــل

العهــدة العمريــة التــي وجههــا أميــر المؤمنيــن عمــر

ــاء ــاء أثن ــى أهــل إيلي ــه إل ــن الخطــاب رضــي هللا عن ب

علــى خيــر شــاهد تظــل للقــدس التاريخــي فتحــه

قيمــة المواطنــة، التــي جــاء بهــا اإلســام فــي ســياق

)21( Henk Vroom, p. 20

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 50

كان محكومــا بالظلــم واالســتبداد والهمجيــة)))(.

هنــاك أصبــح المواطنــة: علــى التربيــة

المواطنــة أن علــى اإلجمــاع مــن نــوع اليــوم

ليســت مســألة فطريــة، وإنمــا تكتســب بالتعليم

والتربيــة، لذلــك عملــت الكثيــر مــن المؤسســات

إدخــال علــى والغربيــة األوروبيــة البيداغوجيــة

التعليميــة، البرامــج فــي المواطنــة مســألة

وتجــدر اإلشــارة فــي هــذا الصــدد، إلــى األنمــوذج

بصيغــة المواطنــة، اعتمــد الــذي الهولنــدي

رســمية فــي المناهــج الدراســية منــذ عــام )00)،

بكونهــا المواطنــة بيــن التفريــق يتــم حيــث

يركــز ممارســة. باعتبارهــا والمواطنــة نتيجــة

فــي المقــام األول علــى المعــارف واألدوات التــي

يكتســبها الطالــب أثنــاء الدراســة، ليســتثمرها

فيمــا بعــد بكونــه مواطنــا فــي المجتمــع. أمــا فــي

)))( ينظــر نــص العهــدة العمريــة، وهــو كاآلتــي: "بســم هللا الرحمــن الرحيــم، هــذا مــا أعطــى عبــد هللا عمــر أميــر المؤمنيــن أهــل إيليــاء مــن األمــان؛ أعطاهــم أمانــا ألنفســهم وأموالهــم؛ ملتهــا، وســائر وبريئهــا وســقيمها وصلبناهــم، وكنائســهم أنــه ال تســكن كنائســهم وال تهــدم، وال ينتقــص منهــا وال مــن أموالهــم، وال مــن مــن شــيء مــن صليبهــم، وال حيزهــا، وال يكرهــون علــى دينهــم، وال يضــار أحــد منهــم، وال يســكن بإيليــاء معهــم أحــد مــن اليهــود، وعلــى أهــل إيليــاء أن يعطــوا الجزيــة كمــا يعطــي أهــل المدائــن، وعليهــم أن يخرجــوا منهــا الــروم واللصــوت؛ فمــن خــرج منهــم فهــو آمــن علــى نفســه ومالــه حتــى يبلغــوا مأمنهــم؛ ومــن أقــام منهــم فهــو آمــن؛ وعليــه مثــل يــة، ومــن أحــب مــن أهــل إيليــاء مــا علــى أهــل إيليــاء مــن الجزأن يســير بنفســه ومالــه مــع الــروم ويخلــي بيعهــم وصلبهــم فإنهــم آمنــون علــى أنفســهم وعلــى بيعهــم وصلبهــم، حتــى يبلغــوا مأمنهــم، ومــن كان بهــا مــن أهــل األرض قبــل مقتــل فــان، فمــن شــاء منهــم قعــدوا عليــه مثــل مــا علــى أهــل إيليــاء مــن الجزيــة، ومــن شــاء ســار مــع الــروم؛ ومــن شــاء رجــع إلــى أهلــه فإنــه ال يؤخــذ منهــم شــيء حتــى يحصــد حصادهــم؛ وعلــى مــا فــي الكتــاب عهــد هللا وذمــة رســوله وذمــة الخفــاء وذمــة المؤمنيــن إذا أعطــوا الــذي عليهــم مــن الجزيــة .شــهد علــى ذلــك خالــد بــن الوليــد، وعمــرو بــن العــاص، وعبــد الرحمــن بــن عــوف، ومعاويــة بــن أبــى ســفيان. وكتــب وحضــر ســنة خمــس الرســل تاريــخ الطبــري تاريــخ الطبــري، جعفــر عشــرة. أبــو والملــوك ج )، تــح. محمــد أبــو الفضــل إبراهيــم، )القاهــرة: دار

المعــارف، )))1(، ص )0)

الحيــاة فــي الشــباب الثانــي، فيســاهم المقــام

االجتماعيــة، ويتعلمــون كيــف يكونــون مواطنيــن

مــن خــال المشــاركة فــي مختلــف الممارســات

االجتماعيــة والثقافيــة داخــل األســرة، فــي وقــت

الفــراغ، فــي العمــل، فــي المدرســة وغيــر ذلــك،

حيــث يتــم التفاعــل مــع اآلخريــن)))(.

لقــد ســبقت اإلشــارة إلــى أن المواطنــة ولــدت

المســتوى علــى ليــس مكتملــة، اإلســام فــي

التطبيــق صعيــد علــى بــل فقــط، النظــري

والتنزيــل الواقعــي أيضــا، الســيما أثنــاء المرحلــة

إرســاء تــم حيــث الراشــدة، والخافــة النبويــة

دعامــات المجتمــع اإلســامي األنمــوذج، الــذي كان

متميــزا ســواء عــن المجتمــع الجاهلــي المحلــي أو

والفارســية، الروميــة األجنبيــة المجتمعــات عــن

فظهــرت ألول مــرة فــي تاريــخ اإلنســانية مفاهيــم

الكرامــة، المســاواة، العدالــة، الشــورى وغيرهــا،

لمســألة األساســية اللبنــات تشــكل التــي

والمــكان الزمــان ذلــك فــي ليــس المواطنــة،

فقــط، بــل عبــر كل الدهــور والجغرافيــات. وهــذا مــا

يســري، بشــكل أو بآخــر، علــى مســألة المواطنــة

كمــا ينظــر لهــا اليــوم فــي مختلــف البلــدان الغربيــة.

نقتــرح فــي هــذا البــاب وثيقــة رســمية حــول مــا

يطلــق عليــه »المواطنــة المســؤولة«، أصدرتهــا

وزارة الداخليــة الهولنديــة عــام )00)، وقــد دبجتهــا

ــة: بالفقــرة اآلتي

»نحــن نتمتــع بحقــوق، لكــن فــي الوقــت ذاتــه

نخضــع لقوانيــن، ونســعى إلــى حيــاة مســتقلة، وال

)23( Geert ten Dam , p. 4

51مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

مجــال هنــا للنقــاش، باإلضافــة إلــى ذلــك، توجــد

قوانيــن، آراء وســلوكات غيــر مقننــة بواســطتها

هــذه المجتمــع، صياغــة فــي جميعــا نســاهم

العناصــر التــي تتركــب منهــا المواطنــة المســؤولة

والديمقراطيــة الحيــوي المجتمــع مفتــاح تعتبــر

تقتصــر ال المعنــى، بهــذا المواطنــة إن الجيــدة؛

علــى الخضــوع أو الجــرأة، وإنمــا تتضمــن عناصــر

وأثنــاء البنــاءة، والمواجهــة النقــدي الموقــف

يشــكل هولنــدا فــي المجتمــع حــول النقــاش

منطلــق«)4)(. أهــم التعايــش وتعضيــد تأهيــل

المســؤولة، المواطنــة هــذه تتأســس

الرســمية، الهولنديــة الرؤيــة هــذه حســب

االحتــرام، هــي: جوهريــة دعامــات أربــع علــى

آليــة البيئــة وتأهيــل التكافــل االجتماعــي، حمايــة

علــى عنصــر كل شــرح تــم حيــث الديمقراطيــة،

حــدة، كمــا يتحــدد مــن خــال االقتباســات اآلتيــة:

الكرامــة مبــدأ علــى ويتأســس االحتــرام:

االحتــرام مــن مناخــا توفــر باعتبارهــا اإلنســانية

والحقــوق والمواقــف للــذوات المتبــادل

العميــق الوعــي مــع االجتماعيــة، والممتلــكات

اآلخريــن)))(. علــى اإلنســان ســلوك بتأثيــر

التكافــل االجتماعــي: الــذي يحفــز شــعور

التقــارب قيــم ويرســخ والطمأنينــة، األمــن

التكافــل تعضــد التــي المتبــادل واالعتنــاء

مــن جهــة، واالرتبــاط ســواء فيمــا االجتماعــي

)24( MBZK, Verantwoordelijk burgerschap, een kwestie van geven en nemen, )Den Haag: Ministerie van Binnenlandse Zaken en Koninkrijksrelaties 2009(, p. 5

)25( MBZK, p. 10

بيــن النــاس أو فيمــا بيــن النــاس والمحيــط مــن

أخــرى)))(. جهــة

بعيــن نأخــذ أن ينبغــي البيئــة: حمايــة

االعتبــار المحيــط والطبيعــة، ونعتنــي بهمــا دون

القادمــة األجيــال نحــرم ال حتــى وتبذيــر، إهــدار

مــن حقهــا فــي ذلــك. مــن هــذا المنطلــق، يتحتــم

واعيــن وســلوكاتنا خياراتنــا فــي نكــون أن علينــا

.)(7 ( بالمســتقبل

الديمقراطيــة الديمقراطيــة: آليــة تأهيــل

للجميــع يحــق تثمينــه، حيــث يجــب تعتبــر مكســبا

أن يســاهم فــي هــذا المســار، ليــس بنيــل الحقــوق

فقــط، بــل بالمحافظــة علــى هــذا المكســب أيضــا)8)(.

بنــاء علــى مــا جــاء فــي هــذه الوثيقــة الرســمية

مــن أفــكار تعتبــر المحــددات الجوهريــة لمســألة

ال أنهــا يظهــر عامــة، الغــرب فــي المواطنــة

العامــة اإلســامية الرؤيــة عــن كثيــرا تختلــف

اإلنســان تعالــى كــرم هللا حيــث القضيــة، لهــذه

ــم ف لناه ــي آدم وح ــا ب ــد كرمن ق غايــة التكريــم، ﴿ول

لناهــم ع بــات وفض ي ــن الط والحــر ورزقناهــم م الــرقنــا تفضيــا﴾)))(، وتســامح مــع غير ــن خل م كثــر مالمســلمين الذيــن ضمــن لهــم القانــون اإلســامي

مختلــف الحقــوق المدنيــة والدينيــة واالجتماعيــة،

كمــا هــو منصــوص عليــه فــي العهــدة العمريــة

رســخ كمــا التاريخيــة. االتفاقيــات مــن وغيرهــا

صــان الــذي االجتماعــي التكافــل مبــدأ اإلســام

)26( MBZK, p. 14

)27( MBZK, p. 18

)28( MBZK, p. 22

)))( اإلسراء: 70

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 52

ودعــا والمحتاجيــن، والمســاكين الفقــراء حرمــة

فئــات مختلــف بيــن والتضامــن التعــاون إلــى

ــوا ــوى ول تعاون ق وٱتل ــر ــوا ع ٱل المجتمــع، ﴿وتعاون

ــاب ق ــديد ٱلع ش إن ٱلل ــوا ٱلل ق ــدون وٱت ــم وٱلع ث ع ٱل٢﴾،)0)( دون أن يغيــب المحيــط الــذي هــو بمثابــة علــى حمايــة لإلنســان، فحــث الطبيعــي المــأوى

المحيــط ونظافــة بالحيــوان والرفــق البيئــة

ومــا إلــى ذلــك. ولــن تتحقــق هــذه األمــور إال فــي

ظــل مجتمــع متــوازن ومنفتــح تحكمــه العدالــة

مرهــم شــورى بينهــم والمســاواة والشــورى، ﴿وأ

ــون ٣٨﴾)1)(. ق ــم ينف ــا رزقنه ومم

الفصل الثالث:المواطنة وترسيخ التماسك

المجتمعي

فــي ســواء قديــم، المواطنــة مفهــوم إن

الرؤيــة مــن جــذوره يســتمد حيــث اإلســام

القرآنيــة والنبويــة لإلنســان والوجــود والعاقــات

العامــة، أو فــي الغــرب حيــث يشــكل فكــر األنــوار

منطلقــا أساســيا للتطــورات الجذريــة التــي ســوف

فلســفات الســيما األوروبــي، الواقــع يشــهدها

جــان جــاك روســو ومونتســكيو وكانــط وغيرهــم،

السياســات إمــداد فــي رياديــا ا دور أدت التــي

وســوف والــرؤى، األفــكار بشــتى األوروبيــة

تترجــم هــذه األفــكار مــع مــرور الزمــن إلــى قوانيــن

الحيــاة مجــاالت لمختلــف منظمــة ومســاطر

وجوانبهــا، ولعــل القاعــدة الســلوكية المشــهورة

كانــط إيمانويــل األلمانــي المفكــر أرســاها التــي

)0)( المائدة: )

)1)( الشورى: 8)

التــي مؤداهــا؛ »ال ينبغــي أن تســبب لآلخريــن مــا ال

تريــد أن يفعــل بــك«)))( تعتبــر عصــب المواطنــة

المعاصــرة. الغربيــة

لكــن؛ رغــم هــذه التركة الفكريــة الوازنة والتراكم

المعرفــي الغنــي، يظــل موضــوع المواطنــة محــط

لــم مــا إشــكاليات ثمــة كأن والتنظيــر، الجــدل

مــن الفلســفة والفكــر والسياســة بعــد تتمكــن

ــى التســاؤل: ــة المفحمــة عنهــا، مــا يدعــو إل اإلجاب

لمــاذا كل هــذا االهتمــام بمســألة المواطنــة؟ أال

تكفــي كل القوانيــن التــي ســنت، والمســاطر التــي

انتهجــت، إلرســاء هــذه التــي وضعــت، واآلليــات

القيمــة األخاقيــة واالجتماعيــة والقانونيــة داخــل

المجتمــع، ومــن ثــم تعميمهــا علــى المؤسســات

المؤسســات بلــوغ رغــم إنــه ثــم واألفــراد؟

بعيــدا شــأوا واألكاديميــة السياســية الغربيــة

والتعايــش االجتماعيــة المواطنــة مجــال فــي

بيــن تعلــو أنــه إال الدينــي، والتســامح الثقافــي

الفينــة واألخــرى أصــوات تحــذر مــن خطــر »التمــازج

المجتمعــات تشــهده باتــت الــذي الهجيــن«

الغربيــة المعاصــرة، وتشــكك فــي قيــم االنفتــاح

التــي تدعــو إليهــا فلســفة التعدديــة والتعايــش

وحــوار الثقافــات واألديــان، بــل وتقــوض مــا حققــه

ديمقراطيــة مكتســبات مــن الحضــاري الغــرب

ومدنيــة، فهــي تــزرع بذلــك بــذور خــوف وهمــي مــن

إقامــة العمــران البشــري الــذي ال يتأســس إال علــى

التعدديــة وقبــول اآلخــر.

وهــذا يــدل علــى أن المجتمعــات المعاصــرة

)32( What you do not wish done to yourself, do not do to others.

53مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

صــارت فــي مــأزق عــارم، أمام نشــوء العديد من

الظواهــر غيــر المتوقعة والوضعيــات الجديدة،

والعنصريــة، والعولمــة والتعدديــة كالهجــرة

مــا يجعــل الحكومــات الغربيــة تتحــرك بشــكل

اســتعجالي، وهــي تســتنجد بمختلــف الجهــات

واإلعاميــة. والقانونيــة والتربويــة العلميــة

هــذا تبريــر حــول اإلجابــات تعــددت وهكــذا

اإلقبــال المكثــف فــي العقــد األخير على مســألة

المواطنــة، التــي »أصبحــت بمثابــة الحــل األنجــع

وهــي: كبيــرة اجتماعيــة معضــات ألربــع

ثقافــة االجتماعــي، التماســك إلــى االفتقــار

االســتهاك، االنغــاق االجتماعــي والهــوة بيــن

المواطنيــن والســلطة«)))(. ويمكــن للمواطنــة

ــرا فــي صــون الوحــدة ا كبي ــؤدي دور ــك أن ت كذل

الخارجيــة التفكيــك مؤثــرات مــن الوطنيــة

واإليديولوجيــات األجنبــي كالغــزو والداخليــة،

والتطــرف. الهدامــة

لعــل الكثيريــن يعتقــدون أن حــل مثــل هــذه

بواســطة إال يتأتــى لــن االجتماعيــة اإلشــكاليات

قيمــة المواطنــة، لكــن كيــف؟ الســيما فــي زمــن

يقــدم الجديــد اإلعــام حيــث المعرفــي، التدفــق

لإلنســان مختلــف اإلمكانيــات العلميــة والفكريــة،

التــي لــم تتوفــر لــه علــى اإلطــاق بهــذه الســرعة

إلــى تشــير فاإلحصائيــات ذلــك، ومــع والكثافــة.

تزايــد اســتفحال المشــاكل االجتماعيــة واألخاقية

كارثــي بمســتقبل تنــذر واألرقــام والسياســية،

لإلنســان والبيئــة علــى حــد ســواء.

)33( Evelien Tonkens, De bal bij de burger Burgerschap en publieke moraal in een pluriforme, dynamische samenleving, )Amsterdam: Vossiuspers UvA, 2008(, p. 5

الوضعيــة لهــذه الوحيــد التفســير إن

الحرجــة التــي تبــدو فيهــا قيمــة المواطنــة مجــرد

شــعار نظــري، هــو غيــاب القابليــة الكافيــة لــدى

لذلــك ومكوناتــه، أطيافــه بشــتى المجتمــع

فــإن العمــل الجــاد والبنــاء يبــدأ مــن التنقيــب

عــن األســباب التــي تقــف وراء تدنــي االســتعداد

المجتمــع شــرائح بعــض لــدى النفســي

مشــتركة مواطنــة ظــل فــي العيــش لقبــول

ــد ــث فــي هــذا الصــدد عن ــة. ويجــدر التري ومتبادل

مقاربــة علميــة تركــز علــى العوامــل الذاتيــة لــدى

المواطــن، مــن شــأنها أن تســهم فــي تأهيــل

مبــدأ المواطنــة لديــه، وجعلــه عنصــرا جوهريــا

فــي حياتــه الفرديــة والجماعيــة، وهــذه المقاربــة

للسوســيولوجية الهولنديــة إفيليــن تونكنــس

تحــاول مــن خالهــا أن تــزود المواطــن بآليــات

مــن المســاهمة علــى تحفــزه مرنــة واقعيــة

يتخبــط التــي اإلشــكاليات حــل فــي موقعــه

ــن مــن مــد جســور فيهــا مجتمعــه، مــا قــد يمك

مــن بينهــم فيمــا المواطنيــن بيــن التعــاون

ناحيــة مــن والدولــة المواطنيــن وبيــن ناحيــة،

أربعــة علــى الرؤيــة هــذه وتتأســس أخــرى.)4)(

والعنايــة واللباقــة، المســؤولية، وهــي: أبعــاد

والتداوليــة.

المواطــن المســؤول: يتميــز هــذا الصنــف

مــن المواطنيــن بتحمــل المســؤولية واالنخــراط

ليــس المبــادرة وأخــذ االجتماعيــة الرعايــة فــي

لنفســه فقــط، بــل للحــي أيضــا، وهــو ال ينقــذ بذلــك

نفســه فحســب، بقــدر مــا يخــدم المحيــط الــذي

)34( Tonkens, p. 5

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 54

إليــه، ويهتــم باآلخريــن، كمــا يشــارك فــي ينتمــي

التــي والتربويــة االجتماعيــة األنشــطة مختلــف

تخــص الحــي والمدينــة، وهكــذا يســاهم فــي حــل

منهــا تعانــي التــي االجتماعــي التفتــت معضلــة

النــوع الكثيــر مــن المجتمعــات المعاصــرة؛ هــذا

مــن المواطنيــن يحفــز كثيــرا مــن قبــل الدولــة؛ ألنــه

تقلصــت بنفســه، واكتفــى عنهــا اســتقل كلمــا

االجتماعيــة والحكومــات الســلطات أعبــاء

تتدخــل أال تحــاول الدولــة إن ثــم واالقتصاديــة.

فــي أنشــطة المواطنيــن، فهــي تمنحهــم الحريــة

الكافيــة، لكــن مقابــل أن يتحملــوا مســؤولياتهم

المنوطــة بهــم. علــى هــذا النحــو تنشــأ المواطنــة

تلقائــي)))(. بشــكل الحقيقيــة

كثيــرا يعتنــي الــذي الراعــي: المواطــن

تقويــة فــي بذلــك يســاهم وهــو باآلخريــن،

التماســك االجتماعــي، ويتمثــل ذلــك بجــاء تــام في

كفاحــه ضــد آفــة التهميــش وثقافــة االســتهاك،

حيــث أفلــح اقتصــاد الســوق فــي خلــق المواطــن

إال الحيــاة فــي لــه هــدف ال الــذي المســتهلك،

لــه يقدمهــا التــي المتنوعــة الســلع اســتهاك

ــك أن يمنحــه ــه أن مــن شــأن ذل ــا من الســوق زعم

ــم مــا هــو ــر أن ذلــك الحل ــدا مــن الســعادة، غي مزي

خــادع!)))( ســراب إال

يعامــل الــذي اللبــق: المواطــن

اآلخريــن بلباقــة ويحاســبهم بدهــاء وبديهــة

التــي والتجــاوزات الخــروق بعــض حــول

يرتكبونهــا، كأن يطلــب مــن مواطــن معيــن

)35( Tonkens, p. 10

)36( Tonkens, p. 11

المخصصــة األماكــن فــي القــاذورات رمــي

لهــا ال فــي الطريــق. فهــو يقــف علــى طــرف

نقيــض مــن المواطــن العدوانــي والطائــش

واألنانــي والمخــرب، وقــد ظهــر هــذا النــوع

علــى األخيــرة اآلونــة فــي المواطنيــن مــن

مســرح األحــداث، فهــو يســاهم كثيــرا فــي

األمــن االجتماعــي والبيئــي عــن طريــق نصــح

وتنظيــم الســلطات وإخبــار المواطنيــن

المفارقــة ومــن ذلــك)7)(، وغيــر األنشــطة،

الغريبــة أن هــذا الصنــف مــن المواطنين غير

مقبــول فــي بعــض المجتمعات اإلســامية،

ضــد الدولــة مــع يتعــاون عندمــا الســيما

آفــات التهريــب والتخريــب واإلرهــاب، فينظــر

إليــه علــى أنــه خائــن ومتواطــئ مــع الســلطة!

جليلــة خدمــات يســدي أنــه حيــن فــي

وأمتــه. لمجتمعــه

مــن الصنــف هــذا المتفاعــل: المواطــن

المواطنيــن يظــل فــي نقــاش مســتمر ومتبــادل

فــي غيــره مــع ويفكــر المجتمــع، شــؤون حــول

اللقــاءات مختلــف خــال مــن والبدائــل الحلــول

أنــه التواصليــة المتعلقــة بالحــي والمدينــة، كمــا

يشــارك فــي لجــان األحيــاء والجمعيــات التعليميــة،

وينفتــح علــى الجهــات المعنيــة والمنتخبيــن، فهــو

المواطنيــن بيــن الهــوة ردم فــي بذلــك يســاهم

الشــرائح مختلــف وبيــن جهــة، مــن والســلطة

االجتماعية من جهة أخرى)8)(.

)37( Tonkens, p. 12

)38( Tonkens, p. 12

55مسألة املواطنة بني اإلسالم والغرب

خاتمة

اليــوم تشــكل أصبحــت المواطنــة إن

اجتماعــي هــو مــا فيهــا يتقاطــع قيمــة أهــم

مختلــف فيهــا وتشــترك وسياســي، وأخاقــي

الفلســفات والثقافــات واألديــان، فهــي ليســت

ثمــرة الديمقراطيــة الغربيــة، كمــا تدعــي بعــض

بــل الغربيــة، والفلســفية الفكريــة النظريــات

نتيجــة واقعيــة للحاجــة الوجوديــة لــدى اإلنســان

الخلدونــي، بالمفهــوم البشــري العمــران فــي

فــي حاضــرا يظــل الصــراع محــدد أن فرغــم

أجــل مــن فقــط ليــس اإلنســانية، العاقــات

لاســتزادة القديــم بالمفهــوم الترابــي النفــوذ

مــن المــاء والــكأل واألرض، وال مــن أجــل التوســع

االســتراتيجي بالمفهــوم الحديــث للتحكــم فــي

االقتصــاد والمــال واإلعــام، بــل مــن أجــل الحــق/

الحقيقــة الــذي هــو مــدار األســطورة والفلســفة

المعرفيــة الحقــول فهــذه والقانــون، والديــن

علــى تبايــن منطلقاتهــا وآلياتهــا تســعى كلهــا

مــا وهــذا الحقيقــة، وادعــاء الحــق إقــرار إلــى

إشــعال واألمكنــة األزمنــة عبــر يقتضــي كان

فتيــل الصراعــات وتأجيــج الحــروب، إال أن ذلــك

لــم يحجــب رغبــة اإلنســان الدفينــة فــي التقــارب

التاريــخ يشــهد إذ واالجتمــاع، والتعايــش

وتداخــل الحضــارات التقــاء علــى اإلنســاني

الثقافــات وتمــازج الشــعوب فــي غيــر مــا مرحلــة

أو منطقــة، واليــوم قــد تهيــأت مختلــف األســباب

الثقافيــة والسياســية واالقتصاديــة والتواصلية؛

الثقافــات شــتى مــن النــاس يجتمــع ألن

ــات واألعــراق فــي مجتمــع واحــد تحكمــه والهوي

قيــم العدالــة والديمقراطيــة والمواطنــة، وكلمــا

منظمــا أخاقيــا إطــارا المواطنــة شــكلت

اختــاف علــى بينهــم فيمــا النــاس لعاقــات

تبــددت ومشــاربهم، ومعتقداتهــم أروماتهــم

غمائــم الخــوف المتبــادل بيــن مكونــات المجتمــع

يقــف الــذي الوجــودي القلــق وتاشــى الواحــد،

حائــا بيــن الــذات واآلخــر، بيــن المتحضــر والبربــري

واإلســام. الغــرب وبيــن

البيبليوغرافيا:

أ- العربية:

القرآن الكريم.

لســان األنصــاري(، )اإلفريقــي منظــور ابــن

وآخــرون، الكبيــر علــي هللا عبــد تــح. العــرب،

)1(80 المعــارف، دار )القاهــرة:

أبــو جعفــر الطبــري، تاريــخ الطبــري تاريــخ

الرســل والملــوك ج )، تــح. محمــد أبــو الفضــل

إبراهيــم، )القاهــرة: دار المعــارف، )))1(

ــم ســامح فــوزي، المواطنــة، سلســلة: تعلي

حقــوق مركــز )القاهــرة: ،)10( اإلنســان حقــوق

)(00( اإلنســان،

مجمــع اللغــة العربيــة، المعجــم الوســيط،

ط 4، )القاهــرة: مكتبــة الشــروق الدوليــة، 004)(

المصطلحــات معركــة عمــارة، محمــد

بيــن الغــرب واإلســام، ط )، )القاهــرة: نهضــة

)(004 مصــر،

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 56

ب- األجنبية

Evelien Tonkens, De bal bij de burger

Burgerschap en publieke moraal in een

pluriforme, dynamische samenleving,

(Amsterdam: Vossiuspers UvA, 2008)

Geert ten Dam (ed.),

Burgerschapscompetenties: de

ontwikkeling van een meetinstrument,

(Amsterdam: Kohnstamm Instituut, UvA,

2 0 1 0 )

Henk Vroom, Een waaier van visies

godsdienstfilosofie en pluralisme,

(Kampen: Agora, 2003)

Jane Jenson (ed.), Introduction:

thinking about citizenship and law in

an Era of change, Law and citizenship, Law

Commission of Canada, (Canada: UBC Press,

2006)

MBZK, Verantwoordelijk

burgerschap, een kwestie van geven

en nemen, (Den Haag: Ministerie van

Binnenlandse Zaken en Koninkrijksrelaties

2 0 0 9 )

Patricia Brander (ed.), Kompas,

een handleiding voor

mensenrechteneducatie met

jongeren, (England: Council of Europe

England, 2001)

Tzvetan Todorov, Angst voor

de barbaren, transl. Frans de Haan,

(Amsterdam/Antwerpen: Atlas, 2009)

Willem Schinkel, De gedroomde

samenleving, (Kampen: Klement, 2008)

57 دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية

Research Papers | الدراسات واألبحاث

في مفهوم المعلوم عند ابن الهيثم

-قول في فلسفة الرياضيات عند ابن الهيثم-

In the concept of the known of Al-Hassan Ibn Al-HaythamSaying in the philosophy of mathematics at Ibn Al Haytham((( ASMAIL ELMOUSSAOUI | إسماعيل الموساوي

)1( باحــث مغربــي وطالــب باحــث بســلك الدكتــوراه يحضــر أطروحتــه فــي موضــوع: »مفهــوم المــكان عنــد ابــن الهيثــم« تحــث إشــراف الدكتــورة: ثريــا بــركان، و الدكتــور: يوســف السيســاوي ضمــن: »مختبــر الفلســفة والتــراث فــي مجتمــع المعرفــة«، شــعبة

ــوم اإلنســانية، جامعــة القاضــي عيــاض مراكــش، المغــرب. ــة اآلداب والعل الفلســفة، كي[email protected] :اإليميل

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 58

المتقدميــن، كتــب فــي الناظــر هــو ليــس الحــق »فطالــب

المسترســل مــع طبعــه فــي حســن الظــن بهــم، بــل طالــب الحــق

هــو المتهــم لظنــه فيهــم، المتوقــف فيمــا يفهمــه عنهــم، المتبــع

الحجــة والبرهــان، ال قــول القائــل الــذي هــو اإلنســان، المخصــوص

الخلــل والنقصــان« فــي جبلتــه بضــروب

ابن الهيثم، الشكوك على بطليموس، ص: 4

ملخص البحث:

إلــى تســليط الضــوء علــى جانــب يهــدف هــذا البحــث

مهــم مــن فلســفة ابــن الهيثــم الرياضيــة، مــن خــال

تبييــن أن فلســفة »صاحــب المناظــر« قــد تأسســت

بشــكل خــاص علــى فلســفة رياضيــة إبداعيــة وابتكاريــة،

عكــس مــا كان فــي الســابق، وخصوصــا مــع نموذجهــا

المثالــي العالــم الرياضــي اليونانــي أقليــدس )300 ق.م

225 ق.م( وعلــى مــن ســار علــى نهجــه الرياضــي أيضــا

مــن الفاســفة والعلمــاء المســلمين.

البحــث هــذا فــي نبيــن كمــا الهيثــم، ابــن لحظــة إن

علميــا نموذجــا شــكلت قــد والتحليــل، بالدراســة

مختلفــا، مــن خــال عــدم تصــوره لألشــكال الهندســية

وخصوصــا الســابق فــي عليــه كانــت مــا غــرار علــى

التــي كانــت تتســم بثباتهــا فــي الهندســة األقليديــة،

وعــدم افتــراض حركتهــا، األمــر الــذي جعــل ابــن الهيثــم

بعقليتــه الرياضيــة و اإلبداعيــة يتجــاوز هــذا االفتــراض

الرياضــي والهندســي، مــن خــال إقــراره بــأن األشــكال

الهندســية هــي أشــكال تحدثهــا الحركــة وهــي غيــر ثابتة،

وبالتالــي غيــر مســلم بثباتهــا بشــكل مطلــق، وهــذا مــا

إلــى بلــورة علــم جديــد يتناســب مــع عقليتــه بــه دفــع

الرياضيــة والهندســية الجديــدة، تجعلــه يســتجيب مــع

59يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

وهــو الجديــدة، الهندســية الحاجــات

لــم . The knowns المعلومــات علــم

االبداعيــة الهيثــم ابــن بحــوث تنحصــر

ــه الرياضيــة والهندســيةبقدر فــي أعمال

مــا نجــد هــذا اإلبــداع واالبتــكار بشــكل

كتابــه فــي البصريــة أعمالــه فــي بــارز

مــازال التــي »المناظــر« فــي الضخــم

التاريــخ العلمــي يخلــد أبحاثــه فيهــا إلــى

اليــوم. حــدود

الكلمــات المفتاحيــة: المعلــوم، فلســفة

الرياضــي، البرهــان التحليــل، فــن الرياضيــات،

اســتنباطي اســتدالل

Abstract:This research aims to shed light on

an important aspect of Ibn al-Haytham’s

mathematical philosophy, by showing that

the philosophy of the “owner of al-Manazir”

was founded in particular on an innovative

mathematical philosophy, contrary to what

was previously, and especially with its ideal

model of the Greek mathematical world

Euclid (300,225 BC) and on those who

followed his mathematical approach also

from Muslim philosophers and scholars.

The moment of Ibn al-Haytham, as

shown in this study and analysis, formed a

different scientific model, through his lack of

conception of geometric shapes similar to

what it was in the past, especially in Euclidean

geometry, which was characterized by its

stability and not assuming its movement,

which made Ibn al-Haytham With his

mathematical and creative mentality, made

him overcome this mathematical hypothesis

by proving that the the geometric shapes are

not static and therefore they are always in

movement and this lead to find a new science

which goes hand in hand with mathematical

mentality and it’s the science of “the knowns”.

Ibn Al-Haytham’s creative research

was not confined to his mathematical and

engineering works, as we find this creativity

and innovation prominently in his visual

works in his huge book “al-Manazir”, in which

scientific history continues to inspire till

present day.

Keywords:the known, Philosophy of

mathematics, Analytical art, Mathematical

proof, Deductive inference

تقـــديم:

إلقــاء الدراســة هــذه تــروم

الهيثــم ابــن فلســفة علــى الضــوء

هويتهــا زالــت مــا التــي الرياضيــة

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 60

وغيــر ملتبســة اإلبســتمولوجية

مدروســة فلســفيا إلــى حــدود اليــوم،

وهاجــس محاولتنــا هذه، هو الوقوف

الهويــة هــذه مــن مهــم جــزء علــى

اإلبســتمولوجية الملتبســة لفلسفة

ســنبين إذ الرياضيــة؛ الهيثــم ابــن

تتأســس أنهــا الدراســة هــذه فــي

بشــكل خــاص علــى فلســفة رياضيــة

ابتكاريــة وإبداعيــة، عكــس التصــورات

الرياضيــة التــي كانــت معاصــرة البــن

نموذجهــا يتجســد التــي الهيثــم،

المثالــي فــي أعمــال الرياضــي اليونانــي

أقليــدس )300ق م-265ق م(، وتأثــر بهــا

المســلمين والعلمــاء الفاســفة

العصــر فــي الرياضيــات علــم فــي

الوســيط، إال أن لحظــة ابــن الهيثــم

ــا مختلفــا؛ قــد شــكلت نموذجــا علمي

ــم يعــد يتصــور »صاحــب المناظــر« إذ ل

مــا غــرار علــى الهندســية، الكائنــات

هــي عليــه فــي الهندســة االقليديــة،

وغيــر ثابتــة أشــكاال بوصفهــا

بثباتهــا مســلم بمعنــى متحركــة؛

بشــكل نهائــي، فابــن الهيثــم بعقليته

االبتكاريــة واإلبداعيــة ســيتجاوز هــذا

الطــرح؛ مــن خــال تصــوره لألشــكال

أشــكال أنهــا علــى الهندســية

تحدثهــا الحركــة، فهــي متغيــرة وغيــر

حركتهــا بثبــات مســلم وغيــر ثابتــة

دفــع مــا هــو وهــذا نهائــي، بشــكل

ينبنــي جديــد علــم تأســيس إلــى بــه

ورياضيــة فلســفية تصــورات علــى

تســتجيب نقديــة وبرؤيــة جديــدة،

للحاجــات الهندســية الجديــدة، وهــو

األســس هــي فمــا المعلومــات. علــم

الهيثــم ابــن لفلســفة اإلبســتمولوجية

بالمعلومــات المقصــود ومــا الرياضيــة؟

الرياضيــة؟ وكيــف تتحــدد ماهيــة المعلــوم

مــع ســلمنا وإذا الهيثــم؟ ابــن عنــد

ابــن الهيثــم وقلنــا بــأن المعلــوم هــو

الكائنــات خــواص لوجــود الضامــن

61يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

ثبــات فــي الرياضيــة والمقاديــر

معانيهــا وداللتهــا، كمــا ســنرى فــي

بالتفصيــل الدراســة هــذه قــادم

الهيثــم ابــن برهــن فكيــف والتدقيــق،

العلــوم مســائل داخــل مــن ذلــك علــى

التعليميــة )الرياضيــة(؟ ومــا هــو المنهــج

الــذي تســلح بــه ابــن الهيثــم فــي صناعــة

الرياضييــن؟ واالســتدالل البرهنــة

أوال:األسس اإلبستمولوجية

لفلسفة ابن الهيثم الرياضية

يلمــس الناظــر فــي تاريــخ العلوم عامــة، وتاريخ

الرياضيــات عنــد المســلمين خاصــة، بــأن لحظــة

عــن متميــزة ومختلفــة لحظــة هــي الهيثــم ابــن

باقــي النمــاذج اإلرشــادية الرياضيــة األخــرى التــي

كانــت فــي زمانــه، لكونهــا كانــت تنهــل مــن مرجعيــة

علميــة مختلفــة تمثلــت، باألســاس، مــن وجهــة

نظرنــا، فــي إيمــان ابــن الهيثــم داخــل الممارســة

العلميــة بضــرورة التركيــب منهجيــا بيــن العلــوم

الرياضيــة( )العلــوم التعاليــم وعلــوم الطبيعيــة

إذ والفلســفية؛ العلميــة المشــكات حــل فــي

الرياضيــات اإلســامية كمــا فــي النظــر فــي كان

نظــرا الهيثــم ابــن قبــل اإلســامية البصريــات

يقتصــر فقــط علــى مــا هــو تعليمــي ويغيــب عنــه

مــا هــو طبيعــي )فيزيائــي(، واألخــذ بعلــم واحــد علــى

ظاهــره فــي مقاربــة حقيقــة الكائنــات الهندســية

حقيقتهمــا إلــى يوصــل ال اإلبصــار حقيقيــة أو

ولــو اعتقدنــا ذلــك مــع ابــن الهيثــم.. وهــذا هــو مــا

خــال مــن وبالتدقيــق بالتفصيــل لــه ســنتطرق

التاليــة: العناصــر

فلسفة الرياضيات عند ابن •الهيثم

تعتبــر فلســفة ابــن الهيثــم الرياضيــة فلســفة

مختلفــة عــن باقــي الفلســفات التــي كانــت ســائدة

فــي العصــر الوســيط، لكونهــا لــم تتأثــر بشــكل كبيــر

الفلســفية تجلياتــه مختلــف فــي اليونانــي بــاإلرث

وتمظهراتــه العلميــة، بقــدر مــا ســاءلته ونقضته في

زمــرة مــن اآلراء العلميــة والفلســفية والطبيعيــة

والمنطقيــة، فلقــد شــكل تفكيــر ابن الهيثــم برديغما

Paradigme جديــدا علــى حــد تعبيــر تومــاس كوهــن

الفلســفة إرث علــى ثورتــه خــال مــن ،T ,Kuhn

مــن نهجهــا علــى ســار مــن وعلــى المشــائية

الفاســفة المســلمين المعاصريــن البــن الهيثــم))(.

صحيــح أن ابــن الهيثــم قــد انكــب فــي صبــاه علــى

المنظومــة فــي المتمثــل اليونانــي اإلرث قــراءة

المنظومــة وكذلــك واألفاطونيــة األرســطية

العلميــة )إقليــدس، بطليمــوس، جالينوس..إلــخ(،

كتابــه فــي الهيثــم ابــن يقــول الصــدد، هــذا وفــي

»الشــكوك علــى بطليمــوس« »فطالــب الحــق

ابــن عاصــروا الــذي المســلمين الفاســفة بيــن ومــن )((الشــيخ الحصــر، ال المثــال ســبيل علــى هنــا نذكــر الهيثــم، الرئيــس الحســن بــن علــي ابــن ســينا )70) هـــ-7)4 هـــ( الموافــق ل )80) م – 7)10 م(، الــذي حــاوروه ابــن الهيثــم فــي كثيــر مــن

المــكان«. »فــي مقالتــه منهــا ونذكــر المقــاالت

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 62

ليــس هــو الناظــر فــي كتــب المتقدمين، المسترســل

مــع طبعــه فــي حســن الظــن بهــم، بــل طالــب الحــق

ــه فيهــم، المتوقــف فيمــا يفهمــه هــو المتهــم لظن

القائــل قــول ال والبرهــان، الحجــة المتبــع عنهــم،

الــذي هــو اإلنســان، المخصــوص فــي جبلتــه بضــروب

ابــن الهيثــم الخلــل والنقصــان«))(، إن عمليــة نقــد

هــو فيمــا فقــط منحصــرة تكــن لــم لبطليمــوس

بطليمــوس أعمــال لتشــمل تعدتهــا بــل فلكــي،

األخــرى كالتــي تتعلــق بعلــم المناظــر، ممــا يبيــن أن

دوافــع تأليــف هــذا الكتــاب تتعــدى نقــد ابــن الهيثــم

لبطليمــوس فــي مــا هــو فلكــي لتصــل إلــى مــا هــو

وفلســفي)4(. بصــري

أمــا فــي مصنفــه الشــهير المناظــر فيؤكــد

ابــن الهيثــم، أكثــر مــن مــرة، أن الحقائــق غامضــة

الغلــط، مأمــون غيــر إليهــا للوصــول والطريــق

حيــث يقــول: »فالحقائــق غامضــة، والغايــات خفية،

والشــبهات كثيــرة، واألفهــام كــدرة، والمقاييــس

الحــواس، مــن ملتقطــة والمقدمــات مختلفــة،

ــة الغلــط.. ــر مأمون والحــواس التــي هــي العــدد غي

الزلــل، مــن معصــوم غيــر المجتهــد والباحــث

اللطيفــة، المباحــث عنــد الحيــرة تكثــر فلذلــك

وتختلــف الظنــون، وتتفــرق اآلراء، وتتشــتت

اليقيــن«))(. ويتعــذر النتائــج،

عبــد تحقيــق: بطليمــوس، علــى الشــكوك الهيثــم، ابــن )((الحميــد صبــره و نبيــل الشــهيباني، تصديــر: إبراهيــم مذكــور،

4 الكتــب، مصــر،71)1، ص: دار مطبعــة

)4( G, Saliba, Arabic Planetary Theories After The Eleventh Century AD,in : Encylopedia Of The History Of Arabic Science, Edited by R ,Rachid, V1,London And New york,1996,p :74

األولــى، الثــاث المقــاالت المناظــر، كتــاب الهيثــم، ابــن )((للثقافــة الوطنــي المجلــس صبــره، الحميــد عبــد تحقيــق

(0 ص: الكويــت،)8)1، واآلداب، والفنــون

لقــد حــاور ابــن الهيثــم إرث اليونانييــن ليــس

حــوار بغــرض وإنمــا االتصــال، حــوار بغــرض

االنفصــال؛ حيــث لجــأ صاحــب المناظــر فــي كثيــر

مــن األحيــان إلــى المنهــج النقــدي الشــكي بغيــة

تأســيس العلــم بصفــة عامــة علــى أســاس متيــن،

لهــذا، كانــت األســس اإلبســتيمولوجية التــي نهــل

منهــا ابــن الهيثــم مختلفــة تمامــا عمــا كان فــي

عصــره. لقــد آمــن ابــن الهيثم بشــكل كبيــر بضرورة

التركيــب بيــن العلــوم الطبيعيــة وعلــوم التعاليــم

والفلســفية، العلميــة المســائل معالجــة فــي

ولهــذا، نجــده فــي مقاربتــه لموضــوع البصريــات

والســيما »المناظــر« الشــهير مصنفــه فــي

تســاؤله عــن »حقيقــة اإلبصــار« يقــول: »والبحــث

عــن هــذا المعنــى مــع غموضــه وصعوبــة الطريــق

إلــى معرفــة حقيقتــه مركــب مــن العلــوم الطبيعيــة

والعلــوم التعليميــة«))(، فاألخــذ بعلــم واحــد علــى

ظاهــره فــي مقاربــة »حقيقــة اإلبصــار« ال يوصــل

إلــى حقيقتهــا ولــو اعتقدنــا ذلــك..

تمســك ابــن الهيثــم، أيضــا، بعلــم الرياضيــات،

باعتبارهــا الهندســة« »صناعــة منهــا والســيما

حيــث المنطــق، وبعلــم الحكمــة، إلــى مدخــا

عــن الحكمــة« »ثمــرة كتابــه فــي يقــول

أحــد يشــكن »وال والمنطــق؛ الهندســة صناعــة

ــه علــم يلطــف تصــور ــة هــذا العلــم فإن فــي فضيل

اإلنســان، ويجيــد فهمــه، ويصفــو ذهنــه، ويمضــي

ال التــي األشــياء بنفــي أخاقــه، وتتهــذب ذكاؤه،

))( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

63يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

حقائــق لهــا، وإثبــات األشــياء الحقيقيــة«)7(، وفــي

فــي »فالمبتــدئ أيضــا: يقــول نجــده آخــر مقــام

باألصــول أوال يرتــاض أن يحتــاج الحكمــة طلــب

كل يــدرك الــذي بالبرهــان فيدركهــا الهندســية،

المنطقيــة«)8(. باألصــول يتلوهــا ثــم حــق،

إن المســتفاد مــن هذيــن القوليــن الســابقين

بالرياضيــات، متمســكا الهيثــم ابــن كــون هــو

وخصوصــا صناعة الهندســة والمنطق باعتبارهما

علميــن أساســين لــكل مبتــدئ فــي طلــب الحكمــة،

األصــول يــدرك الهندســة صناعــة طريــق فعــن

الــذي الرياضــي، البرهــان خــال مــن الهندســية

يعتبــره ابــن الهيثــم ســبيا للمــرء من أجــل أن يدرك

كل حــق، ثــم يتلوهــا المنطــق الــذي يــدرك مــن خالــه

المــرء األصــول المنطقيــة، فمــع ابــن الهيثــم، ال

تنفصــل صناعــة المنطــق عــن صناعــة الهندســة))(،

)7( ابــن الهيثــم، كتــاب ثمــرة الحكمــة، دراســة وتحقيــق عمــار الطالبــي، ضمــن: مجلــة مجمــع اللغــة العربيــة بدمشــق، مجلــة المجمــع العلمــي العربــي ســابقا، الجــزء الثانــي، المجلــد الثالــث

والســبعون، أبريــل 8))1م، ص: 1))

)8( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

))( مــن وجهــة نظــري، ومــن خــال اطاعــي علــى نصــوص ابــن الهيثــم فــي حــدود اإلمــكان، ســجلت ماحظــة جديــرة باالهتمــام وهــي كــون أن ابــن الهيثــم ال يفصــل بيــن صناعــة الهندســة وصناعــة المنطــق؛ فكلمــا يتحــدث عــن صناعــة الهندســة نجده يتبعهــا بصناعــة المنطــق، إنــه كان يعتبــر أن الحــدود الفاصلــة بيــن صناعــة الهندســة وصناعــة المنطــق هــي حــدود متقاربــة مــن جهــة البحــث فــي ماهيــة الكائنــات الهندســية وأصولهــا، ومــن جهــة البرهنــة علــى وجودهــا وماهيتهــا منطقيــا، فمــع ابــن الهيثــم ومــن خــال منهجــه التركيبــي يصعــب أيضــا الفصــل موضــوع وهــذا المنطــق، وصناعــة الهندســة صناعــة بيــن جديــر باالهتمــام يحتــاج إلــى بحــوث ودراســات قيمــة تســتنطق بيــن التمــازج أجــل فــك كنــه هــذا الهيثــم مــن ابــن نصــوص إمــكان أن خصوصــا المنطــق، وصناعــة الهندســة صناعــة يزعــم كمــا والمنطــق( )الرياضيــات العلميــن هذيــن التقــاء الكثيــر مــن فاســفة اللحظــة المعاصــرة لــم يحصــل إال مــع راســل فــي حديثــه عــن عاقــة الرياضيــات بـ«منطــق الفئــات« Science of معيــاري علــم المعاصــر المنطــق يعــد لــم حيــث Criterions لــه غايــة فلســفية، وإنمــا غايــة صوريــة تبحــث بدورهــا

فــي ماهيــة الكائنــات الهندســية والرياضيــة ...

فهمــا مدخــان رئيســيان إلــى الحكمــة »إحداهمــا

المنطــق، صناعــة واألخــرى الهندســة، صناعــة

خــواص بهــا يعلــم صناعــة هــي والهندســة

المقاديــر علمــا برهانيــا، والمنطــق هــو صناعــة يميــز

بهــا بيــن الصــدق والكــذب فــي األقاويــل، والحــق

فــي والشــر والخيــر االعتقــادات، فــي والباطــل

األفعــال... فالمبتــدئ فــي طلــب الحكمــة يحتــاج

فيدركهــا الهندســية، باألصــول أوال يرتــاض أن

يتلوهــا ثــم حــق، كل يــدرك بــه الــذي بالبرهــان

باألصــول المنطقيــة، واألصــول الهندســية أربعــة

أجــزاء: أحدهمــا علــم خــواص األشــكال، واآلخــر علــم

خــواص األعــداد، والثالــث: علــم التأليــف، وهــو الــذي

يســميه اليونانيــون الموســيقى، والرابــع علــم هيئــة

. األفــاك وحركاتهــا«)10(

يتســاءل ابــن الهيثــم داخــل علــم الرياضيــات،

باســتمرار، عــن أصــل التصــورات الرياضية ومصدر

المفاهيــم الرياضيــة والكائنــات الهندســية برؤيــة

مركبــة تجمــع بيــن مــا هــو فلســفي وعلمــي، فمــا

أم الفطــرة هــل الرياضيــة؟ التصــورات مصــدر

الحــس؟ هــل نشــأت مــن اإلدراكات الحســية؟ أم

أنهــا نشــأت عــن العقــل بصفــة مباشــرة ومنعزلــة

تمــام االنعــزال عــن المحسوســات؟

»ثمــرة فــي الهيثــم ابــن مقالــة تعتبــر

الحكمــة« مدخــا »للعلــم الرياضــي الهندســي«،

ويمكــن أن نجــد فيهــا، أيضــا، أجوبــة عن ما تســاءل

عنــه ابــن الهيثــم مــن أســئلة فلســفية وعلميــة فــي

)10( ابــن الهيثــم، كتــاب ثمــرة الحكمــة، دراســة وتحقيــق عمــار الطالبــي، ضمــن: مجلــة مجمــع اللغــة العربيــة بدمشــق، مجلــة المجمــع العلمــي العربــي ســابقا، الجــزء الثانــي، المجلــد الثالــث

ــل 8))1م، ص: 0)) -1)) والســبعون، أبري

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 64

المفاهيــم ومصــدر الرياضيــة، التصــورات أصــل

الرياضيــة والكائنــات الهندســية، وهــو مــا يمكــن أن

نســميه اليــوم بــكل تحفظ »بفلســفة الرياضيات«

،La Philosophie Des Mathématiques

المقالــة، هــذه تأليــف مــن الغــرض كان ولقــد

مــن وجهــة نظــر ابــن الهيثــم، مــا يلــي؛ »لمــا رأيــت

كثيــرا مــن المبتدئيــن إذا نظــروا فــي أوائــل هــذه

األصــول ثقلــت عليهــم، واســتبعدوا الوصــول إلــى

ــوا أنهــا مــع ذلــك ال ثمــرة لهــا، وال أحكامهــا، وظن

رأيــت أن أفصــح فــي فائــدة تقتــرن بمابســتها،

هــذه المقالــة عــن ثمــرة الحكمــة جملــة، وأخــص

منهــا جــزء الهندســة بذلــك، وأكتشــف عــن بعــض

المبــدأ ســبيل علــى لهــا الموضوعــة األصــول

والمدخــل، ألســهل بــه علــى المبتدئيــن فــي طلــب

الحكمــة ســبيل الســلوك إليهــا، وأفــرع أصولهــا،

وأحثهــم علــى الصبــر فــي تأمــل مــا لعلهــم يقفــون

فيــه مــن هــذه األصــول، وأرغبهــم فــي االســتفادة

بذلــك، بمــا أبيــن عنــه مــن كرائــم الثمــرة ولطائــف

التأمــل، علــى الصابــر بهــا يضفــر التــي الفائــدة

الحكمــة«)11(. ألصــول واالســتفهام

يبــدو أن غــرض ابــن الهيثــم مــن تأليــف مقالــة

التــي تعتبــر مــن وجهــة نظــره »ثمــرة الحكمــة«،

مدخــا للعلــم الرياضــي الهندســي، هو، باألســاس،

ثمرتــه وتبييــن للمبتدئيــن العلــم هــذا تبســيط

وفوائــده، مــع حــث طالبيــه علــى الصبــر فــي تأمــل

ــل ــه ومنشــئه؛ ألن للحكمــة فضائ ــه وأصول معاني

فضائــل ثاثــة فــي الهيثــم ابــن يحصرهــا جمــة

)11( ابــن الهيثــم، كتــاب ثمــرة الحكمــة، دراســة وتحقيــق عمــار الطالبــي، ضمــن: مجلــة مجمــع اللغــة العربيــة بدمشــق، مجلــة المجمــع العلمــي العربــي ســابقا، الجــزء الثانــي، المجلــد الثالــث

ــل 8))1م، ص: )8). والســبعون، أبري

فالنظريــة وخلقيــة«؛ وسياســية، »نظريــة، هــي:

حقائــق إدراك فــي البرهــان اســتعمال هــي

األخــاق، تهذيــب فــي والخلقيــة الموجــودات،

واســتعمال الطلــب، والتأنــي، والحكــم فــي جميــع

العــوام، أمــور تهذيــب هــي والسياســية األمــور،

علــى وكفهــم القبيــح، فعــل علــى وضبطهــم

بأبلــغ صنــع التجاهــل، عــن وقمعهــم التغالــب،

يــؤدي إلــى صاحهــم، وردع قويهــم عــن ضعيفهــم،

ومــا ظالمهــم، مــن لمظلومهــم واالنتصــاف

ذلــك...«))1(. شــاكل

إن الموضــوع الرئيــس مــن وجهــة نظرنــا فــي

الرياضــي موضــوع هــو الحكمــة« »ثمــرة مقالــة

عــن يتحــدث حينمــا الهيثــم فابــن الهندســي؛

إن حيــث المهنــدس، يقصــد نجــده الرياضــي

األشــكال فــي النظــر هــو العلــم هــذا موضــوع

المهنــدس أن أي بذاتهــا؛ القائمــة الهندســية

كليــا منفصــا تعامــا معهــا يتعامــل الرياضــي

عــن المــادة، والمحســوس ال يكــون فــي البــدء إال

فــي المــادة، إال أن المهنــدس يأخــذ الشــكل وينظــر

إليــه »كأنــه منفصــل عــن الجســم، فيذكــره بفكــره

العقلــي«))1(. بتصــوره ويحصــره

يتأســس النظــر فــي الرياضيــات عــادة، حســب

ابــن الهيثــم، علــى ثــاث مســتويات: فهنــاك النظــر

الصناعــة، هــذه فــي المحــض الرياضــي العلمــي

وهنــاك أيضــا النظــر الفلســفي فــي هــذه الصناعــة،

ــه ــا: يمكــن الجمــع في ــاك مســتوى ثالث كمــا أن هن

ــن الفلســفة والرياضيــات، وهــذا هــو مــا يمكــن بي

))1( المصدر نفسه، ص: 0)).

))1( المصدر نفسه، ص: ))).

65يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

ماهيــة عــن ســؤاله خــال مــن نستشــفه أن

حيــث )وجودهــا(، وإنيتهــا الهندســية النقطــة

اقليــدس الشــكوك »حــل كتابــه فــي يقــول

فــي األصــول وشــرح معانيــه« »فأمــا وجــود

النقطــة فإنــا نبينــه اآلن، وإن لــم يكــن واجبــا علــى

المهنــدس تبينــه بمــا هــو مهنــدس، فقــد يجــوز أن

يبيــن إنيــة النقطــة بمــا هــو متكلــم كامــا فلســفيا

بــل كامــا مركبــا مــن الفلســفة والهندســة«)14(.

ابــن حســب النقطــة، بإنيــة المقصــود إن

ــا، أمــا البحــث الهيثــم، هــو إمكانيــة وجودهــا واقعي

عــن ماهيتهــا الهندســية فليــس مــن اختصــاص

المتكلــم اختصــاص مــن هــو وإنمــا المهنــدس،

يســأل الــذي الفيلســوف أي فلســفيا؛ كامــا

باســتمرار عــن ماهيــة األشــياء وكنههــا، »فذلــك

كامــا هــو ليــس الموجــودات وجــود فــي كام

إنيــة إثبــات المهنــدس هندســيا، وال يجــب علــى

النقطــة، وال إثبــات شــيء مــن إنيــة المقاديــر الــذي

الموجــودات إنيــة وجــود إثبــات ألن يســتعملها؛

إنمــا هــو علــى الفيلســوف ال علــى المهنــدس«))1(.

في منزلة التجريد والتخيل في •صناعة الرياضيات عند ابن

الهيثم:

مشــكلة يطــرح أن الهيثــم ابــن حــاول لقــد

مطروحــة مازالــت الرياضيــات، داخــل فلســفية

)14( ابــن الهيثــم، حــل شــكوك كتــاب إقليــدس فــي األصــول العربيــة العلــوم تاريــخ معهــد تصويــر معانيــه، وشــرح .7 ص: )140هـــ-)8)1م، فرانكفــورت، منشــورات واإلســامية،

))1( ابــن الهيثــم، حــل شــكوك كتــاب إقليــدس فــي األصــول العربيــة العلــوم تاريــخ معهــد تصويــر معانيــه، وشــرح .( ص: )140هـــ-)8)1م، فرانكفــورت، منشــورات واإلســامية،

إلــى حــدود اليــوم فــي مجــال مــا يســمى بفلســفة

الرياضيــات؛ وهــي مشــكلة الحقائــق الرياضيــة

الرياضــي، بهــا يشــتغل التــي الكميــة والمقاديــر

كحقيقــة الدائــرة -علــى ســبيل المثــال ال الحصــر-

التــي يشــتغل بهــا هــذا األخير وغيرها من األشــكال

الهندســية، وهنــا يثيــر ابــن الهيثــم الســؤال اآلتــي:

هــل لهــذه المقاديــر الرياضيــة وجــود واقعي خارجي

أم أن مجالهــا هــو التجريــد واالبتعــاد كل البعــد عــن

مــا هــو محســوس وواقعــي؟ يقول ابــن الهيثم في

هــذا الســياق: »إن هــذا القــول )يقصــد بــه تعريــف

الدائــرة( مفهــوم، إال أنــه إشــارة إلــى معنــى ليــس

بموجــود، وال يصــح وجــوده؛ ألنــه ليــس يوجــد فــي

الحــس علــى صفتــه، أعنــي علــى غايــة االســتدارة

حتــى تكــون فــي داخلــه نقطــة«))1(، فشــكل الدائــرة

ا رياضيــا يتســلح بــه الرياضــي ال باعتبارهــا مقــدار

وجــود لــه فــي الحــس بقــدر مــا هــو موجــود متخيــل

فــي الخيــال؛ أي إنــه ضمــن دائــرة الموجــودات التــي

ــز وليــس بالحــس والواقــع، توجــد بالتخيــل والتمي

ولهــذا نجــد ابــن الهيثــم يقســم الموجــودات إلــى

موجــود كل ليــس »إنــه يقــول: عندمــا صنفيــن

يكــون موجــودا بالحــس، بــل الموجــودات تنقســم

إلــى قســمين: موجــود بالحــس، وموجــودا بالتخيــل

والتميــز«)17(.

مــن الواضــح إذن، أن ابــن الهيثــم لــم يكــن يثــق

فــي المقدمــات الملتقطــة مــن الحــواس لكونهــا

فــي ينبهنــا نجــده ولهــذا الحقيقــة، إلــى تــؤدي ال

كتابــه »المناظــر« بالقــول اآلتــي: »والمقدمــات

هــي –التــي والحــواس الحــواس، مــن ملتقطــة

))1( المصدر نفسه، ص: 0).

)17( المصدر نفسه، ص: 0).

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 66

العــدد- غيــر مأمونــة الغلــط، فطريــق النظــر معفــى

الزلــل، معصــوم غيــر المجتهــد والباحــث األثــر،

اللطيفــة، المباحــث عنــد الحيــرة تكثــر فلذلــك

وتتشــتت اآلراء، وتفتــرق الظنــون، وتختلف النتائج،

المقدمــات إذن، تبقــى، اليقيــن..«)18(، ويتعــذر

والحــواس، الحــس علــى والمبنيــة الملتقطــة

ألن الغلــط؛ مأمونــة غيــر القــول، هــذا حســب

هــو الهيثــم ابــن حســب الحقيقــي الموجــود

الموجــود العقلــي ال الموجــود الحســي؛ ألن ذلــك

ــر صاحــب المناظــر حســب الباحــث راجــع فــي تقدي

التونســي جــال الدريــدي إلــى اإلبــداع العقلــي أو مــا

عبــر عنــه بـ»الصــورة التــي تحصــل فــي التخيــل بعــد

المقاديــر مــن وجــردت الحــواس مــن انتزعــت أن

إن خياليــة«))1(. مقاديــر وصــارت المحسوســة

الموجــود الــذي ينبنــي علــى الحــس ال يوثــق بوجــود

حقيقتــه، والموجــود، مــن وجهــة نظــر ابــن الهيثــم،

الــذي ال يوثــق بوجــود حقيقتــه، فليســت حقيقتــه،

إذن، موجــودة، مــن لــم تكــن حقيقتــه غيــر موجــودة،

الحقيقــة)0)(. فليــس هــو بموجــود علــى

ربطهــا يمكــن ال الرياضيــة المقاديــر إن

ابــن حســب األخيــرة، هــذه ألن بالمحسوســات؛

الهيثــم، ليســت ثابتــة علــى صفــة واحــدة، ووجــود

واحــد، وعليــه فهــي لهــا حقيقــة ثابتــة، ومــا لــم يوجــد

األولــى، الثــاث المقــاالت المناظــر، كتــاب الهيثــم، ابــن )18(للثقافــة الوطنــي المجلــس صبــره، الحميــد عبــد تحقيــق

.(0 ص: ،1(8( الكويــت، واآلداب، والفنــون

))1( جــال الدريــدي، األســس اإلبســتيمولوجية لفلســفة ابــن مركــز العربــي، المســتقبل مجلــة ضمــن: الرياضيــة، الهيثــم الدراســات الوحــدة العربيــة، العــدد ))4 مــارس 018)، ص: )10.

)0)( ابــن الهيثــم، حــل شــكوك كتــاب إقليــدس فــي األصــول العربيــة العلــوم تاريــخ معهــد تصويــر معانيــه، وشــرح (0 ص: )140هـــ-)8)1م، فرانكفــورت، منشــورات واإلســامية،

)بتصــرف(.

علــى حقيقــة ثابتــة، ال يوجــد علــى الحقيقــة إطاقــا،

هــو بالتخيــل الموجــود فقــط، يكــون، وعليــه،

الموجــود الوحيــد الــذي يوجــد علــى غايــة التحقيــق،

علــى يوجــد الــذي الوحيــد الموجــود يكــن لــم

الحقيقــة؛ »ألن الصــورة التــي تحصــل فــي التخيــل

تتغيــر وال تســتحيل، وليســت حقيقتهــا، علــى

األشــكال فجميــع لهــا«)1)(، المتخيــل بتغيــر إال

ــة، مــن وجهــة نظــر ــر الرياضي الهندســية والمقادي

ابــن الهيثــم، يكــون وجودهــا الحقيقي فــي التخيل ال

فــي الحــس، فكيــف يتــم االنتقــال مــن المحســوس

إلــى المجــرد حســب ابــن الهيثــم؟

ــن الهيثــم، ــدرك اإلنســان، مــن وجهــة نظــر اب ي

التكــرار طريــق عــن ثــم بالحــس، أوال األشــياء

األنفــس، فــي األشــياء هــذه فتســتقر والتعــود،

وتصبــح مــن القضايــا المتعــارف عليهــا، إذ ال تــدرك

بالفطــرة، وال عاقــة لهــا بهــا إطاقــا، ولهــذا نجــد

كتــاب الشــكوك حــل فــي يقــول الهيثــم ابــن

إقليدس في األصول وشرح معانيه : »ذلك

أن الحــس يــدرك األجســام، ويــدرك مــن كل جســم

جــزءا دون جــزء، والــكل اســم متفــق عليــه يســمى

بــه كل جملــة مجتمعــة مــن عــدة أشــياء وأجــزاء

كل جســم تســمى بــه كل جملــة مجتمعــة مــن تلــك

أجــزاء لهــا تكــون األجســام مــن وكثيــرا األجــزاء،

متميــزة كاإلنســان وســائر الحيــوان، وأن كل واحــد

مــن الحيــوان فلــه أعضــاء مختلفــة، كل منهــا يتميــز

عــن اآلخــر، والحــس يــدرك كل واحــد مــن أعضــاء

أعضائــه، جملــة ويــدرك تميــزه، ويــدرك الحيــوان،

والتميــز يــدرك أن الجماعــة أكثــر مــن الواحــد، فعلــى

)1)( المصدر نفسه، ص: 1).

67يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

هــذا الوجــه أعنــي مــن إدراك الحــس ألجــزاء الجســم

الواحــد، ومــن إدراك التميــز للكثــرة والعظــم، اســتقر

فــي النفــس أن الــكل أعظــم مــن الجــزء، ثــم بكثــرة

تكــرار هــذا المعنــى فــي المحسوســات صــار هــذا

المعنــى مــن القضايــا المتعارفــة، إال أنــه ليــس ممــا

يــدرك بفطــرة العقــل«)))(.

نفهــم مــن خــال حديــث ابــن الهيثــم الســالف

فيهــا بمــا المتخيلــة الموضوعــات جميــع أن

المقاديــر الرياضيــة واألشــكال الهندســية أيضــا،

إنمــا هــي ملتقطــة فــي األصــل مــن الحــواس، إال

أنهــا منتزعــة مــن األجســام المحسوســة، بحيــث

المحســوس، الجســم مــن الصــورة انتزعــت إذا

المتخيــل سيســتغني التخيــل، فــي وحصلــت

أن يعنــي ممــا المحســوس، الجســم عــن بعــد

هــي الهندســية، واألشــكال عنــده الرياضيــات

موجــودات عقليــة ومتخيلــة ولكنها ليســت فطرية

إطاقــا، حيــث إنهــا، فــي األصــل، مســتنبطة مــن

ثــم جــردت فيمــا بعــد مــن كل جســم الحــواس،

محســوس لكــي تصــل إلــى درجــة التخيــل والتجــرد.

ثانيا:في علم المعلومات عند ابن

الهيثم:

واألشــكال الرياضيــة المقاديــر كانــت إذا

الهندســية، فــي األصــل، ملتقطــة مــن الحــواس،

المحسوســة، األجســام مــن انتزعــت بحيــث

التخيــل فاســتغنى المتخيــل بعــد وحصلــت فــي

ابــن أن يعنــي المحســوس، فهــذا الجســم عــن

)))( المصدر نفسه، ص: 0)

الهيثــم أســس ألنطولوجيــة جديدة ترتكــز بالضبط

علــى وجــود )إنيــة( الكائنــات الرياضيــة ومقاديرهــا

عبــر فعــل التجريــد والتخيــل، ولكــي يصــل إلــى داللــة

وجــود ثابتــة لهــذه الكائنــات الرياضيــة، البــد مــن أن

الرياضيــة، المعلومــات فــي ثبــات هنــاك يكــون

وعــن والمــكان الزمــان عــن واســتقال وجودهــا

مصداقيــة ســيمنحها الــذي العاقــل اإلنســان

وكثافــة دالليــة معينــة، وهــذا هــو مــا أراد تحقيقــه

»فــي بـــ الموســومة مقالتــه فــي الهيثــم ابــن

جديــد لعلــم فيهــا أســس التــي المعلومــات

يقــوم بنيانــه علــى ثبــات وعــدم تغيــر المعلومــات

ابــن عنــد بالمعلــوم المقصــود فمــا الرياضيــة.

الهيثــم ومــا هــي ماهيتــه؟

في ماهية المعلوم: •

ــه فــي ــه فــي مقالت ــن الهيثــم حديث يســتهل اب

ال ظنــا باعتبــاره العلــم بتعريــف المعلومــات

يتغيــر، حيــث يقــول: »العلــم هــو الظــن الــذي ال

يتغيــر، والظــن هــو اعتقــاد معنــى مــا، فالعلــم هــو

اعتقــاد معنــى مــا علــى مــا هــو عليــه ومــع ذلــك

اعتقــاد ال يتغيــر، كاعتقادنــا أن الــكل أعظــم مــن

الجزء...فالعلــم هــو اعتقــاد معنــى ال يصــح فيــه

هنــا بالعلــم يقصــد الهيثــم فابــن التغيــر«)))(،

ذلــك االعتقــاد الــذي ال يجــوز فيــه التغيــر، وبالتالــي

فهــو ظــن ال يتغيــر؛ ولكــي يبســط فكرتــه هاتــه

كمــا توصلنــا مــن كامــه، ضــرب لنــا مثــال »الــكل

أعظــم مــن الجــزء« بغيــة تبيــن أن معنــى الــكل

)))( ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي المعلومــات«، ضمــن الرياضيــات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

العربيــة، ط 1، بيــروت، 011)، ص: 7)4.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 68

ــه النــاس فــي ــذي يعتقــد في أعظــم مــن الجــزء ال

العلــم هــو اعتقــاد ال يصــح فــي التغيــر، وإذا كان

العلــم، مــن وجهــة نظــر ابــن الهيثــم، اعتقــاد ال

يصــح فيــه التغيــر، فــإن المعلــوم هــو »المعنــى

والعالــم التغيــر، فيــه يصــح ال الــذي المعتقــد

هــو المعتقــد معنــى ال يصــح فيــه التغيــر«)4)(، إن

المعلــوم إذن، هــو اعتقــاد المعانــي التــي ال يصــح

اعتقــاد، هــو العلــم ألن إطاقــا؛ التغيــر فيهــا

والعالــم هــو المعتقــد بصحــة معنــى ال يطالــه

التغيــر، »فأمــا اعتقــاد المعانــي المتغيــرة، ليــس

يعــد علمــا؛ ألن المعانــي المتغيــرة ليســت ثابتــة

علــى صفــة واحــدة«)))(.

المعانــي فــي اعتقــاد هــو المعلــوم إن

يصــح ال التــي التعليميــة واألجســام الرياضيــة

التغيــر، كالدائــرة والزاويــة وماهيــة محيــط فيهــا

الدائــرة وماهيــة العــدد وماهيــة الوحــدة وجميــع

علميــة معــان بوســمها التعليميــة... المعانــي

المعنــى اعتقــاد أن إال التغيــر، فيهــا يصــح ال

ابــن الهيثــم، الــذي ال يصــح فيــه التغيــر، حســب

أن »أحدهمــا أساســين: قســمين إلــى ينقســم

يعتقــد معتقــد معنــى ال يتغيــر وهــو يعلــم ذلــك

أن هــو اآلخــر والقســم يتغيــر، ال الــذي المعنــى

يعتقــد المعتقــد معنــى ال يتغيــر وهــو ال يعلــم أنــه

يتغيــر«)))(، فالقســم األول؛ هــو المعتقــد المعنــى

وهــو التغيــر، بذلــك يعلــم وهــو يتغيــر ال الــذي

عالــم بذلــك المعنــى عــن طريــق البرهــان والســبك

والنقــد والتحليــل والتركيــب. هــذا هــو مــا ميــز تفكيــر

)4)( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

)))( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

)))( المصدر نفسه، ص: 7)8-4)4.

والفلســفية، العلميــة أبحاثــه فــي الهيثــم ابــن

المجــدد شــكوكا وانتقــادات العالــم أبــدى فلقــد

لألفــكار التــي اطلــع عليهــا، فــي العلــم والفلســفة

واإللهيــات، وانطلــق ممحصــا للفرضيــات القريبــة

إلــى الصــواب فأعــاد ســبكها وهــذب منهــا مــا كان

ــن البرهنــة فيهــا)7)(. أمــا فــي حاجــة إلــى ذلــك، ومت

القســم الثانــي؛ فهــو المعتقــد المعنــى الــذي ال

يتغيــر وهــو ال يعلــم أن ذلــك المعنــى يصــح فيــه

ــد ــر، والعالــم المعتق ــر أو ال يصــح فيــه التغي التغي

مــن هــذا النــوع هــو الــذي أخــذ هــذا االعتقــاد مــن

دون برهــان وال نقــد وال مســاءلة، بــل أخــذه عــن

»طريــق الســماع والتقليــد مــع حســن الظــن أو

بالخاطــر«)8)(، ومــع ذلــك ال ينفــي عليــه ابــن الهيثــم

صفــة العلــم؛ لكــون هــذا المعتقــد ســيبقى عالمــا؛

»ألنــه يعتقــد معنــى ال يصــح فيــه أن يتغيــر وهــذا

هــو حــد العلــم«)))(، ويمكــن تلخيــص أنــواع االعتقــاد

الــذي ال يصــح فيــه التغيــر فــي الخطاطــة اآلتيــة:

)7)( البوعزاتــي بناصــر، الفكــر العلمــي والثقافــة اإلســامية، دار األمــان، الطبعــة األولــى، الربــاط، المغــرب، )01) ص: 1))-)))

)8)( ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي المعلومــات« ، ضمــن الرياضيات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

العربيــة، ط 1، بيــروت، 011)، ص: 8)4

)))( المصدر نفسه، الصفحة نفسها

69يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

اعتقاد المعنى الذي ال يصح فيه التغير حسب ابن الهيثم

ال الــذي االعتقــاد ألنــواع توضيحيــة )خطاطــة يصــح فيــه التغيــر عنــد ابــن الهيثــم(

الــذي للمعنــى ــد المعتق

ال يتغيــر وهــو يعلــم بذلــك لتغيــر ا

هــو عالــم بذلــك المعنــى عــن والســبك البرهــان طريــق والنقــد والتحليــل والتركيــب

عالــم بالفعــل: وهــو مــا صــار علمــه اعتقــادا لمعتقــد.

ال الــذي للمعنــى المعتقــد يتغيــر وهــو ال يعلــم أن ذلــك ــر أو المعنــى يصــح فيــه التغي

التغيــر ال يصــح فيــه

هــو عالــم أخــذ علمــه باالعتقــاد وال نقــد وال برهــان دون مــن طريــق عــن بــل مســاءلة

والتقليــد الســماع

عالــم بالقــوة: وهــو الذي يكون علمــه بالقــوة أي مــا يصــح أن )أي لمعتقــد اعتقــادا يكــون

مــا يصــح فقــط(

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 70

إنــه أي اعتقــاد؛ الهيثــم ابــن حســب العلــم إن

يكــون مــن إنســان معتقــد ومــن معنــى معتقــد، وهــذا

هــو مــا يمكــن أن نســميه معلومــا، فالعلــم ينقســم

إلــى قســمين: علــم بالفعــل وعلــم بالقــوة، والمعلــوم

ذاتــه أيضــا ينقســم إلــى قســمين أساســين وهمــا:

هــو فــاألول بالقــوة، ومعلــوم بالفعــل معلــوم

الــذي قــد صــار معلومــا لعالــم بــه بالبرهــان طبعــا،

لعالــم أن يصيــر معلومــا الــذي يصــح هــو والثانــي

بــه)0)(. إن المعلــوم، عنــد ابــن الهيثــم، هــو المعنــى

المعانــي فيهــا بمــا التغيــر، فيــه يصــح ال الــذي

كإدراك اإلنســانية النفــس تدركهــا التــي الرياضيــة

صــورة الخطــوط علــى شــكل اســتقامة فــي البدايــة،

ولذلــك نجــده يقــول فــي كتابــه شــرح مصــادرات

كتــاب إقليــدس: »وذلــك أن كثيــرا مــن األجســام

المحسوســة توجــد أشــكالها مســتقيمة، وتعمــل

والســهام كالمســاطر، االســتقامة شــكل علــى

والشــعر وكالخيــوط، األبنيــة، مــن وكثيــر والعمــد،

وكل كثيــرة، ذلــك وأمثــال ا، شــديد ا مــد مــدت إذا

ويــدرك الحــس، يدركهــا األجســام هــذه مــن واحــد

أنهــا مســتقيمة، ويفهــم التمييــز صــورة االســتقامة

المســتقيمة األجســام اإلنســان أدرك وإذا منهــا،

الشــكل المختلفــة الصــورة، وأدرك االســتقامة مــن

كل واحــد مــع اختــاف إحاطتهــا، واختــاف جواهرهــا،

واختــاف ألوانهــا، واختــاف أغراضهــا، حصلــت صورة

االســتقامة متخيلــة فــي نفســه مفهومــة عنــده«)1)(.

)0)( ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي المعلومــات« ، ضمــن الرياضيات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

العربيــة، ط 1، بيــروت، 011)، ص: 8)4 )بالتصــرف(.

)1)( ابــن الهيثــم، كتــاب شــرح مصــادرات كتــاب إقيلــدس، شــرح وتحقيــق: أحمــد عــزب أحمــد، مراجعــة: أحمــد فــؤاد باشــا، الكتــب

والوثائــق القوميــة، القاهــرة، مصــر، )00)، ص: 174-148.

كالدائــرة وأجســامها الرياضيــة المعانــي إن

والزاويــة وماهيــة محيــط الدائــرة وماهيــة العــدد وماهية

يلحقهــا ومــا الهندســية األوضــاع الوحــدة... وجميــع

واألجســام، والســطوح الخطــوط بيــن عاقــات مــن

ال يمكــن أن تــدرك مــن طــرف اإلنســان إال علــى شــكل

يدركهــا األجســام هــذه مــن واحــد فــكل االســتقامة؛

الحــس فــي البدايــة مســتقيمة، ويفهــم تمييــز صــورة

وجواهرهــا أشــكالها اختــاف مــع منهــا االســتقامة

وألوانهــا وأغراضهــا، ثم تســتقر صورة هذه االســتقامة

فــي الخيــال بعــد أن تتخلــى عــن المحســوس.

إن جميع هذه المعاني الرياضية، بصفة عامة

ســواء كانــت علميــة )هندســية( أو عمليــة )تطبيــق

للهندســة علــى أرض الواقــع( بمعنــى الــذي تطبــق

فيــه الهندســة فــي الصناعــات العمليــة بغــرض

االنتفــاع بهــا )كهندســة أعمــال مــن األبنيــة ومــا

العمليــة()))(، الصناعــات مــن مجراهــا يجــري

معلومــة ســواء كان علمنــا بهــا عمليــا أو علميــا

المعانــي دائــرة ضمــن تدخــل إنهــا أي رياضيــا،

التــي ال يصــح فيهــا التغيــر التــي يمنحهــا اإلنســان

العاقــل داللــة ال متغيــرة؛ ألن المعلــوم الــذي يوجــد

علــى الحقيقــة حســب صاحــب المناظــر كمــا رأينــا

»هــو كل معنــى ال يصــح فيــه التغيــر، أعتقــد ذلــك

المعنــى معتقــد أم لــم يعتقــده معتقــد«)))(.

)))( ننصح في هذا السياق بالرجوع إلى كتاب:ابــن الهيثــم، فــي بــركار الدوائــر العظــام، ضمــن: كتــاب: رشــدي راشــد، الرياضيــات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس الوحــدة الدراســات مركــز مبســوط، بــدوي ترجمــة للهجــرة، العربيــة، بيــروت 011)، الجــزء الخامــس، الحســن ابــن الهيثــم: علــم

المثلثــات، ص: ))). الكرويــة وحســاب الهندســة الهيئــة،

)))( ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي المعلومات«، ضمن الرياضيات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

العربيــة، ط 1، بيــروت، 011)، ص: 8)4.

71يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

ابــن لنــا التــي يقدمهــا الرياضيــة بيــن األمثلــة مــن

الهيثــم التــي يشــرح بهــا المعانــي الهندســية »المعلومــة

الوضــع« فــي مقالتــه »فــي المعلومــات« مثــال)4)(:

خــط . 1 الوضــع معلومــة نقطــة مــن خــرج إذا

علــى نهايتــه فــإن القــدر، معلــوم مســتقيم

الوضــع. معلومــة دائــرة محيــط

مثــال ذلــك: نقطــة أ معلومــة الوضــع، وقــد

ــوم القــدر أقــول: خــرج منهــا خــط )أ ب( وهــو معل

إن النقطــة ب علــى محيــط الدائــرة معلــوم الوضــع

.

المعنــى هــذا عــن الهيثــم ابــن يبرهــن ولكــي

ــر الرياضــي يقــول: »أن نجعــل نقطــة أ مركــزا، وتدي

ببعــد أ ب دائــرة، ولتكــن الدائــرة ب ج، فــألن دائــرة ب

ج مركزهــا معلــوم الوضــع، فليــس ينتقــل ســطح

الدائــرة بوجــه مــن الوجــوه؛ وألن نصف قطــر الدائرة

بوجــه وضعــه يتغيــر ليــس فمحيطهــا معلــوم،

مــن الوجــوه، فمحيــط دائــرة ب ج معلــوم الوضــع،

فنقطــة ب علــى محيــط دائــرة معلومــة الوضــع

وهــي دائــرة ب ج، وذلــك مــا أردنــا أن نبينــه«)))(.

الرياضيــة للكائنــات الهيثــم ابــن جعــل

بالفعــل، ووجــود بالقــوة وجــود مزدوجــا، وجــودا

فللمقاديــر الرياضيــة وجــود بالقــوة إذا لــم يصــح

اعتقــاد العالــم للمعنــى الرياضــي الــذي ال يتغيــر

)4)( المصدر نفسه، ص: 0)4.

)))( المصدر نفسه، ص: 0)4.

فــي المعلــوم، كمــا للمقاديــر وجــود بالفعــل؛ أي

ــم بالبرهــان والنقــد بالعقــل إذا صــح اعتقــاد العال

والتحليــل والتركيــب للمعنــى الــذي ال يتغيــر فــي

المعلــوم، وعليــه، يكــون »المعلــوم علــى التحقيــق

عنــد فالمعلومــات العقلــي«)))(، المعلــوم هــو

ابــن الهيثــم هــي الضامــن الوحيــد لوجــود خــواص

إذ وصدقيتهــا، ثباتهــا فــي ومقاديرهــا الكائنــات

»نجــد الدريــدي جــال التونســي الباحــث حســب

والســطوح، الخطــوط فــي أيضــا كذلــك األمــر

المعيــن، كالمربــع األخــرى واألشــكال والدوائــر،

والمربــع القائــم الزوايــا، والمثلــث القائــم الزوايــا،

فحكــم العقــل هنــا إنمــا هــو مبنــي علــى الحــس

اإلنســان وألن انتهــاء؛ التخيــل ومــن ابتــداء

مطبــوع علــى أن يتخيــل كل مــا أدركــه بجســمه مــن

ــه وكأنهــا ــه، صــارت األشــياء لدي بعــد إحساســه ب

العقــل«)7)(. بفطــرة معلومــة

الهيثــم مــن بحثــه فــي ابــن فــإذا كان غــرض

المعلــوم وماهيتــه هــو تبييــن أن هــذا األخيــر هــو

والمقاديــر الكائنــات خــواص لوجــود الضامــن

الرياضيــة فــي ثبــات معانيها وداللتهــا وصدقيتها،

فكيــف برهــن ابــن الهيثــم علــى ذلــك مــن

بعبــارة أو الرياضيــة؟ المســائل داخــل

أدق: مــا هــو المنهــج الــذي تســلح بــه ابــن

الهيثــم فــي صناعــة البرهنــة واالســتدالل

الرياضييــن؟

)))( جــال الدريــدي، األســس اإلبســتيمولوجية لفلســفة ابــن مركــز العربــي، المســتقبل مجلــة ضمــن: الرياضيــة، الهيثــم الدراســات الوحــدة العربيــة، العــدد ))4 مــارس 018)، ص: )11.

)7)( المرجع نفسه، ص: )11.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 72

ثالثا:في فن التحليل والتركيب عند

ابن الهيثم

ــم- مدعــو ــن الهيث إذا كان المهنــدس -حســب اب

فــي البدايــة، إذا أراد الوصــول إلــى حقيقيــة المطلوب،

فــي عملــه الرياضــي أن يبــدأ أوال بالمعلومــات، التــي

ال يتــم اســتخراج المســائل التعليميــة إال بهــا قبــل

البراهيــن؛ ألن هــذه المعلومــات هــي الضامن الوحيد

المســائل موضوعــات لخــواص الحقيقــي للوجــود

التعليميــة، فــإن ابــن الهيثــم قــد أوصــى فــي مقاالتــه

المحلــل المهنــدس والتركيــب«)8)( »التحليــل فــي

الــذي يريــد أن ينشــد المطلــوب فــي بحوثــه الرياضيــة

أن يتســلح بفــن التحليــل والتركيــب، ولهــذا نجــده

فــي مقالتــه ســالفة الذكــر يعتبــر »علــوم التعاليــم

إليهــا يرقــى التــي وغايتهــا البراهيــن، علــى مبنيــة

ووجــود جزئياتهــا مــن المجهــوالت اســتخراج هــي

فعلــوم معانيهــا«)))(، علــى تــدل التــي البراهيــن

التعاليــم، مــن وجهــة نظــر ابــن الهيثــم، مبنيــة بشــكل

كبيــر علــى البرهــان؛ فعــن طريــق هــذا األخير يســتخرج

المهنــدس المجهــوالت مــن المعلومــات، والبرهــان،

حســب ابــن الهيثــم، هــو »القيــاس الــدال بالضــرورة

علــى صحــة النتيجــة«)40(، وهــذا القيــاس مركــب مــن

الهيثــم، ابــن ســيناقش عمومــا، المقالــة هــذه ففــي )(8(كيفيــة صناعــة التحليــل المؤديــة إلــى اســتخراج المجهــوالت مــن العلــوم التعليميــة، وكيفيــة اكتشــاف وتصيــد المقدمــات التــي هــي مــواد البراهيــن الدالــة علــى صحــة مــا يســتخرج مــن وهيئــة المقدمــات هــذه إلــى التوصــل وطريــق مجهوالتهــا،

تأليفها...ألــخ.

ضمــن والتركيــب«، التحليــل »فــي مقالــة الهيثــم، ابــن )(((الخامــس والقــرن الثالــث القــرن بيــن التحليليــة الرياضيــات مركــز منشــورات الحجيــري، يوســف ترجمــة ج4، للهجــرة،

.(0( ص: ،(011 بيــروت، ،1 ط العربيــة، الوحــدة دراســات

)40( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

مقدمــات صحيحــة وصادقــة ال يعترضهــا شــيء مــن

الشــبهات، ومــن نظــام وترتيــب لهــذه المقدمــات،

»يضطــر ســامعه إلــى تيقــن لوازمهــا واعتقــاد صحــة

مــا ينتجــه ترتيبهــا«)41( فمــا طريــق الوصــول إلــى

البرهــان الــذي هــو حســب ابــن الهيثــم قياس

دال بالضــرورة علــى صحــة نتيجتــه؟

طريق الوصول إلى القياس •حسب ابن الهيثم:

ــه فــي التحليــل ــم فــي مقالت ــن الهيث يتحــدث اب

بالقيــاس الظفــر طــرق عــن والتركيــب

المقدمــات يــد بتص أوال: تبــدأ والتــي والمقاييــس،

فــي الحيــل تمحــل وثانيــا: والصحيحــة، الصادقــة

تطلبهــا وتطلــب ترتيبهــا، »والصناعــة التــي تصيــد

هــذه المقدمــات وبهــا يتوصــل إلــى الترتيــب المــؤدي

صناعــة تســمى نتائجهــا، مــن المطلــوب إلــى

التحليــل، وجميــع مــا خــرج مــن علــوم التعاليــم إنمــا

المحلــل، المهنــدس إن الصناعــة«))4(، بهــذه خــرج

المقدمــات يختــار الــذي هــو الهيثــم، ابــن حســب

الصادقــة والصحيحــة بشــكل دقيــق وعلمــي محكــم،

ويتمحــل جميــع الحيــل فــي اختيارها وترتيبهــا، وتغيير

ترتيــب هــذه المقدمــات وعكســها هــو الــذي يســميه

ابــن الهيثــم »بالقيــاس البرهانــي، وهــو الــذي يســمى

التركيــب؛ وإنمــا ســمي تركيبــا؛ ألنــه تركيــب المقدمات

المســتنبطة والمقدمــات بالتحليــل، المســتنبطة

)41( المصدر نفسه، الصفحة نفسها

ضمــن والتركيــب«، التحليــل »فــي مقالــة الهيثــم، ابــن )4((الخامــس والقــرن الثالــث القــرن بيــن التحليليــة الرياضيــات مركــز منشــورات الحجيــري، يوســف ترجمــة ج4، للهجــرة،

.(0( ص: ،(011 بيــروت، ،1 ط العربيــة، الوحــدة دراســات

73يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

بالتحليــل، )هــي( التركيــب القياســي«))4(، والفــن الــذي

التعليميــة العلــوم داخــل مــن الــدور هــذا يلعــب

هــي األخيــرة هــذه إن حيــث التحليــل، صناعــة هــو

غايــة علــوم التعاليــم، إذ بمقتضاهــا يتــم اســتخراج

المعلومــات. مــن المجهــوالت

فــإذا كانــت علــوم التعاليــم، حســب ابــن الهيثم،

باعتبــار هــذه األخيــرة هــي البراهيــن، مبنيــة علــى

المقاييــس الدالــة بالضــرورة علــى صحــة النتيجــة،

وأن طــرق الوصــول إلــى هــذه المقاييــس يشــترط

فــي البدايــة تصيد المقدمات الصادقة والصحيحة

التــي ال يمكــن أن تعترضهــا أيــة شــبهة، ثــم تمحــل

الصادقــة، المقدامــات هــذه تطلــب فــي الحيــل

وهــذه األمــور هــي مــا تســمى، حســب ابــن الهيثــم،

بصناعــة التحليــل، فكيــف تتــم عمليــة التحليــل

والتركيــب؟ أو لنقــل بعبــارة أدق: مــا هــي

التحليــل والتركيــب مــن خطــوات صناعــة

داخــل علــوم التعاليــم عنــد ابــن الهيثــم؟

خطوات صناعة التحليل •والتركيب من داخل علوم التعاليم عند ابن الهيثم:

إن الكيفيــة التــي يحضــر بهــا التحليــل، عنــد ابــن

الهيثــم، مــن داخــل علــوم التعاليــم هــي »أن نفــرض

ننظــر ثــم والكمــال، التمــام غايــة علــى المطلــوب

الموضــوع لذلــك الازمــة موضوعــه خــواص فــي

ولجنســه، ثــم فيمــا يلــزم مــن لوازمــه، ثــم فيمــا يلــزم

مــن تلــك اللــوازم إلــى أن ينتهــي إلــى شــيء معطــى

))4( المصدر نفسه، ص: )0)-04)

فــي ذلــك المطلــوب وغيــر ممتنــع فيــه«)44(؛ أي يجــب

المطلــوب يفــرض أن المحلــل المهنــدس علــى

خــواص فــي ينظــر ثــم التعليميــة، المســائل فــي

موضوعــات هــذه المســائل التعليميــة، وأن ينتهــي

إلــى معنــى معطــى ثابــت ومطلــوب ال يمنع منه مانع،

ولهــذا يقــول ابــن الهيثــم: »فــإذا انتهــى هــذا النظــر إلــى

المعنــى المعطــى، قطــع النظــر فــي ذلــك المطلــوب

ووقــف الناظــر عنــده، والمعطــى هــو المعنــى الــذي ال

يمكــن دفعــه وال يمنــع منــه مانــع«))4(.

أمــا فيمــا يخــص التركيــب فهــو عمليــة الحقــة

علــى التحليــل، ولهــذا نجــد ابــن الهيثــم يقــول عنــه:

الشــيء نفــرض أن فهــو التركيــب كيفيــة »أمــا

ــده وقــف ــه انتهــى التحليــل وعن ــذي إلي المعطــى ال

الناظــر، ثــم يضــاف إليــه الخاصــة التــي وجــدت، قبــل

تلــك الخاصــة؛ ويســلك فــي الترتيــب عكــس الترتيــب

الــذي ســلك فــي التحليــل؛ فإنــه إذا اعتمــدت هــذه

الطريقــة، انتهــى الترتيــب إلــى المعنــى المطلــوب؛

ألنــه كان أول موضــوع فــي التحليــل«))4(، إن التركيــب

فــي صناعــة البرهنــة يأتــي بعــد التحليــل، أو إن صــح

مــن أي التحليــل؛ انتهــى حيــث مــن يبــدأ التعبيــر،

حيــث المعطيــات التــي انتهــى إليهــا التحليــل ووقــف

شــك، أو ممانعــة أيــة دون مــن الناظــر عندهــا

المســتنبطة للمقدمــات تركيــب هــو فالتركيــب

بالتحليــل وبالقيــاس الــدال علــى صحتهــا وصدقهــا.

يؤكــد ابــن الهيثــم بــأن لصناعــة التحليــل خطوات

ضمــن والتركيــب«، التحليــل »فــي مقالــة الهيثــم، ابــن )44(الخامــس والقــرن الثالــث القــرن بيــن التحليليــة الرياضيــات مركــز منشــورات الحجيــري، يوســف ترجمــة ج4، للهجــرة،

.(04 ص: ،(011 بيــروت، ط1، العربيــة، الوحــدة دراســات

))4( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

))4( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 74

البــد أن يســلكها المهنــدس المحلــل، وهــي التــي

التعاليــم بأصــول العلــم »تقديــم أوال: تنحصــر

لألصــول ذاكــرا المحلــل ليكــون بهــا، واالرتيــاض

فــي االعتمــاد بمعنــى التحليــل«)47(؛ عمــل عنــد

الرياضيــة علــى البرهنــة وفــي صياغــة المعطيــات

التعاليــم، التحليــل، باالعتمــاد علــى أصــول عنصــر

وممارســة الفعــل الرياضــي عــن طريقهــا مــع ذكــر

هــذه األصــول أثنــاء عمــل التحليــل، ثــم ثانيــا: »يحتــاج

)المحلــل( أيضــا إلــى حــدس صناعــي؛ وكل صناعــة

فليســت تتــم لصانعهــا، إال بحــدس علــى الطريــق

الــذي يــؤدي إلــى المطلــوب«)48(. مــن الواضــح هنا، أن

ابــن الهيثــم، قــد أدخــل عنصــر الحــدس إلــى صناعــة

التحليــل؛ ألنــه كان علــى وعــي تام بمزايــا هذا اإلدخال،

لكــن التحليــل يبقــى فقيــرا إذا لــم ينفتــح علــى عنصــر

المحلــل علــى ينبغــي لهــذا، الصناعــي، الحــدس

أن يتســلح بالحــدس وهــو يمــارس فــن التحليــل؛

والبنــاءات المعطيــات خــواص إضافــة أجــل مــن

الرياضية/الهندســية فــي حالــة اســتحالة الوصــول

إلــى المطلــوب باالعتمــاد عــن التحليــل والتركيــب.

ال تنحصــر مهمــة التحليــل، عنــد ابــن الهيثــم،

فــي البرهنــة واالســتدالل الرياضييــن، وإنمــا أصبــح

التحليــل، مــن خــال هــذا المنطلــق، آليــة لابتــكار

واالكتشــاف العلمييــن مــن خــال إقحــام عنصــر

الحــدس، فهــذا األخيــر هــو مــا يســاعد المهنــدس

العلميــة الممارســة غمــار خــوض فــي المحلــل

وصاحيــات صــدق علــى البرهنــة أجــل مــن ال

)47( المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

ضمــن والتركيــب«، التحليــل »فــي مقالــة الهيثــم، ابــن )48(الخامــس والقــرن الثالــث القــرن بيــن التحليليــة الرياضيــات مركــز منشــورات الحجيــري، يوســف ترجمــة ج4، للهجــرة،

.(04 ص: ،(011 بيــروت، ،1 ط العربيــة، الوحــدة دراســات

إدخــال خــال مــن وإنمــا العلميــة، نظرياتهــا

المهنــدس المحلــل فــي دائــرة االبتكار واالكتشــاف

العلمييــن، وهــذا المســتوى مــن البحــث العلمــي

ال يصــل إليــه المحلــل الرياضــي باالعتمــاد فقــط

علــى آليــة التحليــل فــي التعامــل مــع المعلومــات

الرياضيــة، وإنمــا مــن خــال إقحــام عنصــر الحــدس

الصناعــي بشــرط أن ال يفهــم هــذا الحــدس كمــا

ــه معرفــة ــه الســائدة بكون هــو متعــارف فــي داللت

إدراكا الرياضيــة للحقائــق إدراك أي مباشــرة؛

الهيثــم ابــن عنــد فـ»الحــدس ومباشــرا، كليــا

أي لحظيــة، وال عفويــة عمليــة مجــرد ليــس

الباطــن الحــس لمحــات مــن لمحــة ليــس أنــه

التــي ينبلــج فيهــا الحــق انباجــا، بــل هــو فــن مــن

ــا كمــا فنــون االبتــكار والخلــق، يقتضــي دربــة ومران

يقتضــي حذقــا ومهــارة«))4(. فالحــدس الصناعــي،

عنــد ابــن الهيثــم، ليــس معرفــة مســبقة بخــواص

الموضوعــات الرياضيــة بــل هــو عمليــة الحقــة تأتــي

المناظــر علــى تأكيــد صاحــب التحليــل، مــع بعــد

أنــه ال ينبغــي االعتمــاد فــي صناعــة البرهنــة فقــط

علــى عنصــر التحليــل؛ ألن ذلــك ســيبقي المهنــدس

الهيثــم ابــن ورهــان التقليــد، دائــرة فــي المحلــل

فــي العلــم أعظــم مــن التقليــد والســماع، ولهــذا،

فــإن المنهــج الــذي يمكــن أن يــؤدي بالمهنــدس

المحلــل إلــى المطلــوب، وإلــى االبتــكار واالكتشــاف

بــكل التســلح هــو التعاليــم؛ علــوم فــي والخلــق

مــن التحليــل والحــدس الصناعــي، كمــا أن دعــوة

فــي واالكتشــاف االبتــكار إلــى المناظــر صاحــب

العلــوم التعليميــة ليــس بغريــب عنــه، مــا دام أنــه

))4( جــال الدريــدي، األســس اإلبســتيمولوجية لفلســفة ابــن الهيثــم الرياضيــة، ضمــن : مجلــة المســتقبل العربــي، مركــز

الدراســات الوحــدة العربيــة، العــدد ))4 مــارس 018)، ص: )11

75يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

خطوات صناعة البرهنة من داخل علوم التعاليم

عند ابن الهيثم

)خطاطة توضيحية لخطوات صناعة البرهنة مــن داخــل علوم التعاليم عند ابن الهيثم(

المهنــدس االعتمــاد صناعــة فــي المحلــل التحليــل علــى البرهنــة

)البرهــان( وحــده

البرهنــة بمعنــى االعتمــاد فــي المعطيــات صياغــة وفــي الرياضيــة علــى عنصــر التحليــل، أصــول علــى أيضــا باالعتمــاد

ليــم لتعا ا

االعتمــاد علــى هــذا العنصــر لوحــده فــي التحليــل ال يــؤدي واالبتــكار االكتشــاف إلــى

لعلمييــن ا

االعتمــاد المهنــدس المحلــل علــى البرهنــة صناعــة فــي الحــدس الصناعــي )الحــدس(

عنصــر علــى االعتمــاد بمعنــى يضيــف الــذي الصناعــي الحــدس المحلــل المهنــدس خالــه مــن الرياضيــة المعطيــات خــواص حالــة فــي الهندســية والبنــاءات اســتحالة الوصــول إلــى المطلــوب.

هــذا علــى االعتمــاد العنصــر يــؤدي إلــى االبتــكار العلمييــن واالكتشــاف

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 76

يعتبــر »العلــم فاعليــة عقليــة تدمــج بيــن الشــك

ضــوء علــى والتهذيــب، والتصويــب واالعتــراض

البرهنــة والتجريــب الذيــن يتوخيــان االقتــراب مــن

درجــة قصــوى مــن الصــواب، ويصــرح أن ال أحــد

يســتطيع أن يحيــط فيــه بــكل شــيء«)0)(.

فــي تقنيــا وال آليــا الهيثــم ابــن يكــن لــم

صناعــة فــي والتركيــب التحليــل فــن اســتخدام

فعــل كمــا التعاليــم علــوم داخــل مــن البرهنــة

ســابقوه، بــل كان صاحــب المناظــر علــى علــم كبيــر

بضــرورة االكتشــاف واالبتــكار داخــل دائــرة العلــم،

يتســنى أن يمكــن ال واالبتــكار االكتشــاف وهــذا

وشــكلية صوريــة علــى الحفــاظ خــال مــن لــه

عنصــر إضافــة دون مــن والتركيــب التحليــل

وهــذا البرهنــة، صناعــة فــي الصناعــي الحــدس

إن دل علــى شــيء، فإنمــا يــدل علــى عقليــة ابــن

الهيثــم التقدميــة فــي العلــم؛ إذ ال يمكــن للتقــدم

فــي العلــم أن تقــوم لــه قائمــة مــن دون عقليــة

تؤمــن بقيمــة االبتــكار واالكتشــاف فــي العلــم. لقــد

أدرك ابــن الهيثــم بــأن المعرفــة العلميــة تفتقــر

القــدرة علــى الخلــق واإلبــداع واالكتشــاف، وهــذا

مــا يبــدو مــن خــال دعوتــه إلــى القــدرة علــى إضافــة

مــع التعامــل فــي جديــدة وبنــاءات معطيــات

بالتحليــل، القيــام أثنــاء الرياضيــة الموضوعــات

عبــر إقحــام عنصــر الحــدس الصناعــي الــذي هــو

ليــس عمليــة مســبقة؛ وإنمــا هــو عمليــة الحقــة

والمنطــق فالحــدس التحليــل. نتائــج بعــد تأتــي

ضروريــان وال يمكــن االســتغناء عنهــا كمــا أكــد

)0)( البوعزاتــي بناصــر، الفكــر العلمــي والثقافــة اإلســامية، دار األمــان، الطبعــة األولــى، )01)، الربــاط، المغــرب، ص: )))

الحقــا؛ Henri poincaré بوانكاريــه هنــري

للبرهــان أداة ســيبقى بتحليلــه المنطــق ألن

تمدنــا باليقيــن، فــي حيــن أن الحــدس ســيبقى أداة

واالبتــكار)1)(. واالكتشــاف الختــراع

على سبيل الختم:

هــو علــم وكل معرفــة كل كانــت فــإذا

بالضــرورة جوابــا عــن ســؤال، بحيــث لــوال األســئلة

لمــا كانــت هنــاك معرفــة علميــة؛ ألنــه ال يمكــن

اعتبــار األشــياء فــي العلــم تســير مــن تلقــاء ذاتهــا

وإنمــا تبنــى وتشــيد)))(، فــإن ابــن الهيثــم كان كثيــرا

مــا يطــرح األســئلة فــي المســائل العلميــة، وكان،

أيضــا، علــى ثقافــة واســعة بالمســائل التعليميــة

)الرياضيــة(، وهــذه الثقافــة الواســعة بهــذا العلــم

االبتــكار الرياضيــة أعمالــه فــي ينشــد جعلتــه

واالكتشــاف واإلبــداع عــوض التقليــد والتكــرار فــي

العلــم. إن صاحــب المناظــر لــم يكــن فــي الحقيقــة

فــي فقــط واإلبــداع واالكتشــاف االبتــكار ينشــد

اإلبــداع هــذا وصــل مــا بقــدر الرياضيــات، علــم

البصريــة أعمالــه فــي تمظهراتــه أوج الخــاق

)1)( لقــد دافــع هنــري بوانكاريــه Henri poincaré الحقــا عــن حضــور الحــدس والمنطــق معــا فــي الفكــر الرياضــي مؤمنــا بأنــه ال يمكــن االعتمــاد علــى المنطــق لوحــده كأداة للبرهنــة فــي الرياضيــات، وإنمــا يجــب االعتمــاد علــى كل مــن المنطــق كأداة للبرهنــة والحــدس كأداة لاختــراع واالكتشــاف واالبتــكار فــي الرياضيــات، وهــذا هــو مــا دفــع بــه إلــى عقــد مقارنــة بيــن الفكــر ــا يــؤدي إلــى اليقيــن، التحليلــي )المنطــق( بوســمه فكــرا تحليليــا يــؤدي إلــى والفكــر الهندســي )الحــدس( بوســمه فكــرا تركيبي

إبــداع واالبتــكار. ولتوســع أكثــر فــي هــذا الموضــوع أنظــر:Henri Poincaré, la valeur da la science, préface de jules vuillemin, science de la nature)Paris : Flammarion,1970(,chap.1 : » science « pp : 27 :40

)52( G . Bachelard, La formation de L’esprit Scientifique,Vrin,1967 , P : 14.

77يف مفهوم املعلوم عند ابن الهيثم

فــي مصنفــه الضخــم فــي المناظــر التــي مــا زال

أبحاثــه فيهــا، وخصوصــا، التاريــخ العلمــي يخلــد

مــا قدمــه فــي موضــوع حقيقــة اإلبصــار إلــى حــدود

الســيما، الفلكيــة، أعمالــه فــي وكذلــك اليــوم،

مجموعــة فــي بطليمــوس علــى شــكوكه فــي

الشــكوك عملــه فــي الفلكيــة القضايــا مــن

علــى بطليمــوس، وكذلــك حضــور هــذا الجانــب

اإلبداعــي فــي تصوراتــه الفلســفية التــي أبــدع فيهــا

مــن خــال نقــد التصــور األرســطي للمــكان ومــن

ــوال فــي رســالته ــى نهجــه فــي هــذا المن ســار عل

األرســطية الفيزيــاء بــأن مبينــا المــكان، فــي

التأمليــة لــم تعــد قــادرة علــى مســايرة مــا وقــع

الهيثــم، ابــن مــع العلــم فــي مســتجدات مــن

المناظــر صاحــب علــى اســتوجب الــذي الشــيء

بلــورة فيزيــاء جديــدة متســلحة بعلــم الرياضيــات،

والســيما الهندســة، غيــر الفيزيــاء األرســطية التــي

كانــت تنظــر إلــى المــكان باعتبــاره نهايــة الجســم

المحيــط، أي هــو الســطح المحيــط بالجســم)))(،

التصــور بهــذا مقتنعــا الهيثــم ابــن يكــن فلــم

بعــد فيمــا ســيجعله ممــا للمــكان، األرســطي

ســينظر إلــى المــكان باعتبــاره بعــدا متخيــا وليــس

متخيــل؛ خــاء هــو أي معيــن؛ لجســم ســطحا

أي أبعــاد مجــردة مــن المــواد، فالخــاء المتخيــل

المتســاوية األبعــاد هــو الجســم مــأله الــذي

ــت مجــردة عــن المــادة)4)(، ل ألبعــاد الجســم إذا تخي

)))( ابــن الهيثــم، رســالة فــي المــكان، تحقيــق: حســن مجيــد العبيــدي، ضمــن: موســوعة المــكان، الجــزء الثانــي، نصــوص بــن حيــان حتــى مــن جابــر الفلســفة اإلســامية فــي المــكان األمــان ودار للنشــر كلمــة منشــورات الهيثــم، ابــن الحســن ومنشــورات االختــاف ومنشــورات ضفــاف، ط 1، )01)، ص: 00).

)4)( المصدر نفسه، ص: )0).

فمعنــى المــكان الــذي كان ينشــد الوصــول إليــه

صاحــب المناظــر فــي الحقيقيــة ليــس هــو ذلــك

المــكان الفيزيائــي، وإنمــا ذلــك المــكان الرياضــي

الهندســي الــذي ال يمكــن أن يفهــم إال مــن خــال

الهيثــم ابــن ســاهم لقــد المتخيلــة... أبعــاده

بشــكل كبيــر فــي تطويــر المعرفــة العلميــة وفهــم

يمثــل مــا أيضــا، وهــذا، علميــا، فهمــا العالــم

بعــدا أساســيا فــي مســاهمته فــي تطــور العلــوم

الغربيــة فيمــا بعــد)))(، والســيما فــي مجــال حقيقــة

المناظــر. اإلبصــار ضمــن علــم

البيبليوغرافيا:

أ- العربية

بطليمــوس، • علــى الشــكوك الهيثــم، ابــن

تحقيــق: عبــد الحميــد صبــره و نبيــل الشــهيباني،

الكتــب، دار إبراهيــم مذكــور، مطبعــة تصديــر:

مصــر. ،1(71

ــاب إقليــدس فــي • ــن الهيثــم، حــل شــكوك كت اب

األصــول وشــرح معانيــه، تصويــر معهــد تاريــخ

منشــورات واإلســامية، العربيــة العلــوم

)140هـــ-)8)1م. فرانكفــورت،

ابــن الهيثــم، رســالة فــي المــكان، تحقيق: حســن •

المــكان، موســوعة ضمــن: العبيــدي، مجيــد

الجــزء الثانــي، نصــوص المــكان فــي الفلســفة

اإلســامية مــن جابــر بــن حيــان حتــى الحســن

)55( R,Rashed,The Tonfiguration Of The universe : A book By Al’Hasan Ibn Al’Haytham, Revue D’histoire Des Sciences, Tome 60-1/janvier,juin 2007,p :48.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 78

ودار للنشــر كلمــة منشــورات الهيثــم، ابــن

ومنشــورات االختــاف ومنشــورات اآلمــان

.(01( ،1 ط ضفــاف،

ابــن الهيثــم، فــي بــركار الدوائــر العظــام، ضمــن: •

التحليليــة الرياضيــات راشــد، رشــدي كتــاب:

بيــن القــرن الثالــث والقــرن الخامــس للهجــرة،

الدراســات مركــز مبســوط، بــدوي ترجمــة

الوحــدة العربيــة، بيــروت 011)، الجــزء الخامــس،

الحســن ابــن الهيثــم: علــم الهيئــة، الهندســة

المثلثــات. وحســاب الكرويــة

ابــن الهيثــم، كتــاب المناظــر، المقــاالت الثــاث •

األولــى، تحقيــق عبــد الحميــد صبــره، المجلــس

،1(8( واآلداب، والفنــون للثقافــة الوطنــي

األولــى. المقالــة الكويــت،

دراســة • الحكمــة، ثمــرة كتــاب الهيثــم، ابــن

وتحقيــق عمــار الطالبــي، ضمــن: مجلــة مجمــع

المجمــع مجلــة بدمشــق، العربيــة اللغــة

العلمــي العربــي ســابقا، الجــزء الثانــي، المجلــد

8))1م. إبريــل والســبعون، الثالــث

كتــاب • مصــادرات شــرح كتــاب الهيثــم، ابــن

إقيلــدس، شــرح وتحقيــق: أحمــد عــزب أحمــد،

مراجعــة: أحمــد فــؤاد باشــا، الكتــب والوثائــق

مصــر،)00). القاهــرة، القوميــة،

ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي التحليــل والتركيــب«، •

ضمــن الرياضيــات التحليليــة بيــن القــرن الثالــث

والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف

الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

العربيــة، ط1، بيــروت، 011).

ابــن الهيثــم، مقالــة »فــي المعلومــات«، ضمــن •

الثالــث القــرن بيــن التحليليــة الرياضيــات

والقــرن الخامــس للهجــرة، ج4، ترجمــة يوســف

الحجيــري، منشــورات مركــز دراســات الوحــدة

بيــروت. ،1 العربيــة، ط

والثقافــة • العلمــي الفكــر بناصــر، البوعزاتــي

،(01( األولــى، الطبعــة األمــان، دار اإلســامية،

المغــرب. الربــاط،

اإلبســتيمولوجية • األســس الدريــدي، جــال

لفلســفة ابــن الهيثــم الرياضيــة، ضمــن: مجلــة

المســتقبل العربــي، مركــز الدراســات الوحــدة

العــدد ))4 مــارس 018). العربيــة،

ب- األجنبية:

• G . Bachelard, La formation de L’esprit

Scientifique,Vrin,1967.

• G, Saliba, Arabic Planetary Theories After

The Eleventh Century AD,in : Encylopedia

Of The History Of Arabic Science, Edited by

R ,Rachid, V1,London And New york,1996.

• Henri Poincaré, la valeur da la

science, préface de jules vuillemin,

science de la nature)Paris :

Flammarion,1970(,chap.1 : » science «.

• R,Rashed,The Tonfiguration Of The

universe : A book By Al’Hasan Ibn

Al’Haytham, Revue D’histoire Des Sciences,

Tome 60-1/janvier,juin 2007.

79 دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية

Research Papers | الدراسات واألبحاث

نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل

فلسفة الفعلThe Speech Acts theory: a study of Speech Act as one of the entries of the philosophy of action. ((( Abdelkader Mellouk | عبد القادر ملوك

)1( أستاذ التعليم العالي مساعد، كلية اللغات والفنون والعلوم اإلنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، المغرب[email protected] :اإليميل

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 80

ملخص البحث:

الضــوء تســليط البحثيــة الورقــة هــذه تســتهدف

هــي بمــا الفعــل« »فلســفة مداخــل أحــد علــى

فلســفة يتســاند فيهــا الفكــر والفعــل فــي ضــرب مــن

المعكوســية بحيــث »نفكــر بالفعــل ونفعــل بالفكــر«،

يتزايــد بهــا الباحثيــن اهتمــام فتــئ مــا فلســفة

هاجــس يحدوهــم المعاصــرة، الفتــرة فــي ويتعاظــم

المرتبــط القديم/الجديــد الســؤال فــي النظــر تجديــد

بعاقــة الفكــر بالفعــل، أو النظــر بالعمــل، متوســلين

فــي ذلــك بمــا عرفتــه بعــض العلــوم مــن تطــور الفــت

الموضــوع لهــذا تناولهــم تعميــق فــي أســعفهم

وتدقيــق بعــض جوانبــه التــي ظــل يكتنفهــا الغمــوض.

ولمــا كان مــن المتعــذر علــى الباحــث الواحــد أن يقــارب

هــذه العاقــة فــي شــموليتها ومــن مختلــف جوانبهــا،

ــل فــي فقــد وقفنــا جهدنــا علــى تنــاول جانــب واحــد، تمث

األفعــال الكاميــة بمــا هــي تجســيد ألحــد أوجــه اقتــران

كــون مــن مســوغه يســتمد اقتــران بالفعــل. القــول

هــذه األفعــال تقــدم منظــورا جديــدا للغــة ينقلهــا مــن

بذلــك مجســدة التداوليــة، رحابــة إلــى الداللــة ضيــق

فعــا تواصليــا يتموقــع داخــل شــبكة عائقيــة، يتخــذ

وضعياتــه، وتغييــر العالــم فــي للتأثيــر أداة صــورة

بــدل االكتفــاء بوصفــه والتعبيــر عــن دالالتــه. وبموجــب

ذلــك بــات يقينيــا أن الفعــل الكامــي يحمــل فــي طياتــه

فعــا اجتماعيــا، ولــم يتبــق أمامنــا ســوى أن نبحــث فــي

الســبل التــي يمكــن بهــا لفكــرة تــدور فــي ذهــن اإلنســان

إلــى مرحلــة الفعــل، مكتفيــن فــي ذلــك بــه أن تنتقــل

الــكام كمــا شــيدها بإبــراز مســاهمة نظريــة أفعــال

تشــييدها. مســار ســيرل وأكمــل أوســتن

81نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

الفعــل فلســفة المفتاحيــة: الكلمــات

– أوســتن – الفعــل – القــول – الــكام أفعــال –

ل. ســير

Abstract:This paper aims to shed light on one of

the entries of the "philosophy of action" as

a philosophy in which thought and action

are interdependent in a sort of reversal.

Hence "we think by action and act by

thought." It is a philosophy that has recently

attracted more and more attention by

researchers. Obsessed with reconsidering

the old/new question of the relationship

between thought and action, or theory

and practice, they tackle it by employing

the considerable developments that

some sciences have achieved, which has

helped them in deepening their approach

to the topic and further scrutinizing

some of its still-ambiguous aspects. As

it is impossible for a single researcher to

provide a comprehensive approach to this

relationship in its different aspects, we have

chosen to restrict our effort in the present

paper to dealing with one aspect; speech

acts, as the materialization of one of the

aspects of the speech-action intermarriage.

This intermarriage derives its justification

from the fact that these acts provide a

new perspective on language, moving it

from the narrowness of Semantics into the

vastness of Pragmatics, and turning it into

a communicative action located within a

relational network that takes the form of a

tool for influencing the world and changing

its situations instead of merely describing it

and expressing its connotations. Therefore,

it has become certain that the speech-

act carries within itself a social act, and it

remains that we examine the ways in which

an idea in the human mind can move it to

the stage of action. In so doing, we refer to

the contribution of the theory of speech-

acts as constructed by Austin and continued

by Searle.

Key words: Philosophy of Action –

Speech Acts - Speech - Act - Austin - Searle.

تقديم:

األدبيــات فــي عليــه بــات يصطلــح مــا عــرف

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 82

المعاصــرة بـ»فلســفة الفعــل«))( اهتماما واســعا

))( يرجــع بعــض الباحثيــن بمفهــوم "فلســفة الفعــل" إلــى أرســطو، خصوصا فــي كتابيــه: "األخــاق إلــى نيقوماخــوس" و"السياســة"، بــل منهــم مــن يربــط اإلرهاصــات األولــى لهــذا المفهــوم بســقراط بحكــم إمعانــه فــي التركيــز علــى الفلســفي الخــوض متجنبــا الفلســفي تعاطيــه فــي البراكســيس جانــب التأملــي الخالــص كمــا دأب علــى ذلــك متفلســفة اليونــان وحكمائهــا مــن ا الذيــن جايلــوه أو كانــوا قبلــه؛ لكــن األكيــد أن هــذا المفهــوم ظــل حاضــرالمتــون مجمــل فــي مضمــرة، أو صريحــة بصــورة ســواء باســتمرار، بمفهــوم بآخــر أو بشــكل اهتمــت التــي واإلســامية الغربيــة الفلســفية الفعــل وتعقبــت أســبابه ونتائجــه وتصــدت لشــروطه ومقتضياتــه، ومــع مــوازاة وتتزايــد، تربــو المفهــوم هــذا حــول الكتابــات بــدأت الزمــن توالــي التفســيرات والتأويــات أبعــاده وتعددهــا، فتناســلت حولــه مــع تشــعب وتمــددت زوايــا النظــر إليــه وتنوعــت مداخلــه، فصــار الحديــث عــن الفعــل يشــمل عــدا عــن بعــده اإلبســتيمولوجي، أبعــادا أخــرى، منهــا األنطولوجــي أرنــدت، )حنــا والسياســي ريكــور(، )نيتشــه، واإليثيقــي هيدغــر(، )مارتــن إشــكالية فــي )البحــث والدينــي مــوران(، )إدغــار والتربــوي وهابرمــاس(، ــي )أوســتين وســيرل( وغيرهــا مــن األبعــاد التــي الفاعــل( واللســاني التداولاإلحاطــة يتعــذر األطــراف مترامــي بصــدد موضــوع بأننــا تشــي جميعهــا بــه فــي شــموليته، ومــع ذلــك يــكاد إجمــاع الباحثيــن يحصــل حــول اعتبــار موريــس بلونــدل )1)18-)4)1( أول مــن صــاغ مفهــوم "فلســفة الفعــل" فــي الفتــرة المعاصــرة، صياغــة واضحــة، وذلــك فــي بحثــه الموســوم "الفعــل: محاولــة لنقــد الحيــاة والعلــم التطبيقــي" والــذي عمــل فيــه علــى دمــج عناصــر مــن البراغماتيــة الحديثــة ضمــن ســياق الفلســفة المســيحية، تولــدت عنــه فلســفة للفعــل جعــل مهمتهــا إعــادة ربــط اإلنســان بالحيــاة المعيشــة وبالواقــع، وهــي مهمــة أرادهــا أن تكــون تصحيحيــة لمســار الفلســفة الــذي ظــل تأمليــا خالصــا متســببا فــي إقصــاء عالــم الواقــع اليومــي واتســاع الهــوة

بيــن الفكــر والحيــاة. وحتــى ال يظــل مفهــوم "فلســفة الفعــل" ملتبســا يكتنفــه الغمــوض، نــورد هاهنــا تعريفاضمنــه الدكتــور عبــد العزيــز العيــادي كتابــه الــذي يحمــل نفــس ــروم ــه أن هــذا الضــرب المخصــوص مــن الفلســفة ي ــرى بموجب ــوان، ي العنارتباطــه بفاعلــه وبالباعــث عليــه إعــادة استشــكال مفهــوم الفعــل فــي بــكل اإليثيقيــة عاقتــه وفــي إليــه، المفضيــة والوســيلة منــه والغــرض مــن المســؤولية واإلرادة ومــا يترتــب عنهمــا علــى المســتوى االقتصــادي والسياســي واالجتماعــي؛ يقــول العيــادي بهــذا الخصــوص: "إن فلســفة الفعــل التــي نعنــي هــي صيغــة الفكــر التــي تســتجمع صيغــة الوجــود التامــة ــى التنقــل فــي مســافة التعاكــس ــم بقدرتهــا عل ــان اإلنســان فــي العال لكيالــذي اإلجرائــي النشــاط هــي والعمــألو النظــر صعيــدي بيــن التكوينــي مفتــوح خطــاب إنهــا )...( بالصيــرورة اللمويضطلــع أو يجسدالتســاتل ]يعبــر[ عــن جملــة مراحــل الكينونــة وفــي اإلنســان الــذي يدخــل بفعلــه فــي العالــم ويشــكل فعلــه بعــدا مــن أبعــاد العالــم." )فلســفة الفعــل، ص )( مــن جانبــه آثــر الدكتــور طــه عبــد الرحمــان تســمية هــذا المفهــوم بـ"فلســفة العمــل" عــوض "فلســفة الفعــل"، وهــو وإن لــم يتناولــه فــي كتابــه "ســؤال العمــل" تنــاوال مباشــرا بدليــل قولــه "مــا يشــغلنا هاهنــا ليــس هــذا الضــرب مــن البحــث الفلســفي" )ص ))(، فإنــه نظــر مــع ذلــك علــى مــدار صفحــات الكتــاب المذكــور فــي "بعــض األصــول العمليــة التــي ينبنــي عليهــا الفكــر الفلســفي، مؤثــرة فــي تكوينــه وتطويــره، حتــى مــن غيــر وعــي بهــا، ناهيــك مــن استشــكالها"، وقــد تبيــن لــه أن التأثيــر العملــي إنمــا ينفــذ إلــى الفكــر ــه، األمــر الــذي يفيــد أن اقتــران الفلســفي مــن المجــال التداولــي الحاضــن لالنظــر بالعمــل مســألة ال غنــى عنهــا للممارســة الفلســفية الحقــة، التــي باعتبارهــا فلســفة التداوليــة" "الفلســفة هــو هــا بمصطلــح عجيــب خصتقــوم علــى النظــر العقلــي الــذي يســتند إلــى المأصــول التداولــي لتحقيــق مــا

يســميه "الكونيــة ]الفلســفية[ المشــخصة". وبالنظــر إلــى مــا ســبق ذكــره، فــإن المقاربــة اللســانية-التداولية التــي ــه، ال تعــدو ــا لهــذا المفهــوم فــي دراســتنا هات توســلنا بهــا فــي معالجتنأن تكــون جانبــا واحــدا مــن جوانــب مقاربــة فلســفة الفعــل، وهــو وإن كان جانبــا مهمــا وال شــك، فإنــه ال يعفــي الباحــث المهتــم مــن اســتكمال الرؤيــة عبــر االطــاع علــى باقــي المقاربــات األخــرى الســيما تلــك التــي بــدل الباحثــون العــرب مجهــودا وافــرا إلخراجهــا إلــى دائــرة الضــوء، مثــل المقاربــة األنطولوجيــة التــي اشــتغل عليهــا الدكتــور عبــد العزيــز العيــادي والتــي يجلوهــا كتابــه "فلســفة الفعــل"، والمقاربــة األخاقيــة التــي نهجهــا الدكتــور طــه عبــد الرحمــان والتــي تتبــدى تحديــدا فــي كتابــه "ســؤال العمــل: بحــث عــن األصــول العمليــة فــي الفكــر والعلــم"، والمقاربــة اللســانية-ــة التــي خــاض فيهــا الدكتــور حســان الباهــي خوضــا عميقــا فــي المنطقيكتابــه "فلســفة الفعــل. اقتــران العقــل النظــري بالعقــل العملــي" وهــو

ــرا فــي هــذه الدراســة. ــا عليــه كبي الكتــاب الــذي كان اعتمادن

الفلســفة رواد الســيما الباحثيــن، لــدن مــن

ــه خط لمــا مباينــا منحــى نحــوا الذيــن التحليليــة

أرســطو الــذي يشــار إليــه بالبنــان عنــد الحديــث عــن

هــذا الضــرب المخصــوص مــن الفلســفة، حيــث

تــم تجديــد النظــر فــي الســؤال القديــم المرتبــط

بعاقــة الفكــر بالفعــل، أو النظــر بالعمــل، وأيهمــا

أعلــق بماهيــة الكائــن البشــري، الفكــر أم الفعــل أم

همــا معــا. كمــا وقــع التســاؤل عمــا يحــدد ماهيــة

الفعــل، ومــا إذا كان الفعــل يتســم بالفردانيــة أم

يخضــع لقانــون كلــي، ومتــى نحكــم علــى فعليــن

بأنهمــا فعــل واحــد، ومــا يســتتبع ذلــك مــن تفريــق

إلــى الحركــة، وبيــن وبينــه والحــدث الفعــل بيــن

جانــب أســئلة أخــرى مــن نمــط تحليلــي كمســألة

الوعــي وبيــن والقصديــة، الفعــل بيــن العاقــة

والقصديــة، وهــل القصــد يطبــع كل األفعــال أم

بعضهــا فقــط، وكيــف يمكــن لحــاالت ذهنيــة أن

تــؤدي إلــى حــوادث ماديــة، ومــا وجــه الصلــة بيــن

كســبب الفاعــل نــدرك ومتــى وفاعلــه، الفعــل

)يحصــل الشــيء عنــده( ومتــى ننظــر إليــه كعلــة

ــه(، وهــل األســباب التــي توجــد )يحصــل الشــيء ب

أم نفســية طبيعــة مــن الفاعــل فعــل وراء

وضــع الفاعــل يســتطيع وهــل فيســيولوجية،

ويبــدو موضوعيــا. ليقومــه فعلــه مــع مســافة

أن خــوض فلســفة الفعــل فــي أســئلة مــن هــذا

الذهــن ومــن علــم يقربهــا مــن فلســفة القبيــل

النفــس أكثــر ممــا يقربهــا مــن فلســفة األخــاق؛

ألن الروابــط التــي تصلهــا باألخــاق ضيقــة جــدا،

تتعلــق مثــا بتحديــد المســؤولية عــن فعــل مــا،

ومــا تطرحــه مــن صعوبــات تتعلــق بتحديد أســباب

الفعــل وآثــاره وربطــه بقصديــة الفاعــل وإرادتــه،

83نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

ومتــى نحكــم علــى فعــل بأنــه طيــب أو قبيــح، خيــر

أو شــر، محمــود أو مذمــوم... إلــخ.

ضمــن هــذا التوجــه، ســنحاول الوقــوف عنــد

الكيفيــة التــي تتوحــد بهــا القــوة العالمــة والقــوة

تحليــل آخــر بمعنــى أو اإلنســان، فــي العاملــة

الكيفيــة التــي تفضــي بهــا قــوة التفكــر فــي اإلنســان

المنطــق طبيعــة وتحديــد العمــل، قــوة إلــى

المفكــرة الــذات مــن االنتقــال هــذا يحكــم الــذي

إلــى الــذات الفاعلــة والعكــس مــن خــال نمــوذج

دال فــي هــذا اإلطــار هــو الفعــل الكامــي كفعــل

توجيهــي. إنجــازي-

ــا بهــذا الصنــف مــن األفعــال ــي اهتمامن ويأت

تمــازج إحــدى صــور إلــى كونهــا تجســد بالنظــر

القــول بالفعــل، فهــي تســتخدم أحيانــا »باعتبارها

تثيــر الواجــب كمســلك لجعــل الفاعــل يتصــرف

بطريقــة معينــة أو المنــع كوســيلة لجعلــه يتــرك

حريــة للمتلقــي تتــرك أو آخــر، ويســلك طريقــا

االختيــار بيــن الفعــل والترك...إلــخ«))(، وهــذا إنمــا

يفيــد، انســجاما مــع مــا يقــره رواد التداوليــة، أنــه

ال وجــود للغــة مثاليــة، بــل إن اللغــة ال توجــد إال

متحدثــا بهــا )كام( ومغروســة فــي ثنايــا جماعــة

حاضنــة لها، تجســد فعــا تواصليا يتموقع داخل

شــبكة عائقيــة؛ بمعنــى آخــر أنهــا تركــز أكثــر علــى

الجوانــب التي أســقطها االتجــاه الداللي الصوري

الســياق، المتكلمــون، اهتمامــه: دائــرة مــن

التاريخ...إلــخ، لتغــدو اللغــة بذلــك أداة للتأثيــر فــي

العالــم وتغييــر وضعياتــه، بــدل االكتفــاء بوصفــه

ــران العقــل النظــري ))( حســان الباهــي، فلســفة الفعــل. اقتبالعقــل العملــي )الــدار البيضــاء: أفريقيــا الشــرق، )01)(، ص )).

ــرى فيهــا ســوى ــم يكــن ي وفــق المنظــور الــذي ل

ناقلــة للــدالالت. إن الفعــل الكامــي يحمــل فــي

طياتــه فعــا اجتماعيــا وال يتبقــى أمامنــا ســوى

بهــا لفكــرة التــي يمكــن الســبل نبحــث فــي أن

إلــى بــه تنتقــل أن اإلنســان ذهــن فــي تــدور

مرحلــة الفعــل؛ ألننــا نعتقــد بــأن هويــة اإلنســان

وماهيتــه ال تكتمــان إال فــي حضــور بعــدي الفكــر

والفعــل)4(، إذ لمــا كان الفكــر يعــود باإلنســان إلــى

ذاتــه، وكان الفعــل أو العمــل انتقــاال مــن الــذات

ليصبحــوا شــهودا اآلخريــن ونحــو الخــارج نحــو

ــرن العقــل ــا أن يقت ــات لزام ــه ب ــى وجــوده، فإن عل

النظــري بالعقــل العملــي ليتحــدد قــوام اإلنســان

باعتبــاره كائنــا اجتماعيــا مجبــوال علــى التفاعــل

مــن الغيــر))(، وعلــى هــذا األســاس أصبــح مــع

الممكــن الجــزم بــأن الصلــة بيــن جوانيــة الكائــن

وبرانيتــه تمثــل البراديغــم األســاس فــي بنــاء أي

محاولــة تفســيرية حــول ماهيــة الكائــن البشــري،

هــذا تاريــخ بــه يشــهد مــا ذلــك فــي منطلقنــا

ــى الوجــود علــى ــذ خروجــه إل ــذي دأب من ــن ال الكائ

واألشــد فاعليــة األكثــر األشــكال عــن البحــث

حذقــا إلقامــة تواصــل يمهــد لــه الطريــق وييســر

ــر. ــه لماقــاة الغي ــه ســبل الخــروج مــن ذات ل

)4( يقــول الراغــب األصفهانــي: "وحقهمــا ]أي العلــم والعمــل[ أن يتازمــا؛ ألن العلــم كاألس والعمــل كالبنــاء؛ وكمــا ال يغنــي أس مــا لــم يكــن بنــاء وال يثبــت بنــاء مــا لــم يكــن أس، كذلــك ال ــم". ورد ضمــن: طــه ــر عل ــر عمــل وال عمــل بغي يغنــي علــم بغيعبــد الرحمــان، ســؤال العمــل: بحــث عــن األصــول العمليــة فــي الفكــر والعلــم )الــدار البيضــاء، بيــروت: المركــز الثقافــي العربــي،

)01)(، ص )1.

))( يقــول عبــد العزيــز العيــادي بهــذا الخصــوص: "]إن[ الــذي يفعــل ليــس هــو اإلنســان وإنمــا هــم النــاس فــي تشــاركهم انظــر: وتظالمهــم." وتواجههــم صراعهــم وفــي والتقائهــم ــن، 007)(، ص 10. ــة عــاء الدي فلســفة الفعــل )صفاقــس: مكتب

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 84

أســماء عديــدة وتيــارات مختلفــة ســاهمت فــي

تشــييد صــرح هــذا االتجــاه الــذي يقــرن فلســفة

العقــل بفلســفة الفعــل، ســنكتفي منهــا بــأن نبــرز

بشــكل مقتضــب مســاهمة نظريــة أفعــال الــكام

مشــوار ســيرل))( وأكمــل أوســتن شــيدها التــي

تشــييدها، مــع االشــارة إلــى أننــا لــن نغــوص فــي

مــا بقــدر تفاصيلهــا فــي نخــوض ولــن دقائقهــا

ســنعنى بتســليط الضــوء، مــا أمكننــا ذلــك، علــى

الكيفيــة التــي تحولــت بهــا اللغــة مــن أداة واصفــة

إلــى أداة فاعلــة.

اللغة: من وهم الوصف إلى يقين . 1

اإلنجاز:

دأبــت اللســانيات البنيويــة علــى دراســة اللغــة

كنظــام، أي باعتبارهــا بنيــة منطقيــة دالــة تشــتغل

وفــق نظــام )شــكل- معنــى()7(، ضاربــة صفحــا عــن

المعنــى الــذي يبلــوره المشــاركون في فعل لغوي

أو تواصلــي معيــن؛ فاللغــة حســب هــذا االتجــاه

ينبغــي أن تــدرس علميــا كموضــوع مســتقل، أي

كنســق مغلــق وصــوري تحكــم عناصــره عاقــات

المتكلمــة الــذوات عــن اســتقال فــي مجــردة

ثقافــي السوســيو- النســق عــن انفصــال وفــي

الحاضــن لهــا ولمســتعمليها، بمعنــى أنهــا »رمــوز

))( هنالــك إجمــاع بيــن الباحثيــن علــى أن نظريــة أفعــال الــكام تبلــورت فعليــا فــي الفتــرة المعاصــرة علــى يــد أوســتن الســيما How to( "مــن خــال مؤلفــه "كيــف ننجــز األشــياء بالكلمــات؟do things with words ))))1(( والــذي هــو سلســلة محاضــرات فــي أوســتن قدمهــا جيمــس" وليــام "محاضــرات بعنــوان

هارفــارد ســنة )))1.

)7( جــاك موشــلر - آن ريبــول، القامــوس الموســوعي للتداولية، ترجمــة مجموعــة مــن األســاتذة والباحثيــن بإشــراف عــز الديــن المجــدوب )تونــس: دار ســيناترا، المركــز الوطنــي للترجمــة، 010)(،

ص 4).

ال حيــاة لهــا خــارج النظــام« بلغــة فتجنشــتاين )8(،

بالنسق-الســنن يســمى بمــا هنــا فاألمريتعلــق

الــذي يــرى أن معنــى الرســالة اللســانية إنمــا يتولــد

مــن التوليــف بيــن العامــات، وبذلــك يكــون هــذا

قــد دوسوســير، وراءه يوجــد الــذي المنظــور،

ــب الوظيفــة التواصليــة للغــة، أو لنقــل إنــه لــم غي

يجعلهــا ضمــن دائــرة اهتماماتــه كونــه قــرر منــذ

ــى اللغــة باعتبارهــا حامــا للفكــر؛ ــة النظــر إل البداي

لذلــك نجــده قــد تصــدى لدراســة النســق الداخلــي

للغــة )اللســانيات الداخليــة( معرضــا عــن أســئلة

)اللســانيات وغيرهــا والبــث والتأثيــر المصــدر

لســانيات تكــون المعنــى وبهــذا الخارجيــة(،

ــه، دوسوســير قــد تجاهلــت التواصــل فــي حــد ذات

فهــي رغــم تنصيصهــا علــى أن الكلمــات ليســت

بالنســبة لإلنســان مجــرد أدوات تمكنــه مــن تمثــل

تهــا جــزءا مــن فعــل الــكام الــذي فكــره، بــل عد

يتــم بيــن طرفيــن علــى األقــل، فإنهــا لــم تتحــدث

circuit de()((الــكام دارة عــن بــل التواصــل عــن

parole( التــي ينعــدم فيهــا التفاعــل بيــن الــذوات

فــي إال الــدارة ال تشــتغل دامــت مــا المتكلمــة،

اتجــاه واحــد، وليــس صحيحــا مــا ذهــب إليــه ديكــرو

مــن أننــا انتقلنــا مــع دوسوســير مــن »لســانيات

إال اللهــم التواصــل«، إلــى »لســانيات التمثيــل«

دال/مدلــول. العاقــة فــي التواصــل اختزلنــا إذا

وهــو مــا زكاه ييــف وانكيــن )Yves Winkin( حيــن

اعتبــر أن »اللغــة أصبحــت هنــا )أي داخــل نظريــة

دوسوســير( مجــرد تجريــد غيــر ســياقي، ال يقيــم أي

)8( لودفيــك فتجنشــتاين، تحقيقــات فلســفية، ترجمــة عبــد الــرزاق بنــور )بيــروت: المنظمــة العربيــة للترجمــة، 007)(،ص 4).

)9( Jean Lohisse, La communication.De la transmission à la relation, Edition De Boeck 2007, p.70.

85نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

وزن للــكام أو لوضعيــة التخاطــب«)10(.

لقــد امتــد النمــوذج اللســاني البنيــوي وطالــت

مناهجــه ونتائجــه لتشــمل كل أنســاق العامــات

فــي اإلنســانية؛ العلــوم مجــال إلــى المنتميــة

االنتروبولوجيــا كمــا فــي علــم النفــس واللســانيات

التحليليــة الفلســفة، حقــل فــي أمــا وغيرهــا؛

مــن الباحثيــن بعــض عمــد فقــد بالخصــوص،

هــذا تطويــر إلــى وســيرل أوســتن جملتهــم

المشــروع واالهتمــام أكثــر باألبعــاد التــي أغفلهــا،

والتــي قصــد، غيــر عــن أو قصــد عــن ســواء

أخــذت حــال فــي تســعفهم، عناصــر فيهــا رأوا

ووظائفهــا، اللغــة مجــال تطويــر فــي باالعتبــار،

الفصــل عــن بعيــدا أطروحاتهــم صاغــوا وقــد

والــكام، اللغــة بيــن دوسوســير أقامــه الــذي

اللغــة اســتعماالت دراســة علــى انكبــوا حيــث

كأداة إنجازيــة تواصليــة تســتهدف إحــداث تأثيــر

فتــح إلــى أنهــم ســعوا آخــر بمعنــى الغيــر، فــي

أكثــر وجعلــه دوسوســير، أغلقــه الــذي النســق

اهتمامــا بطرفــي العمليــة التواصليــة وبالســياق

اللغــة فــي وغيرهمــا، يحدوهــم هاجــس دراســة

تنــوع وظائفهــا، كيــف ال وهــي »التــي تؤســس كل

تواصليــة«)11(. عمليــة

لقــد بنــى هــذان الباحثان نموذجــا يدرس معنى

اســتعماالتها خــال مــن والعبــارات الجمــل

وانطاقــا مــن الســياقات التــي تحضنهــا، مــادام

)10( Ibid, p.71.

)11( رومــان جاكوبســون، قضايــا الشــعرية، ترجمــة محمــد الولــي ومبــارك حنــون )الــدار البيضــاء: دار توبقــال، 88)1(، ص. 7.

يلــزم األولــى))1(، بالدرجــة اجتماعيــا فعــا الــكام

كل متكلــم بــأن يضــع فــي اعتبــاره، عنــد تحليلــه

مــن العناصــر مــن جملــة الغيــر، مــع لعاقاتــه

الــذي األمــر والمواقــع، واألدوار الســياق بينهــا

يشــي بــأن أفعــال الــكام، التــي غيبهــا دوسوســير

مكانتهــا لتحتــل عــادت اشــتغاله، مجــال مــن

ــل يمكــن ــة، ب ــة التواصلي ــة داخــل العملي الحقيقي

ــه ــن، إن التواصــل برمت ــن الباحثي القــول، مــع هذي

كأفعــال إليــه ا منظــور الــكام فــي اختــزل قــد

قوليــة وضعيــة فــي تغييــر إحــداث إلــى تهــدف

فعــا، ننجــز أن معنــاه نتكلــم »فــأن معينــة،

محكومــا بقواعــد مضبوطــة، نرمــي مــن خالــه إلــى

إحــداث تغييــر فــي وضعيــة المســتقبل، وتعديــل

نســق اعتقاداتــه و/أو موقفــه الســلوكي؛ بمعنــى

إلــى نحــدد، أن يقتضــي معيــن، قــول فهــم أن

جانــب محتــواه اإلخبــاري، قصديتــه التداوليــة، أي

التبليغيــة«))1(. وقوتــه قيمتــه

وفــق هــذا المنظــور، هناك مســألتان هامتان

ال ينبغــي إغفالهمــا، األولــى أن كل معلومــة، أيــا

كانــت طبيعتهــا، تكــون محملــة بشــحنة تداوليــة

))1( ينظــر العيــادي إلــى اللغــة علــى وجــه اإلجمــال بأنهــا "ليســت بــل هــي الفعــل تنــوب عــن تبليــغ أو وســيلة مجــرد وســيط مشــاركة فيــه مــن جهــة إنطاقــه والحــث عليــه أو النهــي عنــه ومــن جهــة إعانــه ونشــره وبســطه للتأويل." )فلســفة الفعل، ص 17( وغــاب عنــه أن أفعــال الــكام ال تقتصــر وظيفتهــا علــى المشــاركة فــي الفعــل مــن جهــة اإلنطــاق أو الحــث أو النهــي أو اإلعــان عنــه أو بســطه للتأويــل فحســب، وإنمــا هــي فــي حــد ذاتهــا أفعــال، كمــا ســيتبين لنــا الحقــا. وربمــا يكــون مــرد عبــارة والفعــل القــول بيــن التطابــق لهــذا العيــادي إغفــال أرســطو التــي مضمونهــا: "الفعــل إذن هــو أن يوجــد الشــيء فعليــا وليــس بالكيفيــة التــي قلنــا بهــا إنــه يوجــد بالقــوة". وقــد استشــهد العيــادي بهــذا القــول فــي هامــش الصفحــة 4) مــن

كتابــه.

)13( C. Kerbrat-Orecchioni, L’énonciation. De la subjectivité dans le langage, Paris, Armand Colin, 1999, pp. 205-206.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 86

قــد تخفــت قوتهــا أو تشــتد، وقــد تبــدو واضحــة

تظــل أنهــا األكيــد لكــن تظهــر، ال وقــد جليــة

حاضــرة، ومــن الــازم أخذهــا باالعتبــار؛ والثانيــة

أن أطــراف العاقــة التواصليــة هــم بالضــرورة

مســاهمون فــي العمليــة التواصليــة، متورطــون

يحتلــون كونهــم األشــكال، مــن بشــكل فيهــا

تختلــف أدوارا ويلعبــون مخصوصــة أماكــن

مــن ســياق إلــى آخــر، بــل إنهــا قــد تختلــف مــرات

ذوات أنهــم أي الســياق، نفــس داخــل عديــدة

تتبــادل التأثيــر فيمــا بينهــا، األمــر الــذي يجعــل

الــذي المنظــور تتجــاوز الكاميــة الوضعيــة

ظــل يــرى فيهــا نقــا للمعلومــات مــن مرســل

يبعــث برســالة إلــى متلــق يفــك شــفرتها بقصــد

الــذوات يــرى فــي فهــم فحواهــا، نحــو منظــور

وبنــاء تشــييد فــي فاعلــة أطرافــا المتواصلــة

العمليــة التواصليــة، أطــراف لهــا أدوار كمــا لهــا

ذواتهــا، عــن معينــا تصــورا وتحمــل مواقــف

إلــى جعــل التواصــل عمليــة يــؤدي الوعــي بهــا

ــات حيــة تتبــادل فيهــا األدوار والمواقــف والرهان

وليــس مجــرد عمليــة ذات منحــى خطــي حنطــت

واألدوار مســبقا. األماكــن داخلهــا

ــل ولئــن ســلم الجميــع بــأن ظهــور اللغــة مث

منــذ التأكيــد وجــرى لإلنســانية، ملفتــا تقدمــا

األكثــر اللعبــة أهميتهــا بوصفهــا علــى القديــم

مهــارة وحدقــا ضمــن اختراعــات اإلنســان، فألنــه

قــد ثبــت أنهــا تلبــي لدى هذا الكائــن حاجة متأصلة

لديــه تكمــن فــي ضــرورة انفتاحــه علــى الغير وعلى

اإلنســان مــن اقتضــى االنفتــاح وهــذا العالــم،

االنتقــال مــن الكوجيطــو إلــى الكوجيطامــوس،

الــذات المفكــرة المنعزلــة المتقوقعــة أي مــن

علــى ذاتهــا إلــى »النحــن« التــي تعكــس المعيــة

الفكريــة والتفكيــر الجماعــي الــذي تتقاطــع فيــه

ــي، ــى ذات ــي إل ــذوات وتتفاعــل، فـ»الفكــر يعــود ب ال

غيــري جعــل فــي تكمــن فميزتــه العمــل أمــا

شــاهدا علــى وجودي«)14(.كمــا أن تجربتنــا الخاصــة

وأحاديــة ضيقــة أنهــا بحكــم تكفــي ال وحدهــا

الجانــب، لذلــك نحــن فــي حاجــة إلــى تجــارب أخــرى

نســتلهمها كمــا لــو كانــت لنــا ونتخذهــا منــواال

فــي تصريــف أعمالنــا، وال حيلــة لنــا فــي إدراك هــذا

األداة باعتبارهــا باللغــة التوســل إال المبتغــى

الغيــر األكثــر فعاليــة اللتقــاط جــزء مــن تجربــة

ومعرفــة العالــم وتملــك صــوره الموضوعاتيــة

مــا "غالبــا المعرفــة هــذه ألن واالجتماعيــة؛

تتمتــرس خلــف إســار مفاهيــم وتراكيــب اللغــة

.)1(( الخطابيــة والممارســة

وبموجــب ذلــك بــات مــن الــازم »النظــر إلــى

كل عمليــة تخاطبيــة علــى أنهــا فعاليــة يســعى

المخاطــب جعــل إلــى المتكلــم خالهــا مــن

إلــى بــه الدفــع أي محــدد؛ نحــو علــى يتصــرف

المتلقــي معتقــد تبديــل أو تعديــل أو تثبيــت

قصــد جعلــه يأتــي بفعــل مــا أو يمســك عنــه))1(«؛

ال شــكله أو طبيعتــه كانــت أيــا الخطــاب ألن

ه إلــى كونــه »ال يقــع يخلــو مــن بعــد توجيهــي، مــرد

وحتــى مريــد)17(«؛ وإرادة قاصــد قصــد وفــق إال

)14( الباهي، فلسفة الفعل، ص 8.

))1( حســن المصدق، يورغان هابرماس ومدرســة فرانكفورت: النظريــة النقديــة التواصليــة )الــدار البيضــاء، بيــروت: المركــز

ــي، )00)(، ص 8)1. الثقافــي العرب

))1( الباهي، فلسفة الفعل، ص 10.

)17( نفسه، هامش الصفحة )).

87نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

إن عمــد صاحــب الخطــاب إلــى إخفــاء مقاصــده

وتوريتهــا عبــر اللجــوء إلــى مــا يســمى بـــ »المســح

الخطابــي« )L’effacement énonciatif(*)18( والتحصــن

وراء »حيــاد« مزعــوم، فــإن مــا هــو متعــارف عليــه،

الســيما فــي مــا يتعلــق بالخطــاب االحتمالــي))1(*،

تتجــرد الــذات، كائنــة مــا كانــت، ال يمكــن أن أن

مــن وعيهــا، ومــن أحكامهــا، واعتقاداتهــا، مثلمــا

ــة لجهــاز ــه، فتصبــح مماثل يتجــرد المــرء مــن ثياب

اإلرســال، و»إنمــا هــي ذات ال تقصــد مــا تظهــر

مــا قصــد إلــى تجــاوزه بــل فقــط، الــكام مــن

تبطــن فيــه، معتمــدة علــى مــا أوردت فــي متنــه

والــذات خارجــه«)0)(، منهــا ورد ومــا قرائــن مــن

الباحثيــن لــه عديــد الخطابــي تصــدى المســح )18(* مفهــوم مــن بينهــم جيــل فيليــب )Gilles Philippe( وكيربــارت أوركيونــي )Kerbrat-Orecchioni( وأالن رباطيــل )Alain Rabatel( وهــم يجمعــون علــى أن القصــد مــن وراء توظيفــه يكمــن فيجعــل لذاتيــة أثــر فيهــا كل يمحــي بصــورة نفســه يقــدم الخطــاب صاحبــه مســلطا الضــوء أكثــر علــى مصــادر المعلومــة أو الخبــر، المــراد األطروحــة قبــول علــى المتلقــي هوحمــل والهــدف

تمريرهــا واالقتنــاع بهــا.

،)Paul Ricoeur(الخطــاب االحتمالــي كمــا يعرفــه بــول ريكــور *)1((أســفل فــي الهــذر( )أو االعتبــاط بيــن يمتــد الــذي الخطــاب هــو الســلم واالســتدالل البرهانــي فــي أعــاه )أورده د.محمــد العمــري فــي: الحجــاج مبحــث باغــي فمــا الباغــة؟ ضمــن: الحجــاج مفهومــه ومجاالتــه، الجــزء األول، مرجــع مذكــور، ص ))(، كمــا أن المحتمــل ليــس حكــم قيمــة ثالــث، وفــق مــا اســتنبطه الريفــي مــن قراءتــه ــل هــو حكــم ألعمــال أرســطو، يقــع بيــن حكمــي الصــدق والكــذب، بتــرك هامــش مــن عــدم بصــدق وجــود المحمــول للموضــوع مــع ــد أرســطو، ضمــن: أهــم ــق. )ينظــر هشــام الريفــي، الحجــاج عن التوثاليــوم، الــى أرســطو الغربيــة. مــن التقاليــد فــي الحجــاج نظريــات والفنــون اآلداب آداب جامعــة إشــراف حمــادي صمــود، سلســلة ــة، د.ت،، ص: 4)1-))1(. وتجــدر ــة اآلداب منوب ــوم اإلنســانية، كلي والعلاإلشــارة هنــا إلــى أن فتــح المجــال أمــام "المحتمــل" جــاء انســجاما مــع العقانيــة المعاصــرة المشــيعة لثقافــة االختــاف والتعدديــة لــم تعتــرف إال بالتفكيــر التــي وعلــى أنقــاض العقانيــة الديكارتيــة الصــادق )le vrai( الــذي إذا افتــرض أن أحــدا ظفــر بــه أوصــد البــاب اثنــان أطلــق "كلمــا ديــكارت: يقــول آخــر، موقــف أي أمــام تمامــا حكميــن مختلفيــن علــى شــيء واحــد كان أحدهمــا صادقــا واآلخــر كاذبــا". )عبــد هللا صولــة، الحجــاج: أطــره ومنطلقاتــه وتقنياتــه مــن خــال ــكا"، ضمــن: "مصنــف فــي الحجــاج – الخطابــة الجديــدة-" لبيرلمــان وتتيأهــم نظريــات الحجــاج فــي التقاليــد الغربيــة، مرجــع مذكــور، ص 04)(.

التكوثــر العقلــي أو اللســان والميــزان الرحمــان، )0)( طــه عبــد )الــدار البيضــاء، بيــروت: المركــز الثقافــي العربــي، )01)(، ص )1).

بفعلهــا هــذا تجعــل مــن خطابهــا خطابــا ينــزل

االعتباطــي الخطــاب بيــن وســطى مرتبــة فــي

العــاري مــن أيــة ضوابــط منطقيــة مــن شــأنها

أن تصبــغ علــى الملفــوظ معنــى، وبيــن الخطــاب

قيمــة صدقيــة تحكمــه الــذي الصــارم العلمــي

)صدق/كــذب(. مزدوجــة

والحديــث عــن فاعليــة اللغــة ينبغــي أن يتنــاول

بحــذر الســيما وهــو يتصــدى لمبحــث اختلفت حوله

التصــورات طيلــة ألفــي ســنة، ونقصــد بالفاعليــة

هنــا ذلــك التأثيــر الــذي يحدثــه تدخــل خطابــي معيــن

فــي طــرف آخــر باإلضافــة إلــى النتيجــة المتولــدة

عــن هــذا التدخــل، وهــو التعريــف الــذي يبــدو لنــا أنــه

يتقاطــع نوعــا مــا مــع مفهــوم القــوة اإلنجازيــة،

الــذي اقترحــه أوســتن ))))1 ;70)1( ضمــن أعمالــه

حــول أفعــال الــكام، ومعنــى ذلــك أن المتدخــل

يمتلــك عنــد كل مداخلــة خطابيــة يعتــزم القيــام

ترتهــن تقديــر، أقــل علــى معلنــة، قصديــة بهــا،

أجرأتهــا بمــدى فاعليتــه الخطابيــة، مــع اإلشــارة

إلــى أن القصديــة الخطابيــة، تتميــز بدرجــات فاعليــة

مختلفــة، فقــد تحقــق هدفهــا بصــورة كليــة وقــد ال

ــى لهــا ذلــك إال بكيفيــة جزئيــة. يتأت

إن مصطلــح الفاعليــة نعثــر عليــه متضمنــا في

متواليــة أخــرى مــن المصطلحــات مثــل: الفعــل،

والتغييــر، والفعاليــة وغيرهــا، وهــي فــي مجملهــا

تعيدنــا مجــددا إلــى التصــور األرســطي الــذي اســتند

إلــى الخطابيــة لألجنــاس الثاثــي تقســيمه فــي

معيــار الفعــل الــذي ينــدرج ضمنــه كل نــوع مــن

إلــى باإلضافــة التقســيم وهــذا الخطــاب، أنــواع

أعمــال كل مــن أوســتن وســيرل وغيرهمــا، يفضــي

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 88

بنــا إلــى القــول بــأن اللغــة هــي فــي أحــد مظاهرهــا

خطــاب فعــل يتــم عبــر وســاطة القــول، بمعنــى

أنهــا تنقلنــا مــن مجــال القــول إلــى مجــال الفعــل.

البعد اإلنجازي ألفعال . 2الكالم.

أ. أوستن: كيف ننجز األفعال باألقوال؟

عمــد أوســتن إلــى بلــورة منظــور تداولــي اســتند

ــة وإلــى دورهــا فــي إفــادة معنــى ــى اللغــة العادي إل

التــي تلــك عــن مختلفــة وظائــف يــؤدي تداولــي

نافــح عنهــا النمــوذج الداللــي الوصفــي؛ بمعنــى أن

اهتمــام أوســتن باللغــة لــم يكــن اهتمامــا داخليــا

محضــا، ينظــر لهــا كموضــوع للدراســة فحســب،

بــل رأى فــي الكلمــات أدوات للتأمــل الفلســفي مــن

الــازم فحــص مختلــف أوجــه اســتعمالها مــن أجــل

التقــدم فــي فهــم الواقــع والظواهــر )1)( .

ولعــل مــن جملــة مــا يحســب لهــذا الباحــث

اللغويــة األفعــال مــن نــوع عنــد وقوفــه هــو

التــي ال تكتفــي بوصــف شــيء أو معطــى معيــن،

بــل تتعــدى الوصــف نحــو الفعــل، أو لنقــل أنهــا

تنتقــل مــن اإلخبــار إلــى االنجــاز، مثلمــا هــو الحــال

أو الــزوج بهــا يجيــب التــي »نعــم« عبــارة مــع

الزوجــة عنــد الــزواج )نعــم أقبــل أن تكــون هــذه

»أعلــن عبــارة أو الشــرعية(، زوجتــي المــرأة

)21( Austin.J.L : "A Plea for Excuses", Proceedings of the Aristotelian Society, 1956-57, in: Philosophical Papers, London, Oxford, New York: Oxford University Press, 2 édition )paperback(, 1976 )1961(, pp. 175-204., p 182.

ــي يتلفــظ بهــا القاضــي فــي ــاح الجلســة« الت افتت

مســتهل تداولــه بخصــوص قضيــة مــا، أو عبــارة

»أنصحــك باإلقــاع عــن التدخيــن«، وغيرهــا مــن

العبــارات المشــابهة )))( وهــذه الجمــل االنجازيــة/

االنشــائية يقصــد بهــا تلــك العبــارات التــي ميزتهــا

أنهــا تنجــز فعــا، »واإلنجــاز فــي نظــر أوســتن، هــو

مــا يحصــل مدلولــه فــي الخــارج بالــكام، فنحــن

أننــا نخرجهــا الــكام ننجــز األشــياء بمعنــى فــي

أوضــاع حســب الوجــود إلــى العــدم حيــز مــن

التــي اإلخباريــة للجمــل خافــا ومواقــف«)))(

تكتفــي بوصــف مــا هــو موجــود ســلفا. بمعنــى

حرفيــا أوســتن كام اســتعادة شــئنا وإذا آخــر،

قلنــا »إن التلفــظ بهــذه الجمــل اإلنشــائية فــي

أنــي أصــف المناســبات المخصوصــة ]ال يفيــد[

علــى أتحــدث وأنــا الفعــل، بذلــك قيامــي حــال

هــذا النحــو، كمــا أنــي ال أريــد أن أثبــت كونــي قائمــا

بذلــك الفعــل: بــل إن النطــق بالجملــة هــو إنجازهــا

وإنشــاؤها«)4)(.وقد كان هــدف أوســتن أن يثبــت

أن اللغــة ليســت مهمتهــا تقريريــة محضــة وإنمــا

األفعــال، وبهــذا ســيتجاوز إنجــاز نحــو تتعداهــا

حصــره الــذي المنظــور عنــده الداللــة مفهــوم

)))( يقول أوستن بخصوص العبارات اإلنشائية أو اإلنجازية:“In these examples it seems clear that to utter the sentence )in, of course, the appropriate circumstances( is not to de scribe my doing of what l should be said in so uttering to be doing or to state that l am doing it: it is to do it."Austin.J.L : How to do things with words. The William James Lectures delivered at Harvard University in 1955, second Edition, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts, 1962, p.6.

نظريــة أفعــال الــكام العامــة. كيــف ننجــز )))( جــون أوســتن، البيضــاء: )الــدار قنينــي القــادر عبــد ترجمــة بالــكام، األشــياء

ص7. ،)1((1 الشــرق، أفريقيــا

)4)( أوستن، المرجع نفسه، ص 17.

89نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

حيــن المنطــق فــي الوضعــي المذهــب فيــه

اختزلــه فــي تحقــق شــروط الصــدق فــي العبــارة

مــن منطلــق أن »األخبــار القابلــة للتحقــق علــى

المســتوى االختبــاري، فقــط يمكــن أن تتوفــر علــى

داللــة، وســائر األقــوال تعتبــر عاطفيــة«)))(، ليأخــذ

معنــى أكثــر رحابــة يرتهــن بموجبــه باالســتعمال

التخاطبــي للــكام وبالســياق الــذي يحضــن هــذا

الــكام وبمقاصــد المتكلميــن، وتبعــا لذلــك مــا

عــاد ممكنــا »إســناد المعنــى أو الصــدق بكيفيــة

المعنــى دام مــا وأبديــة وموضوعيــة مطلقــة

وال واألحــوال األقــوال بحســب ويتغيــر يتبــدل

جردنــاه متــى كان قــول مهمــا أي فهــم يمكــن

مــن ســياقه التلفظــي، مــا دامــت الــذات ال تكــف

المــادي المحيــط مقومــات مــع التفاعــل عــن

والمعرفــي الــذي يتدخــل فــي تحديــد المعنــى«)))(.

فالمعنــى الــذي يحويــه خطــاب معيــن وإن كان

أن إال األول المقــام فــي اللغــة مــن نســيجا

االســتعمال هــو مــن يتحكــم فيــه ويجعلــه فاعــا؛

ألن اللغــة حســب أوســتن ليســت شــفافة بــل

هــي خــزان لمقاصــد وأغــراض المتكلميــن، وهــذا

الجمــل بيــن التمييــز لــه الــذي ســوغ هــو األمــر

أن منطلــق مــن االنشــائية، والجمــل اإلخباريــة

أنهــا بمعنــى الكــذب أو الصــدق تقبــل األولــى

الثانيــة أن حيــن فــي صدقيــة، قيمــة تمتلــك

تتعلــق أساســا بتحققهــا الفعلــي الــذي يمكننــا

بحســب اإلخفــاق أو بالتوفيــق عليــه نحكــم أن

ونصــوص مداخــل والحجــاج، التداوليــة الحباشــة، صابــر )((( .77 ص ،)(008 صفحــات، منشــورات )دمشــق:

)))( حســان الباهــي، "العلــم والبنــاء الحجاجــي"، ضمــن: الحجــاج مفهومــه ومجاالتــه، الجــزء األول، إشــراف حافــظ إســماعيلي

علــوي )األردن: عالــم الكتــب الحديــث، 010)(، ص 4)1-))1.

مطابقتهــا لمقتضــى الحــال، وقــد ســيج أوســتن

هــذه المطابقــة بمجموعــة مــن الشــروط يمكننــا التاليــة:)7)( العناصــر فــي تلخيصهــا

مطــرد . 1 نهــج علــى واتفــاق تواضــع حصــول

المتواطــئ اآلثــار بخصــوص عليــه متعــارف

عليهــا عنــد التلفــظ ببعــض العبــارات مــن لــدن

المابســات. بعــض فــي النــاس بعــض

المعنيــون . ) األشــخاص يكــون أن يجــب

وفــق علــى المخصوصــة والمابســات

. ســبة لمنا ا

يجــب أن ينفــذ المشــاركون المنهــج علــى وجــه . )

صحيــح مضبوط.

أن يتوفــر المشــاركون علــى القصــد والنيــة في . 4

أن يتبعــوا هــم أنفســهم الســلوك المترتــب

عــن اإلجــراء المســطري.

أن يلــزم المشــاركون أنفســهم واقعيــا بمــا . )

ينتــج عــن الســلوك مــن عواقــب ونتائــج.

وعلــى الرغــم مــن هــذه الشــروط، فقــد وجــد

أوســتن صعوبــة فــي الفصــل القاطــع بيــن الجمــل

اإلنشــائية والجمــل اإلخباريــة فانتقــل إلــى تمييــز

مــن ضــرب مختلــف انصــب علــى عــزل العبــارات

اإلنشــائية العبــارات عــن الصريحــة اإلنشــائية

بــأن »أعــدك عبــارة فمثــا األصليــة؛ أو األوليــة

أحضــر غــدا« هــي إنجــاز صريــح لفعــل الوعــد، لكــن

عبــارة »ســأحضر غــدا« هــي فعــل إنشــائي ضمنــي

بشــكل صياغتــه يمكــن والــذي الوعــد، لفعــل

)7)( أوستن، نظرية أفعال الكام العامة، ص 7)-8).

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 90

صريــح علــى الصــورة التاليــة »أعــدك بــأن أفعــل«،

وقــد اســتفرغ أوســتن جهــده فــي ضبــط مجمــل

العبــارات مــن الصنفيــن هذيــن بيــن التمايــزات

ــل مث الــذي الســؤال فــي الحســم مــن ليتمكــن

منطلقــا لــه فــي بحثــه، والــذي مقتضــاه: وفــق أي

معنــى يمكــن أن يتحــول قــول شــيء إلــى

فعــل؟

وقــد توصــل فــي معــرض خوضــه فــي هــذه

المســألة إلــى أن األقــوال اإلخبارية ليســت ســوى

هــي تكــون أن يمكنهــا اإلنشــاءات، مــن ضربــا

أيضــا أوليــة أو صريحــة؛ ألن هــذه األخيــرة تشــف

ضبــط دون تحــول اللبــس مــن ضــروب عــن

ماهيتهــا وتحديدهــا بدقــة؛ فــكل عمــل قولــي هــو

فــي المقــام األول فعــل؛ ألنــه نتــاج أصــوات تتولــد

عــن تركيبــات لفظيــة لهــا داللــة، أمــا مــا ينجــز )يتــم

فعلــه( امتثــاال لعمليــة التلفــظ فيمثــل المكــون

الثانــي للفعــل الكامــي، إذ عبــر القــول يمكننــا أن

نعــد ونطلــب ونأمــر... وهــي أفعــال تنــدرج ضمــن

إطــار مــا يســميه أوســتن بالقــوة التكلميــة التــي

تحــدد أنهــا حيــث مــن قوتــه الملفــوظ تمنــح

الفعــل، وفقــه ينجــز أن ينبغــي الــذي الشــكل

القولــي، للعمــل ثالــث عنصــر هنــاك وأخيــرا

بمعنــى التكليميــة القــوة أوســتن يســميه

)اإلقنــاع، الفعــل إنجــاز عــن ينجــم الــذي األثــر

االســتمالة، اإلغضــاب...(. وبذلــك يبــدو أن فعــل

شــيء عبــر اللغــة ينبغــي أن يمــر مــن ثــاث مراحــل

متمايــزة تقابــل ثاثــة أفعــال مختلفــة ال يمكــن رد

ــى اآلخــر: أحدهــا إل

خــال مــن نحققــه )القولــي(: الكامــي الفعــل

التلفــظ بــكام ذي داللــة )= حضور المعنى والمرجع(.

الفعــل التكلمــي: الفعــل المحــدث أو العمــل

الــذي نحققــه مــن خــال التلفــظ )القــوة التكلميــة(.

عــن يتولــد الــذي الفعــل التكليمــي: الفعــل

ومفعوالتهــا(. اللغــة )آثــار التلفــظ فعــل

داللــة وجــود مــن تلفظيــة تخلــو عمليــة ال

كل فــي معــا وحضورهمــا تكلميــة، وقــوة

ــز ــة التميي ــا علــى صعوب عمليــة قوليــة يعــد دلي

بيــن القــول والفعــل مــادام أن الفعــل الكامــي

يرتهــن التكلمــي والفعــل بالقــول، يرتهــن

بالفعــل المنجــز عبــر القــول، وتواجدهمــا معــا

كوجهيــن لعملــة واحــدة فــي عمليــة التلفــظ هــو

مــا يبــرر التمييــز بيــن الجمــل االنشــائية والجمــل )(8( الخبريــة.

ــارة مــا بأنهــا ــح القــول عــن عب هكــذا يصب

جانبهــا علــى التركيــز إلــى راجعــا إخباريــة

يصبــح المقابــل، وفــي التكلمــي، الكامــي

راجعــا إنجازيــة بأنهــا مــا عبــارة عــن القــول

إلــى التركيــز علــى جانبهــا التكلمــي؛ أمــا الفعــل

ــي التــام فهــو مــا اعتنــي فيــه بالجانبيــن الدالل

والتكلمــي.

فــي الريــادة صاحــب أوســتن عــد ولئــن

اللغــة تنقــل التــي العديــدة االمكانــات دراســة

جانبهــا نحــو الوصفــي التقريــري جانبهــا مــن

اإلنجــازي اإلنشــائي، فــإن الفضــل فــي تطويــر هــذه

)28( Austin, How to do things with words, p.133.

91نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

اإلمكانــات وتوســيع آفاقهــا وتعميقهــا يعــزى فــي

ســيرل. لتلميــذه األول المقــام

ب. سيرل: نظرية الفعل التكلمي

ــه وج اللغــة، علــى اشــتغاله باشــر أن منــذ

تطبيقاتهــا فــي البحــث إلــى اهتمامــه ســيرل

ومفعوالتهــا، أكثــر منــه بالتســاؤل حــول طبيعتها،

فاللغــة ينبغــي أن تــدرك ليــس بوصفهــا نســقا

ــا، وهــذا ســيميائيا، ولكــن باعتبارهــا نشــاطا إنجازي

تداوليــا ا مــن منظــور ســيرل منظــور مــا يجعــل

فــي المقــام األول؛ ألنــه يتعامــل مــع نظريــة اللغــة

بوصفهــا جــزءا مــن نظريــة الفعــل )))( .

لقــد رفــض ســيرل التمييــز الــذي أقامه أوســتن

الكامــي بالفعــل المتعلــق الداللــة مجــال بيــن

وقــوة القــول التــي ترتبــط بالفعــل التكلمــي؛ ألنــه

يصعــب التمييــز القطعــي بيــن المجاليــن، فهــذا

األمــر يبقــى مســألة تأويليــة؛ لذلــك اختــزل ســيرل

التمييــز بيــن الفعــل الكامــي والفعــل التكلمــي إلــى

التمييــز بيــن اإلخفــاق والنجــاح فــي األداء التكلمــي،

حيــث أن طبيعــة الفعــل الخطابــي هــي التــي تمنــع

مــن القــول بإمــكان الفصــل بيــن الفعــل الكامــي

مــا ملفــوظ داللــة أن كمــا التكلمــي؛ والفعــل

ليســت رهنــا بقوتــه الكاميــة كمــا ذهــب إلــى ذلــك

)29( » … A theory of language is part of a theory of action, simply because speaking is a rule- governed form of behaviour” )Searle, : Speech Acts - An Essay in the Philosophy of Language, Cambridge: Cambridge University Press,1969. p 17(.

أوســتن، بــل بقوتــه التكلميــة)0)(، وهــذا التعالــق بين

الداللــة والقــوة التكلميــة لــم يتفطــن إليــه أوســتن

الكامــي الفعــل بيــن حــق وجــه بغيــر ففصــل

.)(1( التكلمــي والفعــل

وقــد اقتــرح ســيرل تقســيم أفعــال الــكام إلــى

أربعــة أصنــاف عــوض ثاثــة كمــا كان الحــال عليــه

لــدى أوســتن؛ فحيــن يتكلــم المتكلــم فإنــه:

يتلفــظ بمقاطــع صوتيــة، بكلمــات، أو بمتواليــة

مــن الكلمــات، بمعنــى أنــه ينجــز فعــا قوليــا.

يحيل ويسند: إنه ينجز فعا قضويا؛

يثبت، يأمر، يعد...الخ: ينجز فعا تكلميا؛

)يقنــع، التأثيــرات بعــض يحــدث أن يمكنــه

)((( تكليميــا فعــا ينجــز أنــه بمعنــى يخيــف...(،

وناحــظ فــي هــذا التقســيم الجديــد أن الفعــل

موضعيهمــا علــى حافظــا والتكليمــي التكلمــي

تخلــى حيــن فــي وأوســتن، مــن ســيرل لــدى كل

الفعــل واســتبدل الكامــي الفعــل عــن ســيرل

)30( Searle, ‘Austin on locutionary and illocutionary acts’. The Philosophical Review, Vol. 77, No. 4 )Oct., 1968(, Duke University Press. URL: http://www.jstor.org/stable/2183008, 1968, p. 150.

)1)( نشير إلى أن سيرل انتقد أوستن في ثاثة مواضع:انتقــد التمييــز الــذي أجــراه بيــن األفعــال الكاميــة واألفعــال وســنرصد أعــاه أدرجنــاه الــذي االنتقــاد وهــو التكلميــة، بعــض جوانبــه دون ســواه مــن االنتقــادات األخــرى. كمــا انتقــد التصنيــف الــذي اعتمــده أوســتن فــي ترتيــب القــوى التكلميــة، ــرا أنــه ينطــوي علــى وهــم أن هــذه القــوى التكلميــة تقــع معتبعلــى خــط واحــد وأن الفــرق بينهــا هــو فــرق فــي الدرجــة ال غيــر، والحــال أن هــذه القــوى تنطــوي علــى تعقيــدات كبيــرة تصعــب مهمــة الباحــث فــي وضــع تصنيــف دقيــق وواضــح لهــا، ألنــه يلزمــه أوال أن يدقــق فــي مختلــف المعاييــر المحــددة لألفعــال التكلميــة قبــل أن يقــدم علــى تصنيفهــا. أمــا االنتقــاد الثالــث فقــد انصــب علــى األطروحــة التــي يــرى فيهــا أوســتن بأنــه "ال

تغييــر دون انحــراف".

)32( Searle, Speech Acts, p 24-25.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 92

التصويتــي والفعــل الصيغــي بفعــل إلقــاء القــول،

كمــا أبقــى علــى جــزء مــن الفعــل التبليغــي وأضــاف

الفعــل مســمى ليأخــذ واإلســناد المرجــع إليــه

القضــوي.

فــي األســاس حجــر التكلمــي الفعــل ويعــد

نظريــة ســيرل حــول أفعــال الــكام، أمــا الفعــل

التكليمــي فوظيفتــه ال تتعــدى تدقيــق مــا ال يعــد

تكلميــا. فعــا

بمثابــة القــول إلقــاء فعــل ســيرل يعتبــر

أن يمكــن أساســها علــى التــي األوليــة المــادة

ينجــز فعــل تكلمــي معيــن، فــاألول ال غنــى عنــه

فــي وجــود الثانــي، فنحــن حيــن نعتــزم اإلدالء بوعــد

فــي بكلمــات، التلفــظ ذلــك يســتلزم فــإن مثــا،

يفضــي أن دون قــوال نلقــي أن يمكننــا المقابــل

نتلفــظ قــد ألننــا تكلمــي؛ إنجــاز فعــل إلــى ذلــك

بكلمــات أو بجمــل دون أن يكــون فــي نيتنــا القيــام

بوعــد أو غيــره. هكــذا يمكــن لعبــارة )أطلــب...( أن

تســتعمل إلنجــاز فعــل الطلــب واألمــر وخافهمــا،

شــرطا يمثــل القــول إلقــاء أن علــى يــدل وهــذا

ضروريــا لكنــه غيــر كاف إلنجــاز فعــل تكلمــي، وهــي

نفــس العاقــة التــي تقــوم بيــن فعــل إلقــاء القــول

عــن ينتــج الثانــي أن بمعنــى القضــوي، والفعــل

إليــه. األول دون أن يختــزل

التكلمــي الفعــل أن يبــدو لذلــك؛ وتبعــا

والفعــل القضــوي تربطهمــا صلــة مماثلــة بفعــل

إلقــاء القــول، فكمــا يمكــن لفعــل تكلمــي واحــد أن

ــر أفعــال قضويــة مختلفــة، يمكــن كذلــك ينجــز عب

لنفــس الفعــل القضــوي أن يكــون مشــتركا بيــن

أفعــال تكلميــة مختلفــة؛ بيــد أنــه إذا كان ممكنــا

إنتــاج فعــل تلفظــي دون أن يتــم بالمــوازاة معــه

إنجــاز فعــل قضــوي أو فعــل تكلمــي، فــإن ذلــك

يتعــذر بالنســبة للفعــل القضــوي الــذي ال يمكــن

أن ينتــج بمفــرده )))(. ولننظــر فــي األمثلــة التاليــة:

يأكل عمرو كثيرا.. 1

هل يأكل عمرو كثيرا؟. )

عمرو، كل كثيرا.. )

إلهي ما أكثر ما أكل زيد!. 4

يتبيــن مــن هــذه العبــارات األربــع أنهــا تعبــر

عــن قضيــة واحــدة، إال أن كا منهــا يحقــق فعــا

تكلميــا مختلفــا أي، تباعــا: اإلثبــات، واالســتفهام،

والتعجــب. واألمــر،

الفعــل بيــن التمييــز هــذا مــن وانطاقــا

إلــى ســيرل انتهــى التكلمــي، والفعــل القضــوي

التمييــز بيــن واســم المحتــوى القضــوي، وواســم

الفعــل التكلمــي باالعتمــاد علــى البنيــة التركيبيــة

للملفوظــات، حيــث يمكننــا أن نعثــر علــى واســم

للقــوة التكلميــة وواســم قضــوي نرمــز لــه مثــا ب

F)p(. المتغيــر F يعبــر عــن قــوة تكلميــة وموضعــه

التكلميــة:).( للقــوة واســم أي يأخــذه أن يمكــن

لإلثبــات، )?( بالنســبة للســؤال، )!( للطلب...إلــخ.

p ترمــز مــن جهتهــا للمحتــوى القضــوي لألفعــال

الكاميــة التامــة، وهــذا التمييــز بيــن واســم القــوة

التكلميــة، والواســم القضــوي يســعف فــي التمييــز

بيــن النفــي التكلمــي والنفــي القضــوي كمــا يمكننــا

)33( Searle, Speech Acts, p.25.

93نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

معاينتــه فــي المثاليــن التالييــن:

ال أعدك بالحضور غدا.

أعدك بأال أحضر غدا.

الفعــل حضــور ضــرورة مــن الرغــم وعلــى

القضــوي فــي إنجــاز الفعــل التكلمــي، إال أن هــذا

الحضــور وهــذه المازمــة بيــن الفعليــن ال تتــم فــي

بعــض الحــاالت، بمعنــى آخــر أن الفعــل القضــوي

بعــض فــي الثانــي إلنجــاز ضروريــا يكــون ال

مــن بالفعــل ســيرل تمكــن وقــد المناســبات،

الوقــوف علــى بعــض األفعــال التكلميــة الخاليــة

. )(4( محتــوى قضــوي أي مــن

ال الكامــي الفعــل فــي ســيرل نظريــة إن

تقيــم وزنــا كبيــرا لألبعــاد التلفظيــة والتكليميــة،

التكلمــي، للفعــل الكبــرى األهميــة تمنــح بــل

الــدور إلــى راجــع وذلــك ذكــره، ســبق كمــا

فــي إنســانيا، فعــا باعتبــاره بــه، المنــوط

ضمــن بينهــا فيمــا الكاميــة األفعــال »ربــط

تحديــد يتطلــب الــذي األمــر حواريــة، عمليــة

الفعــل توليــد بموجبــه ســيتم الــذي الســبيل

التــي والطريقــة محــدد، ســياق فــي الكامــي

يفهــم بهــا المخاطــب قصــد المتكلــم«)))(، أمــا

التأثيــر فيحــدث تلقائيــا حالمــا يحصــل الفهــم؛

والحــوار الناجــح هــو مــا حــدث فيــه التطابــق بيــن

لــدن مــن المــؤول والمعنــى المرســل قصــد

)34( »of course not all illocutionary acts have a propositional content, for example, an utterance of `Hurrah’ does not, nor does `ouch’« )Searle, Speech Acts, p.30.(» in the utterance of `Hello’, there is no propositional content… « )Searle, Speech Acts, p. 64(

)))( الباهي، فلسفة الفعل، ص 104.

المتلقــي، ســواء أكان القصــد مطابقــا للمعنــى

الحرفــي، أم مفارقــا لــه »فالــازم االعتنــاء بفهــم

الخطــاب؛ ألنــه المقصــود والمــراد وعليــه ينبنــي

الخطــاب ابتــداء«)))(. وقــد اعتنــى ســيرل بمعنــى

الخطــاب ونظــر فــي الكيفيــة التــي تتحقــق بهــا

وميــز المتلقــي لــدى الكاميــة األفعــال داللــة

حرفيــا تتحقــق إمــا فهــي زاويتيــن؛ بيــن فيهــا

يســمى مــا بصــدد فنكــون )Littéralement(

بالمعنــى التعبيــري، أي المعنــى الــذي تمتلكــه

الكلمــات داخــل الملفــوظ؛ وإمــا تتحقــق بطريقــة

ال حرفيــة )Non littéralement( فنكــون بصــدد

أي الغرضــي بالمعنــى عليــه يصطلــح مــا

الغرضية)7)(؛وتبعــا األفعــال بقــوة المرتبــط

المعانــي؛ األول هــو نوعــان مــن ثمــة لســيرل

الملفــوظ، أو العبــارة تعكســه الــذي المعنــى

والثانــي هــو معنــى المتكلــم أو بالضبــط مــا يريــد

المعنيــان وهــذان ،)son vouloir dire( قولــه

يحيــان تواليــا علــى مــا يصطلــح عليــه بالمعنــى

الداللــي )sens sémantique( والمعنــى التداولــي

التقســيم ذات وهــو ،)sens pragmatique(

الــذي يصطلــح عليــه بعــض الباحثيــن بالمعنــى

المطابقــي للقــول والمعنــى اإللتزامــي)8)(؛األول

أن أي القــول، ظاهــر مــن معنــاه يســتفاد

داللــة القــول تــدرك مــن صريــح لفظــه وظاهــر

بنيتــه، والثانــي يتفــاوت مــع المعنــى المطابقــي

القــول بقصديــة صاحــب يرتبــط كونــه للقــول

وبالمعنــى الــذي يســتهدفه؛ فحينمــا يتقاطــع

)))( الشاطبي، الموافقات، ج1، ص 7)).

)7)( الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص 0)1.

)8)( طه عبد الرحمان، اللسان والميزان، ص )10.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 94

معنــى المقــول مــع معنــى القائــل نكــون إزاء مــا

يســميه ســيرل بالمعنــى الحرفــي )التلفظــي(،

فإننــا المعنييــن بيــن التبايــن حالــة فــي أمــا

نكــون إزاء المعنــى الاحرفــي )الغرضــي( الــذي

ــة التعبيــرات المجازيــة نعثــر عليــه مثــا فــي حال

االســتعارة)))(. فــي الســيما

هــذا وقــد وضــع ســيرل مجموعــة مــن المعايير

يلــي فيمــا نذكرهــا التكلميــة األفعــال لتصنيــف

باقتضــاب شــديد:

شــروط عامــة: تســري علــى مجمــل األفعــال

التكلميــة، تتعلــق أوال بوضعيــة الخطــاب مــن

حيــث أنهــا تؤمــن مثــا أن يكــون المتحــاورون

فــي وليــس حقيقيــة تواصــل وضعيــة فــي

وضعيــة وهميــة أو خياليــة، وأن يكــون هنــاك

ترابــط بيــن البعــد الداللــي للغــة المســتعملة

بيــن المتحاوريــن، والتأثيــر التكلمــي الــذي يتولــد

)))( يقــول )طــه عبــد الرحمــان( فــي حديثــه عــن داللــة العبــارة "هــي اســتلزام القــول للمعنــى المقصــود مــن ســياقه؛ وقــد يطابــق هــذا المقصــود المعنــى المســتفاد مــن ظاهــر القــول المعنــى إنــه قيــل كا، طابقــه فــإن معــه؛ يتفــاوت وقــد المطابقــي للقــول، وإن تفــاوت معــه، فأحــد األمريــن: إمــا أنــه يطابــق جــزءا مــن هــذا المعنــى الظاهــر، وإمــا أنــه يــازم هــذا المعنــى مــن غيــر أن يطابقــه، ال كا وال جــزءا؛ فــإن كان األول، كان وإن التضمنــي، معنــاه بالــذات هــو القــول فمقصــود

الثانــي، فهــذا المقصــود هــو معنــاه االلتزامــي". )اللسان والميزان، ص )10.(

وارتباطــا بــذات الموضــوع، يقيــم )عبــد القاهــر الجرجانــي( فــي "دالئــل اإلعجــاز" تمييــزا داال، ال يــكاد يختلــف عمــا ذهــب إليــه و"معنــى "المعنــى" بيــن الرحمــان(، عبــد )طــه أو )ســيرل( المعنــى"؛ فـ"المعنــى" هــو مــا يفهــم مــن ظاهــر اللفــظ، والــذي نصــل إليــه بغيــر واســطة، أمــا "معنــى المعنــى" فهــو أن نعقــل مــن اللفــظ معنــى، ثــم يفضــي بنــا ذلــك المعنــى إلــى معنــى آخــر، كأن نقــول مثــا "فــان طويــل النجــاد" للداللــة علــى أنــه طويــل القامــة، أو نقــول عــن امــرأة أنهــا نــؤوم الضحــى للداللــة علــى

أنهــا مترفــة مخدومــة لهــا مــن يكفيهــا أمرها...إلــخ.)عبــد القاهــر الجرجانــي، دالئــل اإلعجــاز، قــرأه وعلــق عليه محمود محمــد شــاكر، مطبعــة المدنــي المؤسســة الســعودية بمصــر،

الطبعــة الثالثــة )))1، ص )))(.

عــن اســتعمالهم لهــذه اللغــة.

القضــوي: بالمحتــوى تتعلــق شــروط

مواصفــات جملــة تحــدد شــروط وهــي

معطــى، تكلمــي لفعــل القضــوي للمحتــوى

ففعــل الوعــد مثــا ينبــئ بعمليــة مســتقبلية

ســوف ينجزهــا المتكلــم، وفعــل الطلــب ينبــئ

المخاطــب. ينجزهــا ســوف مســتقبلية بعمليــة

شــروط تمهيديــة: تتحــدد بموجبهــا مواقــف

المتحاوريــن فــي ارتبــاط بفعاليــة أداء الفعــل

التكلمــي؛ ففــي ارتبــاط بفعــل الوعــد دائمــا، نجــد

أن األطــراف المتواصلــة ال تعــرف مــا إذا كان

المتكلــم ســيفي بوعــده أم ال، كمــا يــدرك هــذا

األخيــر أن مــن األفضــل أن ينفــذ وعــده علــى أن

يخــل بــه.

األفعــال أن تفيــد وهــي النزاهــة: شــروط

التكلميــة ال تنجــز مــن فــراغ، بــل هــي تكشــف

مــا ودوافــع أســباب عــن الوقــت نفــس فــي

تنجــزه ومــا ســيترتب عــن هــذا اإلنجــاز مــن نتائــج.

أغــراض بتحديــد تقضــي جوهريــة: شــروط

الفعــل التكلمــي التــي ســتترتب عــن اســتعمال

الملفوظــات، فالــذي يقــدم وعــدا يجــد نفســه

مجبــرا علــى القيــام بفعــل مســتقبلي يطابــق

مــا وعــد بــه.

وقــد تمكــن ســيرل انطاقــا مــن هــذه المعاييــر

التكلميــة الخــاص لألفعــال بلــورة تصنيفــه مــن

صاغــه علــى الشــكل التالــي:

التوجيهيــات تأكيــد...(؛ )إثبــات، التمثيليــات

)وعــد، الوعديــات نصيحــة...(؛ طلــب، )أمــر،

95نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

مباركــة...(؛ )شــكر، التعبيريــات تهديــد...(؛

تعميــد...(. حــرب، )إعــان اإليقاعيــات

وتعميــق ترميــم فــي الوســع أفــرغ وبعدمــا

الــكام، الــذي خلفــه أوســتن حــول أفعــال اإلرث

مقتضاهــا معبــرة خاصــة إلــى ســيرل توصــل

أنــه »ال يوجــد عــدد محــدود مــن ألعــاب اللغــة كمــا

نقــص يوجــد ولكــن وأتباعــه، فتغنشــتاين أراد

فــي وضــوح المعاييــر المعتمــدة لتحديــد ألعــاب

.)40( اللغــة«

ج- القصدية حجر الزاوية في نظرية أفعال الكالم:

تابــع قــد معنــا، مــر كمــا ســيرل، كان لمــا

الهامــة جوانبهــا بعــض وعمــق أوســتن بحــوث

وتجــاوز بعــض هناتهــا وســد بعــض ثغراتهــا، فقــد

اكتفينــا بموقفــه وحــده فــي الحديــث عــن مفهــوم

القصديــة الســيما وأن هــذا المفهــوم يديــن فــي

مختلــف علــى الباحثيــن بيــن رواج مــن لقيــه مــا

مشــاربهم وتوجهاتهــم الفكريــة إلــى جهــود هــذا

بالــذات. الباحــث

لقــد ميــز ســيرل بيــن ثاثة مفاهيــم اعتبرها

مفاتيــح ال غنــى عنهــا فــي فهــم نظريــة أفعــال

الــكام، هــي القصديــة والعرفيــة والســياقية،

أمــا العرفيــة فتفيــد أن أفعــال الــكام وقائــع

القواعــد مــن بأنســاق محكومــة تكوينيــة

مــا أنــه فتعنــي الســياقية وأمــا العرفيــة)41(؛

)40( جــاك موشــلر – آن ريبــول، القامــوس الموســوعي للتداوليــة، ص 77.

)41( Searle, Speech Acts, pp 51-52.

مــن نشــاط لغــوي يفيــد إنجــاز أفعــال كاميــة

معينــة إال ويتمداخــل وضعيــة مــا، أي داخــل

ــك أن القواعــد ــى ذل ســياق معطــى، أضــف إل

الــكام أفعــال فــي المتحكمــة الضمنيــة

ترتبــط أساســا باالســتعمال. أمــا القصديــة

فســنقف عندهــا بشــيء مــن التفصيــل فــي

مــا يلــي:

تفيــد القصديــة عنــد ســيرل أن اللغــة نشــاط

أو فعاليــة يكمــن دورهــا فــي تحقيــق التواصــل،

وحــدات باعتبارهــا الــكام ألفعــال ينظــر كمــا

التواصــل فــي عنهــا غنــى ال أساســية صغــرى

اللســاني، وبمــا أن ســيرورة التواصــل ال يمكــن

اختزالهــا فــي اعتبــارات طبيعيــة، مــادام التواصــل

ينتــج فــي جــزء كبيــر منــه عــن قصــود معبــر عنهــا

مــن قبــل فاعليــن يســتهدفون إقامــة عاقــات

عنصــرا تشــكل القصديــة فــإن بينهــم، فيمــا

رئيســا ضمــن التواصــل اللســاني ومنــه ضمــن

أفعــال الــكام. ولمــا كانــت اللغــة أداة تواصــل

المرتبطــة القصديــة فــإن خاصــة، مــن طبيعــة

بهــا هــي أيضــا مــن ضــرب خــاص. وقــد عرفهــا

ســيرل قائــا: هــي »ســمة العقــل التــي توجــه بهــا

الحــاالت العقليــة أو تتعلــق بهــا حــاالت عقليــة أو

العالــم«))4(. أو تهــدف نحوهــا فــي إليهــا، تشــير

والمرســل فــي مــا يقــول الدكتــور الباهــي »ال يكــون

مفيــدا بكامــه إال بالقصــد«))4(. بيــد أن القصديــة

هنــا ال يمكــن تفســيرها باالحتــكام إلــى قصديــة

العقــل واللغــة والمجتمــع، الفلســفة فــي العالــم ))4( ســيرل، بيــروت: البيضــاء، )الــدار الغانمــي ســعيد ترجمــة الواقعــي،

.10( ص ،)(00( العربــي، الثقافــي المركــز

))4( الباهي، فلسفة الفعل، ص 1).

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 96

الــذي ســقط فيــه كثيــرون اللغــة، وهــو الخطــأ

بحســب ســيرل، ألن قصديــة اللغــة تعتمــد أصــا

ــة مشــتقة ــة العقــل.)44( فهــي قصدي علــى قصدي

ســيرل نــص لهــذا أصليــة، قصديــة وليســت

علــى عــدم إغفــال أو إهمــال مركزيــة الوعــي عنــد

الحديــث عــن القصديــة أو تحليلهــا، فالوعــي فــي

معظــم حاالتــه يكــون قصديــا، وأغلــب الحــاالت

لــو حتــى مــا، شــيء نحــو موجهــة الشــعورية

كانهــذا الشــيء غيــر موجــود فعليــا فــي الواقــع.

إال أن هــذا ال ينفــي وجــود حــاالت واعيــة خاليــة مــن

أيــة قصديــة، فقــد أكــون حزينــا أو متحمســا دون

أن أقصــد شــيئا مــا. لهــذا نــص ســيرل علــى أن

الحــاالت وعيــا بشــيء فــي جميــع يبقــى الوعــي

علــى تــدل التــي هــي مــا« الـ»بشــيء مــا، وهــذه

حضــور القصديــة. وقــد وجــد أن هنــاك تعالقــا بيــن

الحــاالت القصديــة وأفعــال الــكام رهنــه بأربعــة

مواضــع نعــرج عليهــا باقتضــاب فــي مــا يلــي:

ذكرنــاه أن الــذي ســبق التمييــز أن األول،

بيــن الكاميــة، األفعــال عــن حديثنــا حيــن

يبقــى التكلمــي، والفعــل القضــوي المحتــوى

الحــاالت عــن الحديــث عنــد المفعــول ســاري

بيــن فيهــا نميــز أن ينبغــي حيــث القصديــة،

الــذي يمثــل الحالــة القصديــة وبيــن المحتــوى

نمــط الحالــة النفســية )رغبــة، اعتقــاد، خــوف...(

مثــا يمكننــا هكــذا التمثيلــي. المحتــوى لهــذا

أن نرغــب فــي المطــر، أو نعتقــد أنهــا ســتمطر،

أو نخــاف أن تمطــر. ففــي كل حالــة مــن هــذه

غيــر نفســه، المحتــوى أمــام نحــن الحــاالت

)44( سيرل، العقل واللغة والمجتمع، ص ))1.

أنــه يقــدم لنــا فــي أنمــاط قصديــة مختلفــة))4(.

اتجاهــات بمختلــف يتعلــق الثانــي، الرابــط

الماءمــة، وهــذه مــن الســمات البــارزة للعقــل

القصديــة، طريــق عــن بالعالــم ربطنــا فــي

وقــد رأينــا أن اإلثباتــات فــي األفعــال الكاميــة

فإننــا ولهــذا الواقــع، تائــم أن فيهــا يفتــرض

يكــون الكــذب، كمــا أو بالصــدق نحكــم عليهــا

لهــا اتجــاه ماءمــة مــن العقــل إلــى العالــم، فــي

إلــى ترمــي التوجيهيــة الــكام أفعــال أن حيــن

إحــداث تغييــر فــي العالــم، ويمكــن أن نقــول فــي

صيغــة أخــرى أنهــا تســعى إلــى أن تجعــل العالــم

يســتجيب لمــا نطلبــه، لذلــك فهــي تمتلــك اتجاه

وهنــاك العقــل))4(. نحــو العالــم مــن ماءمــة

حــاالت أخــرى ينعــدم فيهــا اتجــاه الماءمــة كمــا

فــي حالــة التعبيــر عــن المشــاعر )التعبيــر عــن

االرتيــاح أو إبــداء األســف عــن ســلوك مــا مثــا(،

فنحــن هنــا أمــام أفعــال ال تصــف حالــة األشــياء

وال تجــري تغييــرا عليهــا، وتبعــا لذلــك ليــس فــي

وســعنا أن نحكــم عليهــا ال بالصــدق أو الكــذب

))4( نفسه، ص 0)1.

))4( يمكــن أن نســتحضر بهــذا الخصــوص المثــال الرائــع الــذي امــرأة أن فحــواه والــذي "القصــد" كتابهــا أنســكوم نتــه ضمأعطــت زوجهــا قائمــة مشــتريات كتبــت فيهــا مجموعــة مــن الكلمــات: مشــروب، زبــدة، لحــم غنــم، فيأخــذ الرجــل القائمــة ويذهــب إلــى المتجــر ويضــع المشــتريات فــي عربــة التســوق ليجــاري المــواد المدونــة فــي القائمــة. تعمــل القائمــة وكأنهــا العالــم مــن اتجــاه ماءمــة لهــا يكــون رغبــة، وهكــذا أو أمــر إلــى القائمــة... ولكــن لنفتــرض أن الــزوج كان يتبعــه مفتــش، وأن المفتــش يســجل مــا يضعــه الرجــل فــي عربــة تســوقه. يكتــب المفتــش: مشــروب، زبــدة، لحــم غنــم، حتــى إذا وصــا إلــى منضــدة المحاســب، كان لــدى كل مــن الــزوج والمفتــش القائمتيــن وظيفــة فــإن ذلــك، مــع متطابقتــان. قائمتــان وظيفــة تــؤدي المفتــش فقائمــة جذريــا؛ اختافــا مختلفــة وصــف مــا حــدث فعــا، أمــا قائمــة الــزوج فتريــد تغييــر الواقــع ليتطابــق مــع محتويــات القائمــة؛ فــي قائمــة الــزوج إذن اتجــاه ماءمــة مــن العالــم إلــى القائمــة، وفــي قائمــة المفتــش اتجــاه ماءمــة مــن القائمــة إلــى العالــم)...(. )ســيرل، العقــل واللغــة

).1((-1(( ص والمجتمــع،

97نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

النجــاح. أو باإلخفــاق وال

الرابــط الثالــث بيــن أفعــال الــكام والحــاالت

يقتضــي كامــي فعــل إنجــاز أن يفيــد القصديــة

التــي القصديــة الحالــة عــن التعبيــر بالضــرورة

تائمــه.

بشــروط فيتعلــق الرابــع الرابــط أمــا

الحــاالت علــى تطبــق شــروط وهــي اإلشــباع،

القصديــة كمــا تطبــق علــى أفعــال الــكام، وقــد

أكــد ســيرل علــى أن »مفتــاح فهــم القصديــة يكمــن

فــي شــروط اإلشــباع«)47(. وبالفعــل فــإن القصديــة

إشــباعها، شــروط معرفــة خــال مــن تعــرف

فــي تشــبع كقصديــات والرغبــات فاالعتقــادات

المحتــوى بيــن تناغــم فيهــا يحــدث التــي الحالــة

الخبــري والواقــع الــذي يمثلهــا؛ فاألمــر يشــبع حيــن

يتــم تنفيــذه، واإلثبــات يشــبع حيــن يثبــت صدقــه،

ورغباتــي تشــبع حيــن تتحقــق، والفــرق الــذي يقيمــه

الكاميــة األفعــال إشــباع شــروط بيــن ســيرل

األولــى أن القصديــة، الحــاالت إشــباع وشــروط

خارجيــة فــي حيــن أن الثانيــة داخليــة. وقــد ذهــب إلــى

أن شــروط اإلشــباع ال تخــص فقــط الحــاالت التــي

لهــا اتجــاه ماءمــة بــل هــي تشــمل أيضــا الحــاالت

التــي ال تملــك اتجــاه ماءمــة كالحــاالت الشــعورية

مثــا التــي يلزمنــا فقــط أن نســأل أنفســنا وفــق

عــدم أو إشــباعها يمكــن بالضبــط شــروط أيــة

إشــباعها)48(.

وقــد رأى ســيرل أن الفهــم الصحيــح للقصديــة

يســتوجب التمييــز بيــن نوعيــن لهــا؛ األولــى قصديــة

)47( نفسه، ص ))1.

)48( سيرل، العقل واللغة والمجتمع، ص ))1.

بصــورة والحيوانــات البشــر يمتلكهــا أصليــة

ــة مشــتقة أو اشــتقاقية ــة، والثانيــة قصدي جوهري

تمثلهــا الكلمــات والجمــل والصــور والمخططــات

ــراز مــن خلــط هذيــن ــات، مــع ضــرورة االحت والكتاب

اســتعاريا تنســب التــي القصديــة مــع النوعيــن

والمعبــر عنهــا فــي صيغــة »كأن«))4(، ولتوضيــح

مضمــون قولــه قــدم ســيرل أمثلــة تعكــس هــذه

األضــرب الثاثــة مــن القصديــة:

أنا جائع جدا اآلن.. 1

( . J’ai grand faim en ce« الفرنســية: فــي

»moment

النباتات في حديقتي جائعة للمغذيات.. )

إلــى جميعهــا تحيــل الثاثــة األحــكام فهــذه

الظاهــرة القصديــة، حســب ســيرل، بيــد أن بينهــا

اختافــات ينبغــي معرفتهــا؛ فالحكــم األول يعبــر

بالعبــارة الناطــق يمتلكهــا داخليــة عــن قصديــة

بصــرف النظــر عمــا يعتقــده اآلخــرون عنهــا؛ أمــا

أيضــا هــو قصديــة علــى دل وإن الثانــي الحكــم

فهــي ليســت داخليــة؛ ألنهــا ال تعبــر عــن قصديــة

داخليــة قصديــة عــن بــل بالعبــارة، المتلفــظ

فــا الثالــث الحكــم أمــا بالفرنســية؛ للناطقيــن

ــى اإلطــاق مــادام الجــوع ــة عل ــة قصدي ــق بأي يتعل

ــات ليــس ســوى تشــبيها ــى النبات ــذي ينســب إل ال

خالصــا يعــادل صيغــة »كأن«: كأن بالنباتــات جوعــا

والحيوانــات)0)(. البشــر جــوع يشــبه

صيغــة كونهــا تعــدو ال اللغــة أن ورغــم

إال القــول، أســلفنا كمــا للقصديــة، اشــتقاقية

))4( نفسه، ص ))140-1.

)0)( نفسه، ص 141-140.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 98

التعبيــر فــي المهــم بدورهــا يعتــرف ســيرل أن

األداة فهــي لإلنســان، القصديــة الحــاالت عــن

فــي لينخــرط جوانيتــه مبارحــة مــن تمكنــه التــي

عالــم مشــترك، تتقاطــع فيــه األغــراض والنوايــا

وتتشــابك فيــه اإلرادات، وقــد تمكــن ســيرل مــن

خــال نظريتــه حــول ظاهــرة القصديــة مــن تعميــق

بــه، الــذي يحيــط بذاتــه وبالعالــم وعــي اإلنســان

ودفعــه إلــى تغييــر نظرتــه إلــى الفعــل التواصلــي

الــذي لــم يعــد يختــزل فــي تبــادل آلــي للمعلومــات،

كمــا ســاد االعتقــاد ســابقا، بــل أصبــح يعنــي خلــق

اإلنســان وتشــييده وتوســيعه وتعديلــه لعاقاتــه

ســياقات فــي لمواقــف وتبنيــه االجتماعيــة،

محــددة. تواصليــة قواعــد تحكمهــا متنوعــة

خاتمة:

لقــد أبانــت نظريــة أفعــال الــكام عــن مســتوى

آخــر مــن مســتويات االشــتغال علــى اللغــة، يتعلــق

ــأن ــى الوعــي ب األمــر بمســتوى االســتعمال، بمعن

لكــي إليــه يحتــاج وإنمــا لذاتــه، يقصــد ال الــكام

مــع ويتواصلــوا أغراضهــم عــن النــاس يعبــر

األشــكال، مــن بشــكل فيهــم ويؤثــروا غيرهــم

اللغويــة األدوات فــي تكمــن ال »المعانــي إذ

المســتعملة، بــل لــدى المتكلــم الــذي يســتعمل

تلــك األدوات ويوظفهــا بشــتى الســبل لتحقيــق

الباحثــون أدركــه مــا وهــو ونوايــاه«)1)(، مقاصــده

بيــن العاقــة تجســير علــى التداوليــون فعملــوا

للغــة اليومــي واالســتعمال الصــوري المنطــق

لطفــي محمــد ترجمــة الخطــاب، تحليــل ويــول، بــراون )(1(الزليطنــي ومنيــر التريكــي )الريــاض: منشــورات جامعــة الملــك

)و(. المترجميــن، ص مقدمــة مــن ،)1((7 ســعود،

)اللغــة الطبيعيــة(، وتعميقهــا واســتثمارها فــي

حقــول معرفيــة أخــرى، مثلمــا تجســد ذلــك مثــا

فيهــا ربــط التــي هابرمــاس يورغــن نظريــة فــي

بيــن الفعــل الكامــي والفعــل االجتماعــي تحقيقــا

للفعــل التواصلــي الــذي يجمــع الباحثــون علــى أنــه

أعمــق مــن أن يختــزل فــي متواليــة مــن األقــوال؛

ألنــه فــي حقيقتــه »شــبكة مــن االلتزامــات التي على

األطــراف المتنازعــة ضمــان تنفيذهــا. فبمقتضــى

عــبء المســؤولية يلــزم كل طــرف بالعمــل علــى

بــه«)))(، بااللتــزام تعهــد أو بــه التــزم مــا تفعيــل

وهــذا الربــط بيــن تجربــة الفعــل بمــا هــي تجربــة

فيــه تلعــب الخارجــي، بالعالــم داخليــة موصولــة

القصديــة دورا أساســيا؛ ألنــه مــا مــن فعــل يأتيــه

المــرء إال ويقــع وفــق قصــد معيــن وإال عــد حــركات

عشــوائية غيــر إراديــة تجعلــه ال يتمايز عــن الكائنات

جعلــت ولهــذا والصناعيــة؛ الطبيعيــة األخــرى

مــن فلســفة فــي كل مركزيــة القصديــة قضيــة

ألن الفعــل؛ وفلســفة العقــل وفلســفة اللغــة

ضبــط ماهيتهــا ورصــد أوجــه اشــتغالها يمكننــا

ال محالــة مــن الوقــوف علــى ميكانيزمــات العمليــة

اتخــاذ االنتقــال مــن طــور يتــم مــن خالهــا التــي

القــرار )الفكــر( إلــى طــور التصــرف )الفعــل(.

البيبليوغرافيا:

أ. العربية:

الــكام أفعــال نظريــة جــون: أوســتن.

بالــكام، العامــة. كيــف ننجــز األشــياء

البيضــاء: الــدار قنينــي، القــادر عبــد ترجمــة

)))( الباهي، فلسفة الفعل، ص )11.

99نظرية األفعال الكالمية: دراسة عن الفعل الكالمي باعتباره مدخال من مداخل فلسفة الفعل

.1((1 الشــرق، أفريقيــا

الباهــي. حســان: فلســفة الفعــل. اقتــران

العقــل النظــري بالعقــل العملــي، الــدار

البيضــاء: أفريقيــا الشــرق، )01).

الحجاجــي«، والبنــاء »العلــم حســان: الباهــي

ومجاالتــه، مفهومــه الحجــاج ضمــن:

الجــزء األول، إشــراف حافــظ إســماعيلي علــوي،

.(010 الحديــث، الكتــب عالــم األردن:

الشــعرية، قضايــا رومــان: جاكوبســون

الــدار حنــون، ومبــارك الولــي محمــد ترجمــة

.1(88 ط1، توبقــال، دار البيضــاء:

الجرجانــي عبــد القاهــر: دالئــل اإلعجــاز، قــرأه

وعلــق عليــه محمــود محمــد شــاكر، مطبعــة

ط)، بمصــر، الســعودية المؤسســة المدنــي

.1(((

والحجــاج. التداوليــة صابــر: الحباشــة

منشــورات دمشــق: ونصــوص، مداخــل

.(008 ط1، صفحــات،

الريفي هشــام: »الحجاج عند أرســطو«، ضمن:

التقاليــد فــي الحجــاج نظريــات أهــم

الغربيــة مــن أرســطو الــى اليــوم، إشــراف

حمــادي صمــود، سلســلة آداب جامعــة اآلداب

اآلداب كليــة اإلنســانية، والعلــوم والفنــون

د.ت. منوبــة،

ســيرل جــون: العقــل واللغــة والمجتمــع.

الفلســفة فــي العالــم الواقعــي، ترجمــة

للعلــوم، العربيــة الــدار الغانمــي، ســعيد

الثقافــي المركــز االختــاف، منشــورات

.(00( العربــي،ط1،

الشــاطبي أبــو إســحاق: الموافقــات، تحقيــق

مشــهور بــن حســن آل ســلمان، دار ابــن عفــان،

ط1/ 1417هـــ، 7))1م ))/ )(.

ظافــر: بــن الهــادي عبــد الشــهري

لغويــة مقاربــة الخطــاب، اســتراتيجيات

تداوليــة، بيــروت: دار الكتــاب الجديــد المتحــدة،

.( 0 04

صولــة عبــد هللا: »الحجــاج: أطــره ومنطلقاتــه

– الحجــاج فــي "مصنــف خــال مــن وتقنياتــه

ــة الجديــدة-" لبيرلمــان وتتيــكا«، ضمــن: الخطاب

التقاليــد فــي الحجــاج نظريــات أهــم

مذكــور. مرجــع الغربيــة،

أو اللســان والميــزان الرحمــان: عبــد طــه

بيــروت: البيضــاء، الــدار العقلــي، التكوثــر

.(01( ،( ط العربــي، الثقافــي المركــز

طــه عبــد الرحمــان: ســؤال العمــل: بحــث

عــن األصــول العمليــة في الفكــر والعلم،

الــدار البيضــاء، بيــروت: المركــز الثقافــي العربــي،

.(01(

الفعــل، فلســفة العزيــز: عبــد العيــادي

.(007 الديــن، عــاء مكتبــة صفاقــس:

باغــي مبحــث »الحجــاج محمــد: العمــري

مفهومــه الحجــاج ضمــن: الباغــة؟« فمــا

مذكــور. مرجــع األول، الجــزء ومجاالتــه،

لودفيــك فتجنشــتاين: تحقيقــات فلســفية،

المنظمــة بيــروت: بنــور، الــرزاق عبــد ترجمــة

العربيــة للترجمــة، 007).

هابرمــاس يورغــان المصــدق: حســن

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 100

ومدرســة فرانكفــورت: النظريــة النقديــة

المركــز بيــروت: البيضــاء، الــدار التواصليــة،

.(00( العربــي، الثقافــي

ب. األجنبية:

Austin.J.L : : "A Plea for Excuses", Proceed�

ings of the Aristotelian Society, 1956-57, in: Phil�

osophical Papers, London, Oxford, New York: Ox�

ford University Press, 2é édition (paperback), 1976

(1961), pp. 175-204.

Austin.J.L :How to do things with words,

second Edition, Harvard University Press, Cam�

bridge, Massachusetts, 1962, p.6.Press,1962.

Kerbrat-Orecchioni. C. : L’énonciation. De la

subjectivité dans le langage, Paris, Armand

Colin, 1999.

Lohisse. Jean : La communication, de la

transmission à la relation, Edition De Boeck,

2007.

Searle. Jean :‘Austin on locutionary and illo-

cutionary acts’ The Philosophical Review, Vol.

77, No. 4 (Oct., 1968), Duke University Press.URL:

http://www.jstor.org/stable/2183008.

Searle. Jean : Speech Acts - An Essay in the

Philosophy of Language, Cambridge: Cam�

bridge University Press, 1969.

101دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

ترجمات

Translations

الترجمات

دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية102

Translations | ترجمات

األرسطية واألفالطونية في فلسفة العصر

الوسيطAristotelianism and Platonism in Medieval PhilosophyAlexandre Koyré | ألكسندر كويريترجمة: محمد منادي إدريسي)))MOHAMED MOUNADI IDRISSI

)1( أستاذ باحث من المغرب[email protected] :اإليميل

103دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

ملخص البحث:

ظلــت صــورة العصــور الوســطى فــي مخيــال الغــرب حالكــة

الســواد منــذ أن أصــدر مفكــرو النزعــة اإلنســانية فــي عصــر

التــي وصفتــه النهضــة وفاســفة عصــر التنويــر أحكامهــم

بأنــه عصــر جهالــة رانــت ظلماتهــا علــى العقــول والقلــوب؛

البحــوث بينــت أن بعــد تغيــرت الصــورة هــذه أن غيــر

والدراســات التــي ازدهــرت منــذ نهايــة القــرن التاســع عشــر

عرفــت الوســطى العصــور أن العشــرين القــرن وبدايــات

اإلســامي العالــم نهضــة عظيمتيــن: فكريتيــن نهضتيــن

فــي القــرن التاســع الميــادي، ونهضــة الغــرب الاتينــي فــي

القــرن الثالــث عشــر. تنتمــي مقالــة اإلبســتمولوجي ألكســندر

كويــري إلــى هــذا الســياق، وهــي تســلط الضــوء علــى حضــور

تقليديــن فلســفيين قديميــن، األفاطونيــة واألرســطية، فــي

العصــور الوســطى، ومــن ثــم علــى الطريقــة التــي وظــف بهــا

مفكــرو وفاســفة العالــم اإلســامي والغــرب الاتينــي هاتين

الفلســفيتين فــي ســياق ثقافــي أضحــت الكلمــة العليــا فيــه

اإلبراهيميــة. لألديــان

األفاطونيــة – األفاطونيــة األرســطية– كلمــات مفتاحيــة:

المحدثــة – الرشــدية - العصــر الوســيط – النفــس – العالــم...

تقديم المترجم

Alexandre( كويــري ألكســندر مقالــة صــدرت

Koyré(، »األرســطية واألفاطونيــة فــي فلســفة

ــة العصــر الوســيط« أول مــرة ســنة 1944 فــي دوري

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 104

أعيــد ثــم ،)2(»Les Gants du Ciel«

فــي »دراســات كتــاب فــي نشــرها

ــخ الفكــر العلمــي« الصــادر ســنة تاري

1973 )3(، واعتمــادا علــى هــذه النشــرة

بترجمتهــا. قمنــا

كانــت هــذه، مقالتــه كويــري كتــب عندمــا

بالعلــوم المتعلقــة والبحــوث الدراســات

قطعــت قــد الوســيط العصــر فــي والفلســفة

مــن ثلــة يــد علــى الطريــق علــى شــوطا

وبييــر غرابمــان)4(، مارتــن أمثــال: الكبــار الباحثيــن

وإيتيانجلســون)7(، ماندونــي))(، وبييــر دوهيــم))(،

)2( Koyré, Alexandre.)1944(. » Aristotélisme et Platonisme dans la philosophie du Moyen Age «. InLes Gants du Ciel, )Vol. VI, pp. 75-107(. Ottawa.

)3( Koyré, A. )1973(.Études d’histoire de la pensée scientifique. Paris : Gallimard, pp. 24-49.

)4( Monseigneur Martin Grabmann )1875-1949(: فيلســوف والهوتــي ألمانــي، ومحقــق لكــم هائــل مــن نصــوصالوســيطية .الفلســفة

)5( Pierre Maurice Marie Duhem )1861-1916(: ومــن أهــم أعمالــه حــول العلــم والفلســفة فــي العصــر الوســيط نقتصــر

:علــى ذكــر المؤلفــات اآلتيــةLe Système du Monde. Histoire des Doctrines cosmologiques de Platon à Copernic, 10 vol., )1913-1959(. Études sur Léonard de Vinci, ceux qu'il a lus, ceux qui l'ont lu, 3 vol., )1906-1913(.

)6( Pierre Mandonnet )1858-1936(: وأهم عمل له هو:Siger de Brabant et l'averroïsme latin au XIIIème siècle, 1911.

)7( Étienne Henry Gilson )1884-1978(: ،وأعمالــه كثيــرة جــدا :منهــا

Le Thomisme : Introduction à la philosophie de Saint Thomas d’Aquin, 1919.La Philosophie au Moyen Âge, 2 Vol, 1922.L’Esprit de la philosophie médiévale, 1932.Jean Duns Scot, introduction à ses positions fondamentales, 1952.

وشــتينبرغن)8(... بعــد أن مهــد لهــم رواد آخــرون

قــد هــؤالء أعمــال بعــض وكانــت ســبقوهم،

اللوحــة تلــك خطــأ تبيــن كلهــا وكانــت نشــرت،

القاتمــة التــي رســمت منــذ عصــر النهضــة وقــرن

الاتينــي الغــرب فــي الوســيط للعصــر التنويــر،

)علــى األقــل منــذ القــرن الثانــي عشــر إلــى نهايــة

القــرن الرابــع عشــر( والتــي تصــوره علــى أنــه عصــر

رزح فيــه الفكــر تحــت نيــر أرســطو علميا وفلســفيا،

وتحــت ســلطان الكنيســة الهوتيــا. لقــد برهنــت

ــه تلــك األعمــال علــى أن العصــر الوســيط بحقبتي

اإلســامية والمدرســية عصــر يســتحق أن يعامــل

علــى قــدم المســاواة مــع كل العصــور األخــرى، ال

ل مختبــرا بــل إن أهميتــه أكبــر، مــن حيــث إنــه شــك

مهمــا لنقــد العلــم والفلســفة القديميــن، وإرســاء

األســس العلميــة والميتافيزيقيــة التــي ســتنبني

الحديثــة. الفكريــة الثــورة عليهــا

الثــورة الرائــدة حــول ببحوثــه اشــتهر كويــري

لتصــوره كان ومــا الحديثــة؛ والفكريــة العلميــة

تنــاول دون يكتمــل أن الثــورة هــذه لـ»تاريــخ«

إســهامات مفكــري وفاســفة العصــر الوســيط

المتأخــر وعصــر النهضــة))(. لكــن مــا ال يعرفــه كثيــر

)8( Fernand van Steenberghen )1904-1993(: وأعمالــه كثيــرة، منهــا :أيضــا

Siger de Brabant d'après ses œuvres inédites, 1931-1942.Aristote en Occident : Les origines de l'aristotélisme parisien, 1946.La philosophie au XIIIe siècle, 1966.

))( نذكــر علــى ســبيل المثــال كتابــه "دراســات غاليليــة" الــذي قبــل صــدور أي ســنوات ،1((( األولــى ســنة نشــرته صــدرت مقالتــه التــي نترجمهــا هاهنــا، وكتابــه "مــن العالــم المغلــق إلــى

الامتناهــي": الكــون Études galiléennes.. Paris : Hermann, 1966.Du monde clos à l’univers infini )trad. Raïssa Tarr(. Paris : PUF, 1962.

105األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

مــن قــراء أعمالــه اإلبســتمولوجية هــو أنــه قــد بــدأ

مســاره البحثــي بدراســات فلســفية كان لبعــض

منهــا)10(. نصيــب الوســيط العصــر الهوتيــي

غيــر أن قــارئ مــا كتبــه كويــري فــي المقالــة التــي

نترجمهــا يشــعر أنــه يعتمــد اعتمــادا كبيــرا علــى

مــن قبيــل مــن آخــرون أنجزهــا التــي الدراســات

آنفــا. أســماءهم ذكرنــا

المتعلقــة والبحــوث الدراســات خطــت لقــد

أشــواطا الوســيط العصــر وعلــوم بفلســفة

نقــدم التــي مقالتــه كويــري كتــب أن منــذ كبيــرة

لهــا اآلن؛ فمقالتــه هــذه قديمــة إذن بالنظــر إلــى

التقــدم الكبيــر الــذي تحقــق منــذ منتصــف القــرن

العشــرين إلــى اليــوم؛ ولذلــك قــد يقــول قائــل: مــا

الداعــي لترجمــة مقالــة تقــادم العهــد بهــا؟

يؤكــد كويــري فــي بدايــة مقالتــه أن »فلســفة

إلــى تمامــا، حديــث اكتشــاف الوســيط العصــر

آنــذاك، صحيحــا كان هــذا وتوصيفــه مــا«، حــد

بالنســبة إلــى الغــرب؛ أمــا فيمــا يخصنــا، فيمكننــي

أن أقــول إن العصــر الوســيط الاتينــي، يــكاد يكــون

بالنســبة إلينــا قــارة لــم تكتشــف بعــد، وهــذا أمــر

يجعــل تصورنــا لتاريــخ الفلســفة والعلــوم عمومــا

ا مشــوها مــن جهــة أولــى، ويجعــل تصورنــا تصــور

للفلســفة والعلــوم فــي الحقبــة التــي ازدهرت فيها

ــة. ــورا مــن جهــة ثاني ــم اإلســامي مبت فــي العال

)10( قــدم دراســتين هامتيــن حــول القديــس أنســيلم وجاكــوب ــي: بوهمــه ســنتي )))1 و)))1 علــى التوال

L'idée de Dieu dans la philosophie de saint Anselme. Paris : Ernest Leroux, 1923.La philosophie de Jacob Boehme. Étude sur les origines de la métaphysique allemande. Paris :Vrin, 1979.

بالقــول أكتفــي األولــى، الجهــة يخــص فيمــا

الفكــر الحديــث مــع الفكــر إن حكايــة »قطيعــة«

ــم ــا، ل ــت رائجــة فــي أدبياتن ــي مــا زال الوســيطي، الت

بينــت أن بعــد اليــوم، بالمصداقيــة تعــد تحظــى

وعلمــاء فاســفة بــه يديــن مــا حجــم البحــوث

األزمنــة الحديثــة ألســافهم مــن العصــر الوســيط،

مــن بعــض »القطيعــة« ألطروحــة كان وإذا

الوجاهــة، فإنهــا قطيعــة الفكــر الحديــث مــع الفكــر

القديــم ال مــع الفكــر الوســيطي؛ فــا مندوحــة لنــا

إذن، إن شــئنا التخلــص مــن الصــورة المشــوهة

التــي مــا زالــت رائجــة فــي جامعاتنــا ومنشــوراتنا

إضــاءة عــن والعلــم، الفلســفة تاريــخ حــول

المســافة التــي مازالــت حالكــة الظلمــة بالنســبة

إلينــا، والتــي يمثلهــا العصــر الوســيط فــي الغــرب

الاتينــي ابتــداء مــن القــرن الثانــي عشــر، وإيائهــا

مــا تســتحق مــن اهتمــام)11(.

أمــا فيمــا يخــص الجهــة الثانيــة، فــإن التصــور

أغلــب انطــاق فــي أساســا يكمــن المبتــور

العالــم فــي والعلــوم الفلســفة فــي الباحثيــن

اإلســامي مــن تصــور جغرافــي يفصــل بموجبــه

فــي تحقــق الــذي والعلمــي الفلســفي المنجــز

العالــم اإلســامي منــذ القــرن التاســع الميــادي

عــن بالتأكيــد، الثانــي عشــر القــرن بعــد مــا إلــى

ســياق تاريخــي أكبــر مــن الجغرافيــا، ســياق تطــور

فيــه هــذا المنجــز فــي جغرافيــا أخــرى هــي جغرافيــا

الجامعــات فــي المبــذول بالجهــد التنويــه مــن هنــا البــد )11(ــار للعصــر الوســيط الاتينــي، المغربيــة مــن أجــل إعــادة االعتبوالمتمثــل فــي تدريــس وحــدة خاصــة بـ"الفلســفة الغربيــة فــي العصــر الوســيط" فــي ســلك اإلجــازة، وفتــح ماســترات خاصــة

بالفلســفة والعلــوم فــي العصــر الوســيط.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 106

الغــرب الاتينــي وجامعاتــه))1(. ذلــك أن البــن ســينا

علــى ميمــون، وابــن رشــد وابــن الهيثــم وابــن

فــي وأتباعــا تامــذة الحصــر، ال المثــال ســبيل

الغــرب الاتينــي، فــي جامعــات باريــس وأكســفورد

وبادوفــا... لــم يعــد هــذا األمــر ســرا منــذ أن بــدأت

الوســيط العصــر وفاســفة مفكــري أعمــال

الاتينــي تحقــق وتنشــر. ومنــذ الرعيــل األول مــن

الوســيطية، بالدراســات المهتميــن الدارســين

تأثيــر فاســفة نــكاد ال نعثــر علــى تشــكيك فــي

وعلمــاء العالــم اإلســامي فــي الغــرب الاتينــي،

بــل نجــد خصومــات تتعلــق بطبيعــة هــذا التأثيــر

وحجمــه ومــداه؛ فعلــى ســبيل المثــال، لــم يجــادل

الجــدل مــدار ولكــن ســينا؛ ابــن تأثيــر فــي أحــد

كان هــو: هــل التيــار الناشــئ عــن هــذا التأثيــر تيــار

ســينوي أوال وأوغســطيني ثانيــا أم أوغســطيني

ــا؟))1( ولــم يجــادل أحــد فــي تأثيــر أوال وســينوي ثاني

ابــن رشــد، وإنمــا فــي امتــداد الرشــدية الاتينيــة،

هــل اقتصــرت علــى يهــود أوربــا فــي القــرن الرابــع

عشــر ومــا بعــده، أم حــازت أتباعــا بين المســيحيين

حتــى فــي منتصــف القــرن الثالــث عشــر؟

))1( وأدهــى مــن هــذا البتــر الجغرافــي اإلعــراض عــن دراســة جــزء ــد اليهــود والمســيحيين. ــى ي ــذي تحقــق عل مــن هــذا المنجــز الالدكتــوراه أطروحــات عناويــن قوائــم فــي البحــث يكفــي المقدمــة فــي إطــار مــا يســمى "فلســفة إســامية"، لكــي نتبيــن أن جلهــا يتعلــق باألســماء الكاســيكية مثــل الفارابــي وابــن ــادر أن تجــد بيــن هــذه ــن باجــة... ومــن الن ــن رشــد واب ســينا وابالعناويــن موســى ابــن ميمــون ويحيــى بــن عــدي، ناهيــك عــن

النقلــة المســيحيين الســريان مثــل حنيــن وابنــه إســحاق...

))1( حجــم مــا كتــب عــن الســينوية الاتينيــة كبيــر جــدا، تراجــع الئحــة نهايتهــا فــي القــارئ يجــد التــي اآلتيــة المقالــة هنــا

بالموضــوع: صلــة لهــا التــي والكتــب بالمقــاالت مفصلــة Olga L. Lizzini. )printemps 2014(. » Avicennisme latin «, in Houari Touati )éd.(, Encyclopédie de l’humanisme méditerranéen, URL = http://www.encyclopedie-humanisme.com/?Avicennisme-latin. )consulté le 29-07-2020(.

إنهــا لواحــدة مــن بيــن بديهيــات البحــث فــي

اليــوم، أن فهــم فلســفة مــا ال الفلســفة تاريــخ

يحصــل إال بدراســة مختلــف التأويــات التــي توالــت

عليهــا. وهــل يمكــن ألحــد اليــوم أن يدعــي معرفــة

بمختلــف يلــم أن دون مثــا، كانــط، بفلســفة

مــن بــدءا الكانطيــة اتخذتهــا التــي التلوينــات

الكانطييــن األوائــل، ووصــوال إلــى المتأثريــن بكانــط

بالكانطييــن ا مــرور المعاصــرة، الفلســفة فــي

الجــدد؟ انطاقــا مــن هــذا المبــدأ، يمكننــا القــول

إن صورنــا عــن ابــن ســينا وابــن الهيثــم وابــن رشــد

–علــى ســبيل المثــال دائمــا- ســتبقى غائمــة مــا لــم

نــدرس مــآالت إســهاماتهم عنــد مفكــري الغــرب

الاتينــي منــذ نهايــة القــرن الثانــي عشــر وصــوال إلــى

أوائــل مفكــري وعلمــاء األزمنــة الحديثــة)14(. ذلــك

جــزء هــي إنمــا التقليدييــن أعمــال فاســفتنا أن

مــن تاريــخ طويــل، هــو تاريــخ المشــائية بالمعنــى

الواســع، أي المشــائية التــي اغتنــت باألفاطونيــة

المحدثــة. إن أعمالهــم محطــة أساســية بالتأكيــد

فــي تاريــخ المشــائية، وال أحــد يجــادل فــي ذلــك؛

لكنهــا محطــة لــم يتوقــف عندهــا هــذا التاريــخ؛ بــل

واصــل التقــدم قرونــا وقرونــا إلــى أن تداعــت أركانــه

مــع الثــورة العلميــة والفكريــة الحديثــة.

فــي والعلمــي الفلســفي تراثنــا وضــع إن

ســياق مجــرى تاريــخ الفكــر الكونــي يتطلــب منا إذن

االهتمــام بدراســة صلــة هــذا التــراث بالفكــر القديم

ومدرســة المحدثــة األفاطونيــة فكــر المتأخــر،

عبــد باعكريــم، اقترحــه الــذي البحــث برنامــج هنــا يراجــع )14(فــي الفلســفة«، علــم فــي البحــث المجيد.)0)0)(»أولويــات أولويــات البحــث فــي العلــوم اإلنســانية واالجتماعية والشــرعية فــي العالــم العربــي )ط. 1، ص. 4)-71(. قطــر: مركــز ابــن خلــدون

واالجتماعيــة. اإلنســانية للعلــوم

107األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

اإلســكندرية مــن جهــة، وصلتــه بالعصــر الوســيط

الاتينــي وبعصــر النهضــة مــن جهــة أخــرى. وهــل

أقــول جديــدا، إن أكــدت أن دراســة الصلــة الثانيــة

ســتلقي أضــواء كاشــفة علــى إخفــاق حضارتنــا فــي

الحفــاظ علــى بقــاء الفكــر –علومــا وفلســفة وفنــا-

دعائــم توطيــد فــي اليــوم وفشــلنا وفاعــا، حيــا

ــا؟ الفكــر الفلســفي والفكــر العلمــي بيــن ظهرانين

إتيانهــا فــي كويــري مقالــة قيمــة تكمــن ال

تقــدم كونهــا فــي وإنمــا مســبوق، غيــر بجديــد

بهــا التــي حضــرت الكيفيــة عــن إجماليــة صــورة

أهــم فلســفتين فــي العصــر القديــم )األفاطونيــة

بحقبتيــه الوســيط العصــر فــي واألرســطية(

خريطــة بمثابــة إنهــا والاتينيــة. اإلســامية

إرشــادية تقتصــر أهميتهــا علــى تعييــن المواقــع

مهمــا اإلجماليــة، الخريطــة ولكــن والمحطــات؛

الفعلــي االكتشــاف عــن تغنــي ال دقتهــا، كانــت

ورســم خرائــط مفصلــة تحــدد المســالك والــدروب

األفــكار النتقــال أحيانــا والوعــرة الصغيــرة

ــم تخطــر واألطروحــات وتوظيفهــا فــي مجــاالت ل

ــال مــن صاغوهــا معتمديــن هــم أنفســهم علــى ب

تقدموهــم. مــن علــى

زالــت مــا بمعطيــات كويــري مقالــة تحفــل

قيمــة فــي التوصيــف العــام للفلســفة فــي العصــر

الوســيط. قــد نجــادل فــي دقــة هــذا المعطــى أو

قالــه مــا بعــض يخــص فيمــا وخصوصــا ذاك،

فيهــا عــن ابــن ســينا وابــن رشــد، علمــا أنــه فــي هــذا

آخــرون؛ أنجزهــا يقــدم خاصــة دراســات الجانــب

للصــورة توجيهــه يمكــن الــذي النقــد أن علــى

العامــة، يجــب أن يبقــى فــي حــدود العموميــة التــي

ــة ــة رســمها، ومــن هــذه الزاوي أراد صاحــب المقال

يمكــن القــول إن العصــر الوســيط برمتــه لم يعرف

تعــرف وإنمــا رأســا، أرســطو وال أفاطــون ال

عليهمــا مــن خــال تقليــد األفاطونيــة المحدثــة

الــذي بقــي حيــا طــوال العصــر القديــم المتأخــر: مــن

القــرن الثالــث، قــرن المؤســس الكبيــر أفلوطيــن،

إلــى إغــاق األكاديميــة فــي أثينــا بقــرار إمبراطــوري

اإلســامي العالــم أن كويــري يؤكــد .((( ســنة

ــه«. ــم الهيلينســتي ومتمم كان بحــق »وارث العال

يمكــن تدقيــق هــذا التأكيــد أكثــر بالقــول إن العالــم

الهيلينســتي- العالــم وريــث كان اإلســامي

وفكريــا –زمنيــا والفــارق ومتممــه؛ الرومانــي

والعالــم العالــم هــذا بيــن هائــل وجغرافيــا...-

)القرنيــن الكاســيكية مرحلتــه فــي الهيلينــي

الخامــس والرابــع ق.م(. فــي الحقبــة الهلنســتية

بعــد اليونانيــة باللغــة ناطقــة الفلســفة بقيــت

توحيــد لهجاتهــا المختلفــة فــي اإلســكندرية؛ ولكــن

التيــارات الهرمســية، والحــركات الغنوصيــة، والمــد

عليهــا فرضــت متغيــرات الكاســح، المســيحي

عــن النظــر وغــض الفلســفية الجهــود توحيــد

االختافــات الفلســفية مــن جهــة، واالقتــراب مــن

الديــن أكثــر فأكثــر مــن جهــة أخــرى، بغيــة الدفــاع

ــة التــي ترعرعــت عــن نفســها وعــن الثقافــة الوثني

فــي حضنهــا منــذ الحقبــة الكاســيكية. ذلــك هــو

بحــق كان الــذي المحدثــة األفاطونيــة مشــروع

منحــت نشــأة للفلســفة، مســتأنفة« »نشــأة

العتيقــة، الفلســفية المــدارس مختلــف مــن

وخصوصــا مــن األكاديميــة والرواقييــن والــرواق.

امتزجــت الجامــع المدرســة هــذه مشــروع فــي

معــه، يتعــذر امتزاجــا واألرســطية األفاطونيــة

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 108

بينهمــا. الفصــل معــه، يســتحيل نقــل لــم إن

وحظيــت »طيمــاوس« شــرحت حضنهــا وفــي

أرســطو ميتافيزيقــا وشــرحت كبيــرة، بمكانــة

وطبيعياتــه ومنطقــه. وبوحــي مــن مبــادئ هــذه

المدرســة صنعــت فــي العالــم اإلســامي مؤلفــات

شــذرات مــن محــدث أفاطونــي نفــس ذات

متفرقــة لرجاالتهــا )أفلوطيــن وأبرقلــس أساســا(،

ونســبت إلــى المعلــم األول، وكان لهــا تأثيــر هائــل

فــي الميتافيزيقــا والاهــوت فــي العصــر الوســيط،

المحــض« و»الخيــر »أثولوجيــا« كتــاب وأهمهــا

»كتــاب بعنــوان الاتينــي الغــرب فــي المعــروف

.)Liber de causis( العلــل«

لألفاطونيــة العامــة الصــورة تســعفنا ال

يقدمهــا كمــا الوســيط، العصــر فــي واألرســطية

العصــر والهوتيــي فاســفة تصنيــف فــي كويــري،

ودانــس بونافنتــورا القديــس كان هــل الوســيط.

رشــد ابــن كان وهــل حقــا؟ أفاطونييــن ســكوت

حقــا؟ أرســطيين البرابانســي وســيغر واألكوينــي

كل ســينا؟ وابــن الفارابــي »مشــائية« عــن مــاذا

باألفاطونيــة متفاوتــة- -بأقــدار متأثــرون هــؤالء

المحدثــة؛ ألنهــا كانــت حمالــة للعناصــر الفلســفية

فــي المواطنــة بحــق الفلســفة الحتفــاظ الازمــة

إطــار عصــر هيمنــت فيــه األديــان اإلبراهيميــة ثقافيــا،

داخــل هــذا اإلطــار كان مــآل كل المحــاوالت الســاعية

إلــى التخلــص مــن األفاطونيــة المحدثــة واســتعادة

األرســطية فــي صفائهــا هــو خلــق انشــقاق كبيــر بيــن

الفاســفة أنفســهم مــن جهــة، واالصطــدام بجــدار

الديــن المنيــع مــن جهــة أخــرى، ومــآل الرشــدية فــي

علــى دليــل أكبــر الاتينــي الغــرب وفــي دارهــا عقــر

ذلــك. وبالمقابــل؛ فــإن اعتمــاد مبــادئ األفاطونيــة

الحســبان فــي يأخــذ تعديــا وتعديلهــا المحدثــة

»حقائــق« أو عقائــد األديــان اإلبراهيميــة، كان مآلــه

مــن الدينيــة العقائــد زاويتيــن: عقلنــة مــن اإلثمــار

خــال صياغتهــا مفهوميا واالســتدالل على إمكانها،

ونقــد »المعتقــدات« الميتافيزيقيــة األرســطية مــن

منطقيــا ضرورتهــا عــدم علــى االســتدالل خــال

وعقليــا، وعلــى ضــرورة أو إمــكان نقيضهــا الدينــي.

أختــم هــذا التقديــم بنبــذة عــن الترجمــة؛ معلــوم

أن لــكل لغــة طرائــق خاصــة فــي القــول والتدليــل

وأداء المعانــي والتأليــف والنظــم واالســتعارة...

ــى ترجمــة مــا يقتــرن بهــذه األســاليب والســعي إل

المخصوصــة مــن شــأنه أن يفضــي إلــى »إحــداث

مــا وهــو أهلهــا«، بيــن رة مقــر لغــة فــي لغــة

قــوال ســتكون نتيجتــه أن أو إليــه، ســبيل ال

إلــى تنتمــي كويــري مقالــة أن بمــا »هيوالنيــا«؛

صاحبهــا لجــأ فقــد العمومــي، القــول جنــس

ومعنــى مبنــى اإليجــاز فــي ضــارب أســلوب إلــى

ا مجبــر أحيانــا نفســي وجــدت ولهــذا واســتدالال،

علــى رتــق مــا فتقــه، وتقديــم أو تأخيــر مــا أخــره أو

قدمــه، وشــرح مــا أوجــزه؛ كمــا أننــي أضفــت أحيانــا

الفهــم. لتيســير ]...[ معقوفتيــن بيــن كلمــات

باللغــة جمــا أيضــا كويــري مقالــة تضمنــت

الاتينيــة عملــت مــا فــي وســعي لترجمتهــا، وهــي

التــي أوردتهــا بيــن قوســين بخــط مائــل. وفضــا

عــن هــذا كلــه أضفــت هوامــش كثيــرة دققــت أو

أضفــت فيهــا بعــض اإلحــاالت، أو شــرحت فيهــا

بعــض النقــط التــي تغيــب معطياتهــا عــن القــارئ

األعــام. ببعــض عرفــت فيهــا أو العربــي،

109األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

نص مقالة كويري

إن فلســفة العصــر الوســيط هــي، بشــكل مــن

حــدود فإلــى تمامــا. حديــث اكتشــاف األشــكال،

الوســيط العصــر كان نســبيا، قليلــة ســنوات

فهــو قتامــة. األلــوان بأشــد موصوفــا بأكملــه

عصــر كان فيــه الفكــر البشــري منقــادا لســلطان

أرســطو، وســلطان العقيــدة ســلطان مــزدوج:

مدارهــا مشــكات بمناقشــات عقيمــة ومنهــكا

تحمــل »مدرســي« لفظــة زالــت ومــا وهميــة.

إلينــا معنــى قدحيــا صريحــا. بالنســبة

ليــس كل مــا فــي هــذه اللوحــة خاطئــا بالتأكيــد،

وليــس كل مــا فيهــا صحيحــا كذلــك؛ فقــد عــرف

البربريــة الشــديدة الوســيط حقبــة مــن العصــر

واالقتصاديــة السياســية األصعــدة علــى

القــرن مــن تقريبــا تمتــد والفكريــة؛ وهــي حقبــة

الســادس إلــى القــرن الحــادي عشــر؛ لكنــه عــرف

حقبــة خصوبتهــا، فــي اســتثنائية حقبــة أيضــا

ته نظيــر؛ وهــي ازدهــار فكــري وفنــي ليــس لشــد

حقبــة تمتــد مــن القــرن الحــادي عشــر إلــى القــرن

ونحــن فيهــا(، مشــمول )وهــو عشــر الرابــع

الفــن بينهــا مــن عديــدة بأمــور لهــا مدينــون

المدرســية. والفلســفة القوطــي

لكــن الفلســفة المدرســية كانــت، كمــا نعلــم

ذلــك اآلن، شــيئا عظيمــا جــدا. فالمدرســيون هــم

وخلقــوا فلســفيا، أوربــا بتهذيــب قامــوا الذيــن

وهــم نســتعملها؛ مازلنــا التــي المصطلحــات

اســتعادة مــن الغــرب عملهــم ــن مك الذيــن

نســج مــن بــل ال القديمــة، الفلســفية األعمــال

الصلــة بها. وفضــا عــن ذلــك، ثمة، رغــم المظاهر،

الفلســفة بيــن –وعميقــة- حقيقيــة اســتمرارية

فديــكارت الحديثــة. والفلســفة الوســيطة

ومالبرانــش واســبينوزا واليبنتــز، لــم يقومــوا فــي

أغلــب األحيــان إال بمواصلــة عمــل ســلفهم مــن

الوســيطيين.

وغيــر الســخيفة المســائل يخــص فيمــا

جامعــات وطــاب أســاتذة كان التــي المجديــة

فــي يتوغلــون والقاهــرة وأكســفورد باريــس

الخــوض فيهــا، هــل كانــت أكثر ســخفا وأقل جدوى

مــن تلــك التــي يتــم الخــوض فيهــا اليــوم؟ لربمــا ال

تبــدو لنــا علــى هــذا النحــو إال ألننــا ال نســتوعبها

جيــدا، أي ألننــا لــم نعــد نتكلــم اللغــة نفســها، فــا

نــرى أهميــة المســائل التــي نوقشــت، ومــا يترتــب

ــج، وال نــدرك معنــى الصيغــة التــي عليهــا مــن نتائ

علــى الغالــب فــي ينطــوي والــذي بهــا، مــت قد

مقصــودة. مفارقــة

وهــل هنــاك مــا هــو أســخف مــن التســاؤل؛ كــم

مــن المائكــة يمكــن أن يقفــوا علــى رأس إبــرة؟

أو أيضــا، هــل يوجــد العقــل اإلنســاني فــي فلــك

القمــر أم فــي مــكان آخــر؟ هــذا أمــر ال ريــب فيــه، لكــن

فقــط طالمــا أننــا ال نعلــم أو ال نــدرك الرهــان مــن

ذلــك؟ غيــر أن الرهــان هــو معرفــة هــل الفكــر، أو

هــل الكائــن أو الفعــل الذهنــي – الحكــم علــى ســبيل

المــكان... فــي ال أم موضعــا يشــغل المثــال-

وليــس فــي هــذا بتاتــا أي ســخف؛ واألمــر نفســه

ينطبــق علــى العقــل اإلنســاني؛ ذلــك أن الرهــان في

هــذا المذهــب الغريــب عنــد الفاســفة العــرب، هــو

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 110

معرفــة هــل التعقــل))1( –التعقــل الحقيقــي- فــردي

نظــرا إعجابنــا يثيــر ليشتـنـــبرغ))1( كان وإذا ال. أم

ألنــه أكــد أنــه مــن األفضــل اســتعمال صيغــة غيــر

شــخصية، فــا نقــول: أنــا أفكــر، بــل: إنــه يفكــر فــي؛

وإذا كنــا نقبــل، أو علــى األقــل نناقــش، أطروحــات

دوركايــم )Durkheim( المتعلقــة بالوعــي الجمعــي،

الــذي هــو فــي اآلن نفســه حــال فــي الفــرد ومتعــال

عليــه، فإنــي ال أرى لمــاذا – دع عنــك فلــك القمــر

وابــن ســينا ابــن أطروحــات نعالــج لــن جانبــا-

رشــد المتعلقــة بواحديــة العقــل اإلنســاني بــكل

االحتــرام الــذي تســتحقه.

البربريــة الوســيطة، البربريــة ســبب إن

االقتصاديــة والسياســية –علــى نحــو مــا تبيــن ذلــك

األعمــال الجيــدة للمــؤرخ البلجيكــي الكبيــر بيريــن)17(-

ليــس هــو غــزو القبائل الجرمانية للعالــم الروماني،

الشــرق بيــن الصــات انقطــاع هــو مــا بقــدر

والغــرب، بيــن العالــم الاتينــي والعالــم اليونانــي.

والســبب نفســه – أي غيــاب العاقــة مــع الشــرق

ــة ــة الفكري ــى البربري ــذي أفضــى إل ــي- هــو ال الهيلين

فــي الغــرب؛ مثلمــا أن اســتعادة هــذه العاقــات،

أي نســج الصلــة بالفكــر القديــم، بالتــراث اليونانــي،

هــي التــي أدت إلــى انتعــاش الفلســفة الوســيطة.

بدورهــا هــي التــي الفرنســية، "pensée" لكلمــة ترجمــة )1((لــه ليــس هنــا التعقــل اليونانيــة: "noésis" لكلمــة ترجمــة داللــة أخاقيــة كتلــك التــي نجدهــا فــي اســتعماالت أرســطو للفظــة "phronésis"، بــل يــدل علــى فعــل العقــل )noûs(، أي إدراك المعقــوالت بــكل أصنافهــا. إنــه فاعليــة مشــتركة بيــن اإلنســان والعقــول المفارقــة واإللــه )المحــرك األول الــذي ال يتحــرك(، رغــم مــا بيــن أفعــال العقــل اإلنســاني والعقــل اإللهــي

مــن فــوارق هائلــة )المترجــم(.

)16( Georg Christoph Lichtenberg )1742-1799(: كاتــب )المترجــم ألمانــي وفيزيائــي .)وفيلســوف

ــه ــرف بأعمال )17( Henri Pirenne )))18-)))1(: مــؤرخ بلجيكــي عالهامــة فــي تاريــخ العصــر الوســيط )المترجــم(.

مــن المؤكــد أن الشــرق فــي الحقبــة التــي تهمنــا

-خــارج بيزنطــة- لــم يعــد يونانيــا، بــل أضحــى عربيــا.

وفضــا عــن ذلــك، فــإن العــرب كانــوا هــم أســاتذة

الغــرب الاتينــي ومربيــه.

دت على كلمتي »أساتذة« و»مربين«؛ لقد شد

ألن العــرب لــم يكونــوا، كما يقال في الغالب، مجرد

وســطاء بيــن العالــم اليونانــي والعالــم الاتينــي؛

الفلســفية لألعمــال األولــى الترجمــات أن ذلــك

والعلميــة اليونانيــة إلــى الاتينيــة إن لــم تكــن قــد

خــال مــن وإنمــا مباشــرة، اليونانيــة مــن تمــت

العربيــة، فليــس ذلــك فقــط ألنــه لــم يكــن ثمــة

أحــد فــي الغــرب –أو لــم يكــن بعــد- يعــرف اليونانيــة،

بــل كذلــك، ولربمــا بالضبــط، ألنــه لــم يكــن ثمــة أحــد

قــادر علــى اســتيعاب مؤلفــات بالغــة الصعوبــة

أو أرســطو، و»ميتافيزيقــا« »طبيعيــات« مثــل

»مجســطي« بطلميــوس، وأن الاتينييــن مــا كانــوا

الفارابــي مســاعدة دون أبــدا ذلــك إلــى ليصلــوا

وابــن ســينا وابــن رشــد. ذلــك أن معرفــة اليونانيــة

ال تكفــي لفهــم أرســطو وأفاطــون –وهــذا خطــأ

يتكــرر عنــد الفيلولوجييــن الكاســيكيين- بــل ال بــد

مــن معرفــة الفلســفة. والحــال أن الاتينييــن لــم

يكونــوا أبــدا يعلمــون عنهــا شــيئا ذا بــال. فــكان

العصــر القديــم الاتينــي الوثنــي يجهــل الفلســفة.

إنــه ألمــر مثيــر للغرابــة –وأنــا أشــدد علــى ذلــك،

ألن هــذا يبــدو لــي ذا أهميــة كبيــرة، وهــو وإن كان

ــا، فإنــه ال ينبــه عليــه دائمــا- ماحظــة أمــرا معروف

المبــاالة الرومانــي، التــي تــكاد تكــون تامــة، بالعلــم

العمليــة بالشــؤون الرومانــي اهتــم والفلســفة.

والسياســة الحــرب وفــن والعمــارة كالفاحــة

111األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

األدب فــي ابحــث ولكــن، واألخــاق. والقانــون

علمــي عمــل عــن برمتــه الكاســيكي الاتينــي

واحــد جديــر بهــذا االســم، فلــن تجــده؛ وعــن عمــل

فلســفي، لــن تجــده كذلــك. ســوف تجــد بليــن)18(،

أي مجموعــة مــن طرائــف وخرافــات النســوة؛ أو

والفيزيــاء لألخــاق أمينــا عرضــا أي ســينيكا))1(،

نحــو علــى –أي يناســب نحــو علــى الرواقيتيــن،

ــط- اســتخدام الرومانييــن؛ أو شيشــرون)0)(، مبس

أو هــاو؛ آداب لرجــل فلســفية رســائل أي

ابتدائيــة. مدرســة كتــاب أي ماكروبيــوس)1)(،

إنــه لمــن المثيــر للدهشــة حقــا، عندمــا نفكــر

فــي األمــر مليــا، أن الرومانييــن الذيــن لــم ينتجــوا

أي شــيء، لــم يشــعروا بالحاجــة إلــى مــد أنفســهم

ثــاث أو محاورتيــن فباســتثناء بالترجمــات.

–وهــي طيمــاوس( )ومنهــا شيشــرون ترجمهــا

تقريبــا شــيء أي منهــا إلينــا يصــل لــم ترجمــة

وال أفاطــون، ال أبــدا الاتينيــة إلــى يترجــم -لــم

أرســطو وال أوقليــدس )Euclide(، وال أرخميــدس

)Archimède(. ذلــك أنــه إن كان أورغانــون أرســطو

فــي ترجمــا قــد )Plotin( أفلوطيــن وتاســوعات

نهايــة المطــاف، فــإن ذلــك قــد تــم فــي زمــن متأخــر

Pline" بلقــب عــرف رومانــي بكاتــب هنــا األمــر يتعلــق )18( "Gaius PliniusSecundus " هــو الاتينــي l’Ancien " واســمه "التاريــخ الطبيعــي" )))-)7(. كتــب موســوعة كبــرى عنوانهــا

)المترجــم(.

Lucius Annaeus Sene-" واســمه الاتينــي هــو ،Sénèque )1((ca" )حوالــي 4 ق.م- )) ب.م(: فيلســوف رواقــي وكاتــب مســرحي

ورجــل دولــة رومانــي )المترجــم(.

Marcus Tullius Ci-" هــو الاتينــي واســمه ،Cicéron )(0(cero" ))10 ق.م- )4 ق.م(: رجــل دولــة ومحــام وكاتــب رومانــي

)المترجــم(.

Flavius MacrobiusAmbro-" واســمه الاتينــي ،Macrobe )(1(وفيلســوف كاتــب :)4(0 بعــد -(70 )حوالــي "siusTheodosius

التينــي )المترجــم(.

جــدا، والمســيحيون هــم الذيــن قامــوا بالعمــل)))(.

ظــروف التمــاس يمكننــا أنــه فــي ريــب ال

العلميــة األدبيــات فقــر وتفســير التخفيــف،

اليونانيــة بانتشــار الرومانيــة والفلســفية

كان المحتــد« »كريــم رومانــي فــكل الواســع:

بغــرض اليونــان إلــى ويذهــب اإلغريقيــة، يتعلــم

الدراســة... كان النــاس يعرفــون اليونانيــة، مثلمــا

كانــت الفرنســية معروفــة فــي أوروبــا مــن قبــل.

االنتشــار. هــذا درجــة فــي نبالــغ أال علينــا لكــن

نفســها الرومانيــة األرســتقراطية تكــن لــم

»متأغرقــة« بالكامــل، أو علــى األقــل، لــم تكــن، خارج

دوائــر ضيقــة جــدا، تقــرأ ال أفاطــون وال أرســطو،

وال حتــى المختصــرات الرواقيــة. ولذلــك مــا كتــب

شيشــرون وســينيكا ]بالاتينيــة[ إال مــن أجلهــا.

لكــن األمــور فــي العالــم العربــي لــم تســر علــى

هــذا المنــوال. فمــا إن أوشــك الغــزو السياســي

اإلســامي العالــم اندفــع إال االكتمــال، علــى

اليونانيــة الحضــارة لغــزو مدهشــة بحماســة

وعلمهــا وفلســفتها. وســوف تترجــم كل األعمــال

ــة، وكل األعمــال الفلســفية، أو ســتعرض العلمي

وتشــرح كمــا هــو الشــأن بالنســبة إلــى أفاطــون.

أدرك العالــم العربــي، وقــال ذلــك عــن نفســه،

وهــو ومتممــه، الهيلينســتي العالــم وارث أنــه

الوســيط العصــر حضــارة ألن ذلــك؛ فــي محــق

)Marius Victorinus( فيكتورينــوس ماريــوس ترجــم )((()Boèce( بويثيــوس وترجــم الرابــع؛ القــرن فــي التاســوعات األورغانــون فــي القــرن الســادس. ضاعــت ترجمــة أفلوطيــن؛ أمــا ترجمــة أرســطو فتعرضــت هــي أيضــا للضيــاع فــي جانــب كبيــر منهــا: ومــا عــرف منهــا فــي العصــر الوســيط األعلــى إنمــا

هــو المقــوالت والجــدل.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 112

ا العربــي المشــرقة والغنيــة – التــي ليســت عصــر

وســيطا، بــل هــي باألحــرى نهضــة- هــي فــي حقيقــة

األمــر وريثــة الحضــارة الهيلينســتية ومتممــة لهــا.

ولذلــك أمكنهــا أن تلعــب، فيمــا يخــص البربريــة

الاتينيــة، دور المربيــة الــذي اختصــت بــه.

مــن المؤكــد أن أمــد هــذا االزدهــار الــذي عرفتــه

جــدا. قصيــرا كان العربية-اإلســامية الحضــارة

والعالــم العربــي، بعــد أن نقــل إلــى الغــرب الاتينــي

الميــراث الكاســيكي الــذي احتضنــه، ضيعــه هــو

نفســه، ال بــل نبــذه.

أن يحتــاج ال الواقعــة هــذه تفســير أن غيــر

ــا - بــل نســتدعي، كمــا يفعــل الكتــاب األلمــان غالب

العربــي عنــد فطريــا نفــورا الفرنســيين- وحتــى

بيــن أو تعارضــا ال يمكــن قهــره الفلســفة، مــن

الــروح اليونانيــة والــروح الســامية، أو امتنــاع الــروح

الشــرقية عــن فهــم الغــرب- فالكثيــر مــن الترهــات

تقــال حــول هــذه الصلــة بيــن الشــرق والغــرب...

بكثيــر، أبســط بطريقــة األمــور تفســير ويمكننــا

للعقيــدة العنيفــة الفعــل ردة تأثيــر خــال مــن

ذلــك التــي عابــت، ومــا كان القويمــة اإلســامية

ــى الفلســفة موقفهــا المضــاد ــرر، عل مــن دون مب

المدمــر األثــر خــال مــن وخصوصــا للديــن،

ــراك لموجــات االجتياحــات الهمجيــة مــن قبــل األت

الذيــن إســبانيا)))(( فــي )والبربــر والمنغولييــن

إلــى اإلســام وحولــوا العربيــة الحضــارة خربــوا

ديانــة متزمتــة معاديــة للفلســفة معــاداة شرســة.

مــن المحتمــل أنــه لــوال هــذا »التأثيــر« األخيــر

)))( لربمــا يقصــد ألكســندر كويــري هنــا اجتيــاح المرابطيــن )المترجــم(. لألندلــس

الســتمرت الفلســفة العربيــة فــي تحقيــق تقــدم

مماثــل لــذاك الــذي حققتــه الســكوالئية الاتينيــة،

وألمكــن للمفكريــن العــرب أن يجــدوا ردودا علــى

انتقادات الغزالي، وأن يضـفـوا صبغة »إسامية«

علــى أرســطو... لــم يتــح لهــم الوقــت لفعــل ذلــك.

فســيوف األتــراك والبربــر)berbères( قــد أوقفــت

ــى نحــو عنيــف ومباغــت، فــكان أن آلــت الحركــة عل

إلــى الغــرب الاتينــي مهمــة حفــظ اإلرث العربــي

إلــى جانــب اإلرث اليونانــي الــذي نقلــه إليــه العــرب.

لقــد شــددت آنفــا علــى أهميــة الميــراث القديــم

فلســفتنا، األقــل وعلــى الفلســفة، ألن ودوره؛

وتســلك اليونانيــة، بالفلســفة بكاملهــا ترتبــط

الســبل التــي شــقتها الفلســفة اليونانيــة، وتطــرق

آفاقــا متوقعــة مــن قبــل هــذه.

إن مشــكاتها هــي دائمــا مشــكات المعرفــة

للمســألة اليونانيــون. وضعهــا التــي والوجــود

ــه إلــى ســقراط: لفــي)4)( الموج دائمــا صلــة باألمــر الد

اعــرف نفســك بنفســك، وباألجوبــة علــى أســئلة:

مــن أكــون؟ وأيــن أنــا؟ أي، مــا الكينونــة ومــا العالــم؟

وأخيــرا، مــاذا أفعــل ومــاذا يجــب أن أفعــل أنــا فــي

هــذا العالــم؟

ووفقــا لمــا نقدمــه مــن أجوبــة مختلفــة عــن

الموقــف لهــذا تبنينــا وبحســب األســئلة، هــذه

أو أرســطيين، أو أفاطونييــن، نكــون ذاك، أو

أيضــا. أفلوطينييــن

بهــا التــي وجــد المنطقــة ،)Delphes( دلفــي إلــى )4)( نســبة إن يقــال أبولــو. لإللــه الرئيســي الهيــكل علــى احتــوى معبــد شــعار فلســفة ســقراط القائــل "اعــرف نفســك بنفســك"، كان

حكمــة منقوشــة علــى بوابــة هــذا المعبــد )المترجــم(.

113األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

–وألنهــا الوســيط العصــر فلســفة فــي

فلســفة- نعثــر بســهولة على المواقــف النموذجية

التــي أشــرت إليهــا آنفــا. إال أن وضعيــة الفلســفة

الوســيطة –ووضعيــة الفيلســوف بالطبــع- بوجــه

وضعيــة عــن الكفايــة فيــه بمــا مختلفــة عــام

القديمــة. الفلســفة

–مســيحية الوســيطة الفلســفة تموضعــت

الواقــع إســامية-في أو يهوديــة أو كانــت

والفيلســوف الوحــي. أديــان مــن ديانــة داخــل

ــا، مــا عــدا اســتثناء واحــد ]الوســيطي[ كان مؤمن

تقريبــا، اســتثناء يتعلــق بالضبــط بـ]الفيلســوف[

كانــت المســائل بعــض أن كمــا الرشــدي.

بالنســبة إليــه محلولــة مســبقا. كان باســتطاعة

الفيلســوف القديــم، كمــا يقــول الســيد جيلســون

بوجاهــة)))(، أن يتســاءل هــل هنالــك آلهــة، وكــم

وبفضــل الوســيط- العصــر فــي منهــا. هنالــك

العصــر الوســيط ينطبــق هــذا األمــر علــى األزمنــة

الحديثــة كذلــك- لــم يعــد بإمــكان ]فيلســوف[ أن

يضــع أســئلة مــن هــذا القبيــل. يمكنــه بالتأكيــد أن

يتســاءل هــل اإللــه موجــود؛ وبصيغــة أدق يمكنــه

أن يتســاءل كيــف يمكــن البرهنــة علــى وجــوده. غيــر

أنــه لــم يعــد لتعــدد اآللهــة أي معنــى؛ فالجميــع

كان يعلــم أن اإللــه –موجــودا كان أم غيــر موجــود- ال

يمكــن أن يكــون إال واحــدا أحــدا. وفضــا عــن ذلــك،

بينمــا شــكل أفاطــون أو أرســطو تصورهمــا عــن

اإللــه بطريقــة حــرة، كان الفيلســوف الوســيطي

يعلــم بوجــه عــام أن إلهــه إلــه خالــق، وهــذا تصــور

ربمــا يســتحيل أو الفلســفة جــدا، يصعــب علــى

)25( Cf. Gilson, Etienne, L'Esprit de la philosophie médiévale, 2 vol., Paris, 1932.

اســتيعابه)))(. عليهــا،

نفســه، وعــن اإللــه، عــن كذلــك يعلــم وكان

ا أخــرى كثيــرة وعــن العالــم، وعــن مصيــره، أمــور

علمــه إياهــا الديــن. كان يعلــم علــى األقــل أن الديــن

يعلمهــا. وأمــام هــذا التعليــم كان عليــه أن يتخــذ

موقفــا. وأمــام الديــن كان عليــه، فضــا عــن ذلــك،

الفلســفة الفلســفية، وأمــام يبــرر فاعليتــه أن

كان عليــه، مــن جهــة أخــرى، أن يبــرر وجــود الديــن)7)(.

التوتــر شــديد وضعــا خلــق مــا وهــذا

حصــل أن الحــظ حســن لمــن والتعقيد. وإنــه

ذلــك؛ ألن هــذا التوتــر وهــذا التعقيــد فــي الصــات

بيــن الفلســفة والديــن، بيــن العقــل واإليمــان، همــا

الغربــي. الفلســفي التطــور يــا غذ اللذيــن

ومــع ذلــك... رغــم هــذا الوضــع الجديــد تمامــا،

ــا كان أو مســلما مــا أن يقــارب فيلســوف – يهودي

المركزيــة، الميتافيزيقــا مشــكلة مســيحيا- أو

فــي يعثــر الكينونــة، وماهيــة الكينونــة مشــكلة

إلهــه الخالــق علــى إلــه أفاطــون )الخيــر(، وعلــى إلــه

أرســطو )التعقــل المحــض(، وعلــى إلــه أفلوطيــن

)الواحــد(.

الوســيطة الفلســفة عرضــت مــا غالبــا

ســلطة عليهــا هيمنــت فلســفة بوصفهــا

بالتأكيــد، وهــذا صحيــح كاملــة. هيمنــة أرســطو

ولكــن فــي حقبــة معينــة فقــط)8)(. وبالنســبة إلــى

الســبب. فهــم اليســير مــن الحقبــة، هــذه

)))( وقد أنكره فاســفة وســيطيون تشــبثوا تشــبثا أمينا بمطالبة الفلســفة بالصــدارة واالحتــكام إلى نفســها، وهم الرشــديون.

)27( Cf. Strauss, Leo,Philosophie undGesetz, Berlin, 1935.

)8)( عموما ابتداء من النصف الثاني من القرن الثالث عشر.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 114

اليونانــي الفيلســوف هــو أرســطو كان أوال،

الوحيــد الــذي كانــت أعمالــه كلهــا –علــى األقــل كل

األعمــال التــي كانــت معروفــة فــي العصــر القديــم-

قــد ترجمــت إلــى العربيــة وإلــى الاتينيــة فيمــا بعــد.

أمــا أعمــال أفاطــون فلــم يكــن لهــا هــذا الحــظ،

ولذلــك كانــت المعرفــة بهــا أقــل.

بيــد أن هــذا األمــر ليــس أثــرا مــن آثــار الصدفــة.

موســوعة يشــكل أرســطو عمــل أن ذلــك

الطــب فباســتثناء البشــرية. للمعرفــة حقيقيــة

والرياضيــات، نجــد فيــه كل شــيء: المنطق –ولهذا

أهميــة رئيســة- والفيزيــاء والفلــك والميتافيزيقــا

واألخــاق النفــس وعلــم الطبيعيــة والعلــوم

الوســيط العصــر إلــى وبالنســبة والسياســة...

الثانــي، المنبهــر بهــذا القــدر مــن المعرفــة والواقــع

تحــت وطأتــه، المفتتــن بهــذا العقــل االســتثنائي

ممثــل أرســطو يصيــر أن فــي غرابــة ال حقــا،

اإلنســانية، الطبيعــة كمــال وذروة الحقيقــة،

»أســتاذ الذيــن يعلمــون« كمــا ســيقول دانتــي)))(،

الخصــوص. علــى مــون يعل الذيــن ومرشــد

نعمــة ذلــك، عــن فضــا هــو، أرســطو ألن

ــم، ويعل ــم يعل أرســطو األســتاذ. إلــى بالنســبة

بنفســه. نفســه ويشــرح يناقــش

le prince di col�( باإليطاليــة دانتــي كام كويــري أورد )(((الــكام هــذا أن مــن تحققنــا وقــد إحالــة. orchesanno( دون جــزء مــن أبيــات شــعرية هــي اآلتيــة: »وحينمــا رفعــت عينــي إلــى ــن يعلمــون، يجلــس بيــن أســرة ــا، رأيــت أســتاذ الذي أعلــى قليإليــه، ويمجــده الجميــع« )أليجيــري، فلســفية، وكلهــم ينظــر دانتــي. )88)1(. الكوميديــا اإللهيــة: الجحيــم، األنشــودة 4، 0)1-))1، ) حســن عثمــان، مترجــم(. القاهــرة: دار المعــارف، ط، )،

)المترجــم(. .)117 ص.

فــا غرابــة أنــه مــا إن دخــل إلــى المدرســة)0)(

حتــى ترســخ فيهــا فــورا )وقــد كان كذلــك دائمــا

قــوة أي كانــت ومــا المنطــق(، مؤلــف بوصفــه

بشــرية لتتمكــن مــن طــرده منهــا. وظلــت صيــغ

المنــع والتحريــم حبــرا علــى ورق)1)(. مــا كان يمكــن

انتــزاع أرســطو مــن األســاتذة مــن دون منحهــم

حــدود إلــى أنــه، والحــال محلــه. يحــل مــا شــيئا

علــى شــيء أي شــيء، ثمــة يكــن لــم ديــكارت،

لهــم. لمنحــه اإلطــاق،

إذ الشــكل أمــا أفاطــون، فتعليمــه متعــذر؛

الحــواري ليــس شــكا مدرســيا. إن فكــره متعــرج،

ــب ومــن الصعــب اســتيعابه، ويســتلزم فــي الغال

ــم تكــن منتشــرة بمــا فيــه معرفــة علميــة هامــة ل

المــدارس أي الصنائــع، مــدارس هــو هنــا المقصــود )(0(ــم فيهــا الصنائــع )المســالك الثاثيــة: النحــو التــي كانــت تعلوالخطابــة، والمســالك الرباعيــة: الحســاب والهندســة والفلــك والموســيقى(؛ وعندمــا أنشــئت الجامعــات فــي بدايــة القــرن الصنائــع كليــة فــي المــدارس هــذه الثالــث عشــر، ســتجمع )faculté des Arts( التــي ســتصير حاضنــة لتدريــس الفلســفة

المشــائية ابتــداء مــن منتصــف هــذا القــرن )المترجــم(.

)1)( يشــير كويــري هنــا إلــى التحريمــات واإلدانــات المتجــددة التــي أصدرتهــا الســلطات الاهوتيــة، فــي باريــس علــى األقــل، ــى مــا بعــد ــة القــرن الثالــث عشــر )10)1 و)1)1 و1))1( وإل ــذ بداي منالحــرام إنــزال طائلــة تحــت حظــرت والتــي ،)1(((( منتصفــه أرســطو طبيعيــات وتــدارس تدريــس المخالفيــن، علــى هــذه أن غيــر عليهمــا؛ الدائــرة والشــروحات وميتافيزيقــاه، تحــل لــم إذ األرض، علــى لهــا مفعــول يكــن لــم التحريمــات دون إقبــال أســاتذة كليــة الصنائــع علــى تدريــس الممنــوع، إلــى درجــة أن المؤلفــات التــي كانــت ممنوعــة صــارت إلزاميــة فــي أواســط خمســينات القــرن الثالــث عشــر، وبذلــك صــارت كليــة الصنائــع –التــي كانــت مــن قبــل كليــة تحضيريــة تقتصــر علــى ــد تدريــس المنطــق والنحــو- كليــة للفلســفة )المترجــم(. لمزي

مــن التفاصيــل يمكــن الرجــوع إلــى هذيــن العمليــن:Steenberghen, Fernand Van. )1966(.La philosophie au XIIIe siècle, )Philosophe médievaux, XI(. Louvain : Publications universitaires ; Paris : Béatrice-Nauwelaerts. chap, III et VIII.La condamnation parisienne de 1277, Nouvelle édition du texte latin, traduction, introduction et commentaire par DavidPiché, avec la collaboration de Claude Lafleur, Collection »Sic et Non«, Paris, Vrin, 1999, pp. 153-158.

115األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

الكفايــة. وهــذا مــا يفســر بــا شــك أن أفاطــون لــم

ــة العصــر ــذ نهاي ــة من ــدرس خــارج األكاديمي يعــد ي

ممــا أكثــر ل أو هــذه وفــي الكاســيكي؛ القديــم

ل شــكله. درس، أي عــد

فــي كل مــكان آخــر حــل المختصــر المدرســي

)le manuel( محــل النــص. والمختصــر – مثــل

وتوفيقــي، تلفيقــي المدرســية- مختصراتنــا

الرواقيــة مــن الخصــوص علــى يســتلهم

بــدا ولهــذا المحدثــة. األفاطونيــة ومــن

أفاطونيــا التاريخــي، التقليــد فــي أفاطــون،

العــرب عنــد فقــط ال مــا، نحــو علــى محدثــا

ــه وبيــن أفلوطيــن، ــا مــا بين ــن خلطــوا غالب الذي

عنــد حتــى بــل ال كذلــك، الاتينييــن عنــد بــل

اليونانييــن البيزنطييــن الــذي نظــروا إليــه مــن

الراجعــة المختصــرات أو الشــروحات خــال

إلــى األفاطونيــة المحدثــة. وعــاوة علــى ذلــك،

أرســطو. حصــل األمــر نفســه مــع

ومــع ذلــك، حفظــت بعــض الثيمــات وبعــض

كتابــات خــال مــن المواقــف المذاهــب وبعــض

المحدثيــن، مــن خــال شيشــرون األفاطونييــن

وبويثيــوس وابــن جبــرول، وعلــى الخصــوص مــن

العظيمــة أوغســطين القديــس أعمــال خــال

للتعديــل تعرضــت أنهــا والمؤكــد والرائعــة؛

اندرجــت الــذي الدينــي اإلطــار بفعــل والتغييــر

فيــه، ولكــن بقاءهــا هــو مــا يتيــح لنــا أن نتحــدث

بــأن نجــزم بــل وأن عــن أفاطونيــة وســيطة)))(،

هــذه األفاطونيــة التــي ألهمــت الفكــر الوســيطي

الاتينــي فــي القرنيــن 11 و)1، لــم تختــف مــع الوصــول

الظافــر ألرســطو إلــى المــدارس)))(. والواقــع أن

القديــس وهــو المســيحيين، األرســطيين أكبــر

وهــو األفاطونييــن، وأكبــر األكوينــي، تومــا

القديــس بونافانتــورا، كانــا بالضبــط متعاصريــن.

لقــد قلــت آنفــا إن العصــر الوســيط قــد عــرف

تخصيصــا. ثانويــة مصــادر خــال مــن أفاطــون

تخصيصــا... لكــن ليــس حصــرا. فإذا كانــت محاورتا

»مينــون« و»فيــدون«، المترجمتــان إبــان القــرن )1،

قــد ظلتــا مجهولتيــن تقريبــا، فــإن »طيمــاوس«،

بشــرح وزودهــا خلقيديــوس)4)( ترجمهــا التــي

طويــل )فــي القــرن الرابــع(، كانــت متاحــة للجميــع.

حكايــة قــل أو تاريــخ، هــي و»طيمــاوس«

كيــف أفاطــون فيهــا حكــى فقــد العالــم. خلــق

)))( )platonisme médiéval(: نســبة إلــى العصــر الوســيط. إن مــا يســميه كويــري هنــا بـ"األفاطونيــة الوســيطية" مختلــف الوســطى" بـ"األفاطونيــة الدارســون يدعــوه مــا عــن تمامــا التــي )Le Moyen Platonisme, ou Médioplatonisme(ظهــرت فــي القــرن األول قبــل الميــاد، وبذلــك شــكلت تيــارا و"أفاطونيــة محدثــة". قديمــة" "أفاطونيــة بيــن زمنيــا يقــع لمزيــد مــن التفاصيــل عــن التحــوالت التــي عرفتهــا األفاطونيــة ــى: ــال، إل ــم، يمكــن الرجــوع، علــى ســبيل المث فــي العصــر القديGavary, Marc-Antoine.)printemps 2014(. »Platonisme et néoplatonisme antique«, in Houari Touati )éd.(, Encyclopédie de l’humanisme méditerranéen, URL = http://www.encyclopedie-humanisme.com/?Platonisme-et-neoplatonisme&var_mode=calcul. )consulté le 29-07-2020(.

)))( يختفــي المضمــون األفاطونــي للمذاهــب أحيانــا خلــف األرســطية. المصطلحــات لبــاس

فــي عــاش محــدث، أفاطونــي فيلســوف ،Chalcidius )(4(النصــف األول مــن القــرن الرابــع، وإليــه يديــن العصــر الوســيط فــي الغــرب الاتينــي بمــا عرفــه عــن أفاطــون. فقــد ترجــم جــزءا مــن محــاورة "طيمــاوس" إلــى الاتينيــة، وأرفقــه بشــرح هــام. وعملــه هــذا ســيكون لــه تأثيــر كبيــر فــي القــرن الثانــي عشــر،

وخصوصــا علــى مدرســة شــارتر.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 116

أن اإللــه الصانــع )Démiurge(، أو اإللــه األســمى،

وبعــد أن شــكل فــي وعــاء مزيجــا مــن »مــا هــو

عيــن ذاتــه« و»مــا هــو آخــر« –وهــو مــا يعنــي هنــا

مزيجــا مــن مــا يــدوم علــى حالــه ومــا يتغيــر- قــام

حالهــا علــى تبقــى التــي العالــم نفــس بتشــكيل

وتتغيــر فــي الوقــت ذاتــه، ثــم دائرتــي »مــا هــو عيــن

ذاتــه« و»مــا هــو آخــر« )أي دائرتــي البروج والفلــك

المائــل( واللتيــن تحــددان، بدورتيهمــا الدائريتيــن،

حــركات عالــم مــا تحــت القمــر. واآللهــة الثانويــون،

آلهــة الكواكــب أو النفــوس، تشــكلوا مــع مــا بقــي.

ثــم إن اإللــه قــام بتقطيــع مثلثــات صغيــرة مــن

وشــكل أوليــة، أجســاما منهــا وشــكل المــكان،

مــن هــذه العناصــر األجســام الواقعيــة والنباتــات

والحيوانــات واإلنســان، وأعانــه علــى هــذا العمــل

الثانويــون. اآللهــة

حكايــات مــن مكــون للفضــول مثيــر خليــط

ســماوية وميكانيــكا األســطورية التكويــن

والهــوت وفيزيــاء رياضيــة... لقــي العمــل رواجــا

كبيــرا؛ فالمكتبــات األوربيــة مليئــة بالمخطوطــات

والشــروح غيــر المنشــورة حــول »طيمــاوس«)))(.

)Chartres( شــارتر مدرســة تعليــم ألهــم لقــد

الوســيط العصــر وموســوعيي والشــعراء

واألعمــال الفنيــة. ال ريــب فــي أن فكــرة األربــاب

الثانوييــن كانــت صادمــة؛ لكــن كان يكفــي اســتبدال

المائكــة بهــم، لكــي تحظى »طيمــاوس« بالقبول.

حظيــت »طيمــاوس« بــرواج كبيــر فــي الشــرق

علــى ألهمــت فقــد الغــرب. فــي عرفتــه كالــذي

)35( Cf. Klibansky, R.)1939(. The Continuity of the Platonic tradition. London.

كــراوس)))(، بــول ذلــك بيــن كمــا الخصــوص،

فعلــى العربيــة. الخيميــاء مــن كبيــرا قســما

حيــان بــن جابــر مذهــب يســتند المثــال، ســبيل

الذريــة إلــى بكاملــه المعــادن بتحــول الخــاص

ــواردة فــي »طيمــاوس«. وقــد ســعى ــة ال الرياضي

الخيميائيــون بجهــد إلــى حســاب األوزان النوعيــة

مســتلهمة اعتبــارات إلــى مســتندين للمعــادن

بوضــوح مــن عمــل أفاطــون؛ ومــن المؤكــد أنــه

لــم يحالفهــم نجــاح كبيــر، غيــر أن الخطــأ ال يعــود

إليهــم؛ فالفكــرة كانــت جيــدة، ونحــن نــرى بأعيننــا

اليــوم. ذلــك

يتضمــن ال »طيمــاوس« أن فــي شــك ال

بعــض يعــرض أنــه إال برمتهــا، األفاطونيــة

مذاهبهــا األساســية؛ مذهــب الصــور المعقولــة

)les Idées( علــى الخصــوص، وكــذا فكــرة الفصــل

المعقــول. والعالــم المحســوس العالــم بيــن

ذلــك أن الصانــع إنمــا بنــى عالمنــا هــذا مســتلهما

تقــدم ذاتــه، الوقــت وفــي الســرمدية. النمــاذج

العاقــات مشــكلة لحــل محاولــة »طيمــاوس«

بيــن الصــور المعقولــة والواقــع المحســوس، مــن

خــال فعــل اإللــه. وإنــه ألمــر مفهوم أن الفاســفة

الوســيطيين رأوا فيــه مذهبــا مقبــوال جــدا، ويمكــن

أن يتوافــق مــع فكــرة اإلله-الخالــق؛ ال بــل يمكــن

أن نعكــس األمــر ونقــول إن فكــرة اإلله-الخالــق

»طيمــاوس«، خــال مــن أدق، وصــارت اغتنــت

بفكــرة مخطــط مثالــي ســبق أن تصــوره منذ األزل.

أفاطــون يعــرف أن العربــي، ودون والعالــم

)36(Cf. Kraus, Paul. )1942(.Jâbir et les origines de l’alchimie arabe. Le Caire : Mémoires de l’Institut d’Égypte.

117األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

ممــا بكثيــر أفضــل معرفــة كذلــك عرفــه جيــدا،

علــى عــرف لقــد يعرفــوه. أن لاتيــن أمكــن

الخصــوص مذهبــه السياســي. فكمــا بيــن ذلــك

المذهــب أخــذ شــتراوس)7)(، الســيد بوضــوح

السياســي ألفاطــون مكانــه فــي الفكــر العربــي

منــذ الفارابــي ]الفيلســوف[ غيــر المعــروف كثيــرا،

اإلســام. فــي فيلســوف أعظــم ربمــا ولكنــه

السياســي المذهــب أن المعلــوم مــن

ألفاطــون يتــوج بفكرتــي المدينــة المثاليــة والقائــد

الــذي الملك-الفيلســوف أي للمدينــة، المثالــي

ينظــر فــي صــورة الخيــر المعقولــة، وفــي ماهيــات

قانــون ويجعــل الســرمدية، المعقــول العالــم

الخيــر يســود فــي المدينــة. فــي تعديــات الفارابــي

صــارت المدينــة المثاليــة مدينــة اإلســام؛ ومــكان

الفيلســوف شــغله النبــي. وهــذا واضــح بمــا فيــه

الكفايــة عنــد الفارابــي، بــل إنــه أوضــح أيضــا عنــد

ابــن ســينا الــذي يصــف النبي – أو اإلمام- بما يشــبه

أفاطــون)8)(. »سياســي« الملك-الفيلســوف،

ال شــيء ناقــص عنــده- بمــا فــي ذلــك أســطورة

le( المســتبصر يعــود حيــث الكهــف الكهــف،

)وفــي الملك-الفيلســوف النبــي، إن .)voyant

ــر( هــو ــى الفيلســوف ال غي ــك يكمــن تفوقــه عل ذل

الفيلســوف، اإلنســان العملــي الــذي يعــرف كيــف

المخيلــة عبــارات إلــى العقلــي الحــدس يترجــم

والقصــص، عبــارات فــي متنــاول عــوام الفانيــن.

ع مشــر إذا هــو –الملك-الفيلســوف- فالنبــي

المدينــة؛ أمــا الفيلســوف، فــا يعــرف إال أن يــؤول

)37( Op. cit.

محــاورات مــن محــاورة )Le Politique( "السياســي" )(8()المترجــم(. أفاطــون

داللتهــا عــن الغطــاء ويكشــف النبــي شــريعة

الفلســفية؛ وذلــك مــا يفســر فــي نهايــة التحليــل

توافــق الفكــر الفلســفي والشــريعة... مفهومــة

فهمــا جيــدا.

أفاطــون لمذهــب طريــف توظيــف وهــذا

)l'autocratie(ألميــر المطلــق الحكــم لصالــح

المؤمنيــن. وأطــرف مــن ذلــك أيضــا أن التوظيــف

الاهوتي-السياســي لألفاطونيــة ال يتوقــف عنــد

)prophétologie( هــذا الحــد؛ ذلــك أن علــم النبــوة

مزاعــم لدعــم بــدوره ف ســيوظ ســينا ابــن عنــد

والراهــب الشــاملة. الثيوقراطيــة فــي البابويــة

)Roger Bacon( بيكــون روجــر الفرنسيســكاني

ــق مــا سيستنســخ ابــن ســينا بــدم بــارد عندمــا طب

قالــه هــذا عــن اإلمــام علــى البابــا بــكل ارتيــاح. غيــر

أن ذلــك يظــل حالــة معزولــة، فإلــى جانــب القانــون

الرومانــي وشيشــرون، فــإن أرســطو هــو مــن قــام

السياســية ألوروبــا. بالتربيــة

فــي السياســيين المفكريــن توظيــف إن

واســتخدام أفاطــون، لـ»جمهوريــة« اإلســام

لـ»سياســات« أوروبــا فــي الاتيــن نظرائهــم

بالنتائــج وملــيء الطرافــة، بالــغ أمــر أرســطو

إن ثــم بعيــدا)))(. ســيجرنا وفحصــه الهامــة؛

هــو ليــس هاهنــا فيــه النظــر إلــى أســعى مــا

مذهبيــن بوصفهمــا واألفاطونيــة األرســطية

سياســيين، وإنمــا بوصفهمــا مذهبيــن أو موقفين

وأخاقييــن. ميتافيزيقييــن

)39( Cf. Lagarde, G. de. )1934(. La naissance de l’esprit laïque au déclin du Moyen Age, 2 vol., Saint-Paul-Trois-Châteaux,.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 118

التــي تمارســها األفاطونيــة –أو إن الجاذبيــة

األفاطونيــة المحدثــة– علــى الفكــر الدينــي أمــر ال

يســتدعي توضيحــا إن جــاز التعبيــر. إذ كيف نتجاهل

ال وكيــف ألفاطــون؟ العميــق الدينــي اإللهــام

nec fallit( نــرى فــي إلهــه الــذي ال يخــدع وال يخــدع

ــه، ــي ذات ــر المتعال ــذي هــو الخي nec fallitur(، إلهــه ال

أو الصانــع الــذي يشــكل العالــم مــن أجــل الخيــر،

يبــرئ حقــا إال الخيــر، كيــف ال نــرى فيــه والــذي ال

شــيئا مــا شــبيها بإلــه أديــان الكتــاب المقــدس؟

– اإلســامية أو - المســيحية النفــس وثيمــة

ــد مفكــري ــورود عن بالفطــرة، وهــي ثيمــة دائمــة ال

العصــر الوســيط، أيمكــن أن تجــد دليــا أجمــل مــن

أفاطــون؟ نمــوذج

لــروح وفيمــا يخــص أفلوطيــن، كيــف يمكــن

متصوفة أن ال تســعى إلى مماهاة اإلله المتعالي

للديــن بالواحــد، المتعالــي علــى الوجــود والعقــل،

الــذي قــال بــه آخــر كبــار الفاســفة اليونــان؟ ثــم إن

كل ألــوان التصــوف، مــا إن تصيــر تأمليــة، وتســعى

ــر فــي نفســها وال تقتصــر على أن تعاش، إلــى التفك

تســتدير طبعــا، بــل وحتمــا، نحــو أفلوطيــن.

توصــل األفاطونيــة الكتــب قــراءة بفضــل

القديــس أوغســطين إلــى اإللــه، ففــي هــذه الكتــب،

كمــا يخبرنــا ذلــك بنفســه فــي صفحــات ال يمكــن

والقلقــة المعذبــة نفســه تعلمــت تنســى، أن

-التــي بلبلهــا مشــهد الشــر الســائد فــي العالــم،

إلــى درجــة قبــول وجــود إلــه الشــر، إلــه شــرير إلــى

ــه واحــد. إن ــاك إال إل ــه ليــس هن ــر- أن ــه خي ــب إل جان

األفاطونييــن هــم الذيــن علمــوا أوغســطين أن

الخــاق ذاتــه، وينبــوع ال ينضــب الخيــر اإللــه هــو

–وهــو األفاطونييــن إلــه والجمــال. للكمــال

نفســه إلــه الديانــة المســيحية حســب القديــس

قلبــه كان الــذي الخيــر هــو ذلــك أوغســطين-

المغمــوم يبحــث عنــه دائمــا دون أن يعلــم ذلــك:

خيــر الــروح، الخيــر األزلــي والثابــت الوحيــد، الوحيــد

يقتفــى... أن الــذي يســتحق عنــاء

يكــرر أبديــا«، ليــس هــذا كل فــي الــذي »مــا

القديــس أوغســطين، وصــدى كلماتــه لــن ينســى

أبــدا فــي الغــرب. خمســة عشــر قرنــا بعــد ذلــك،

المقــدس للكتــاب رافــض آخــر مفكــر ســيحدثنا

الخيــر أيضــا، اإللــه عــن اســبينوزا، وهــو بعنــف،

الوحيــد الــذي يمــأل امتاكــه النفــس بســعادة أبديــة

وثابتــة.

النفــس –إنهــا كلمــة األفاطونييــن العظيمــة،

هــو دائمــا مدارهــا أفاطونيــة فلســفة وكل

كل وبالمقابــل، المطــاف. نهايــة فــي النفــس

فلســفة دائمــا هــي النفــس مدارهــا فلســفة

أفاطونيــة.

األفاطونــي الوســيطي علــى نحــو مــا مفتتــن

بدقــة أو نفســا، يمتلــك بكونــه أو بنفســه،

يبحــث األفاطونــي نفســا. وعندمــا بكونــه أكبــر،

عــن الســقراطية للقاعــدة وفقــا الوســيطي،

ــه، فــإن معرفــة نفســه هــي مــا يبحــث معرفــة ذات

ســعادته. يجــد نفســه معرفتــه وفــي عنــه،

األفاطونــي إلــى بالنســبة النفــس إن

مــن بكثيــر وأكمــل بكثيــر أســمى الوســيطي

ــه ليــس لهــا فــي الحقيقــة ــم، بحيــث إن باقــي العال

مقيــاس مشــترك مــع هــذا الباقــي. وكذلــك، علــى

119األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

الفيلســوف أن يتوجــه ال نحــو العالــم ودراســته،

بــل نحــو النفــس؛ إذ هاهنــا، أي فــي دخيلــة النفــس،

الحقيقــة. تســكن

عــد ]قائــا[: أوغســطين القديــس يحضنــا

نفســها والكلمــات دخيلتــك. إلــى نفســك، إلــى

القديــس بريشــة 11 القــرن فــي نجدهــا تقريبــا

بقرنيــن ذلــك وبعــد ،)Saint Anselme( أنســيلم

Saint( بونافانتــورا القديــس بريشــة أيضــا

.)Bonaventure

فــي دخيلــة النفــس تســكن الحقيقــة –نتعــرف

لكــن أفاطــون. تعاليــم إحــدى علــى هــذا فــي

الحقيقــة بالنســبة إلــى األفاطونــي الوســيطي هــي

اإللــه نفســه، الحــق الســرمدي، وينبــوع كل حقيقــة،

أيضــا هــذه ونــوره: المعقــول العالــم شــمس

صــورة )image( أفاطونيــة تعــود باســتمرار فــي

الفلســفة الوســيطية، وتســمح علــى وجــه اليقيــن

باكتشــاف روح أفاطــون وإلهامــه.

الحــق هــو اإللــه؛ وإذن فاإللــه نفســه هــو الــذي

ــا نحــن ــه أقــرب إليهــا من يســكن نفســنا، ال بــل إن

األفاطونــي شــوق نفهــم هنــا ومــن أنفســنا.

معرفــة ألن نفســه؛ معرفــة إلــى الوســيطي

نفســه بالمعنــى الممتلــئ والتــام للكلمــة، تــكاد

تكــون مســبقا معرفــة باإللــه. »اإللــه والنفــس

Deum et( معرفتــه« إلــى أتشــوق مــا همــا

animamscirecupio(، هكــذا يتنهــد أوغســطين، اإللــه

مــن أحدهمــا معرفــة يمكــن ال ألنــه والنفــس؛

دون اآلخــر. »إنــي إذ أعــرف نفســي أتعــرف عليــك«

)noverim me, noverim te(. بالنســبة إلى األفاطوني

الوســيطي–وهذا تصــور بالــغ األهميــة وحاســم–

طبيعــة« أي تتوســط ال والنفــس اإللــه »بيــن

)inter Deum et animamnulla est interpositanatura(. إن

ــه ــا، صــورة اإلل النفــس اإلنســانية إذن هــي، حرفي

وشــبهه؛ ولذلــك بالضبــط ال يمكنهــا أن تعــرف

ذاتهــا معرفــة تامــة)40(.

ــدا أن نفســا مــن هــذا القبيــل، ــا نفهــم جي إنن

الدقيــق بالمعنــى بالجســد متحــدة ليســت

ماهويــة وحــدة معــه تشــكل ال إنهــا للكلمــة.

فــي أنهــا فــي شــك ال للفصــل. قابلــة وغيــر

ــان فــي الســفينة«: ــه »كالرب الجســد، ولكنهــا في

فهــي تقــوده وتوجهــه، ولكنهــا غيــر متعلقــة بــه

كينونتهــا. فــي

اإلنســان. علــى ينطبــق نفســه واألمــر

فاإلنســان، بالنســبة إلــى األفاطونــي الوســيطي،

جســدا تســتعمل فانيــة غيــر نفــس إال هــو مــا

فانيــا )anima immortalismortaliutenscorpore(، نفــس

التحفــت جســدا. فهــي تســتخدمه، إال أنهــا، فــي

ذاتهــا، مســتقلة عنــه، ال بــل إنــه يزعجهــا ويعيقهــا

أكثــر ممــا يعينهــا عندمــا يتعلــق األمــر بفعلهــا؛

ذلــك أن الفاعليــة الخاصــة باإلنســان، وهــي التفكير

النفــس بــه تختــص شــأن هــي إنمــا واإلرادة،

وحدهــا، إلــى درجــة أنــه، بالنســبة إلــى األفاطونــي

اإلنســان إن نقــول أن ينبغــي ال الوســيطي،

يعقــل، بــل إن النفــس تعقــل الحقيقــة وتدركهــا.

فــي شــيء فــي يفيدهــا ال الجســد أن والحــال

)40( تتعــرف النفــس علــى ذاتهــا مباشــرة ودون توســط؛ فهــي النفــس تملــك ال ماهيتهــا. ليــس ولكــن كينونتهــا؛ تــدرك الصــورة المعقولــة لذاتهــا؛ ألن صورتهــا المعقولــة إنمــا هــي

.)Malebranche( اإللــه كمــا ســيبين لنــا ذلــك مالبرانــش

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 120

ســبيل ذلــك، ال بــل إنــه ينتصــب حجابــا يتوســط

الحقيقــة)41(. وبيــن بينهــا

ليســت النفــس بحاجــة إلــى الجســد لكي تعرف

وتتعــرف علــى نفســها؛ إنهــا تــدرك ذاتهــا علــى نحــو

مباشــر ودون توســط. وال شــك فــي أنهــا ال تعــرف

ــئ فــي ماهيتهــا. إال ــى نحــو ممتل ــا وعل ذاتهــا تمام

أن وجودهــا، كينونتهــا الخاصــة، هــو بالنســبة إليهــا

ال شــيء وذلــك العالــم. فــي يقينــا األكثــر األمــر

مدعــاة فيــه للشــك؛ فــإن يقيــن النفــس بالنســبة

بذاتهــا، المباشــرة النفــس ذاتهــا، ومعرفــة إلــى

واألفاطونيــة األهميــة، البالغــة الســمات مــن

ــا أنفســنا أمــام بطبيعــة الحــال. وكذلــك، إن وجدن

فيلســوف يبيــن لنــا أن إنســانا، محرومــا مــن كل

اإلحساســات البرانيــة والجوانيــة، ســيتعرف مــع

ذلــك علــى نفســه فــي كينونتــه -فــي وجــوده- علينــا

أن ال نتــردد: فحتــى لــو قــال لنــا العكــس، فــإن هــذا

الفيلســوف أفاطونــي))4(.

لكــن مــا هــذا كل شــيء؛ فــإن النفــس بالنســبة

علــى التعــرف علــى تقتصــر ال األفاطونــي إلــى

ذاتهــا؛ ألنهــا إذ تتعــرف علــى نفســها، ولــو قليــا،

تكــن وإن صورتــه، ألنهــا كذلــك؛ اإللــه تعــرف

ناقصــة وبعيــدة؛ وفــي النــور اإللهــي الــذي يغمرهــا،

تعــرف الباقــي كلــه، وعلــى األقــل، كل مــا يمكنهــا

أن تعرفــه، ويســتحق مشــقة أن يعــرف.

إن النــور اإللهــي الــذي ينيــر كل إنســان يأتــي إلــى

الجســد مــن تخلصــت وقــد النفــس تســتعيد )41( وكذلــك كامــل ملكاتهــا. وبممارســة شــيء مــن العنــف علــى األلفــاظ، يمكننــا القــول إن النفــس محبوســة فــي جســدها وكأنهــا فــي

ســجن. إنهــا فــي ذاتهــا تــكاد تكــون مــاكا.

))4( نتعرف هنا على ابن سينا.

العالــم، نــور الحــق النابــع من اإلله-الحق، الشــمس

المعقولــة لعالــم الصــور المعقولــة، يطبــع فــي

النفــس انعــكاس الصــور المعقولــة الســرمدية،

ا اإللــه، صــور التــي صــارت صــور صــور أفاطــون

خلــق اإللــه العالــم لهــا وفقــا، الصــور التــي هــي مثــل

ونمــاذج ســرمدية لألشــياء المتغيــرة والعابــرة فــي

هــذا العالــم))4(.

– هنــا األشــياء هــذه بدراســة ليــس إنــه ثــم

موضوعــات العالــم المحســوس– تعــرف النفــس

ال المحسوســة األشــياء حقيقــة إن الحقيقــة.

للماهيــات موافقتهــا فــي وإنمــا فيهــا؛ توجــد

الســرمدية، للصــور المعقولــة الســرمدية لإللــه .

فهــذه هــي الموضــوع الحقيقــي للمعرفــة الحقــة:

هــذه الصــور المعقولــة، هــي صورة الكمــال، صورة

مديــرا التفكيــر يصــوب أن يجــب وإليهــا العــدد؛

ظهــره للعالــم المعطــى لحواســنا )األفاطونــي

يتجــه دائمــا نحــو الرياضيــات، والمعرفــة الرياضيــة

بالنســبة إليــه هــي دائمــا نمــوذج المعرفــة(، مــا لــم

ا، بقيــة، أو يــر فــي جمــال العالــم المحســوس أثــر

رمــزا لجمــال اإللــه الفائــق للطبيعــة.

اإلبســتيمولوجي التصــور كان إن ولكــن،

ينتظــم الوســيطة لألفاطونيــة والميتافيزيقــي

حــول النفــس، الصــورة اإللهيــة )image divine(؛

نهــج كل فــي يصــح ســوف التصــور هــذا فــإن

هــي التــي اإللــه، وجــود علــى فاألدلــة التفكيــر؛

مشــكلة مركزيــة فــي الميتافيزيقــا الوســيطة، لهــا

التميــز. بالغــة هيئــة التفكيــر هــذا فــي

))4( ينبغــي أن يفهــم القــارئ أن كلمــة "صــور"، التــي تكــررت فــي هــذه الفقــرة، تعنــي دائمــا "الصــور المعقولــة" )les Idées(، مثــل

أفاطــون )المترجم(.

121األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

الدليــل شــك بــا الفيلســوف سيســتعمل

وجــود مــن منطلقــا الخالــق وجــود يثبــت الــذي

النظــام، مــن يســتنتج الــذي ذلــك أو الخليقــة؛

ــم مــن الغائيــة الســائدة فــي العالــم، وجــود منظ

أســمى. وبعبــارة أخــرى، سيســتعمل األدلــة التــي

والغائيــة. الســببية مبــدأي إلــى تســتند

لكــن هــذه األدلــة ال تقــول شــيئا ذا بــال فــي

ذهــن األفاطونــي الوســيطي. وينبغــي للبرهــان

الجيــد أن يـبـــنى علــى نحــو آخــر. فينبغــي لــه أن

ال ينطلــق مــن العالــم المــادي والمحســوس:

فبالنســبة إلــى األفاطونــي، إنــه بالــكاد، أو بقــدر

جــدا بعيــدة يعكــس، بطريقــة جــدا، ضعيــف

وناقصــة جــدا، شــيئا مــن عظمــة اإللــه ومجــده،

حتــى مــن حيــث إنــه رمــز. إن تصــور اإللــه باعتبــاره

إنمــا المــادي والعابــر والفانــي، للعالــم خالقــا

فقيــر تصــور األفاطونــي، إلــى بالنســبة هــو،

جــدا، بالــغ الفقــر.

وأغنــى بكثيــر أعمــق أمــور أســاس علــى كا،

بهــذا الجديــر البرهــان يقــوم أن ينبغــي وأصلــب،

واقــع علــى أو النفــس واقــع علــى أي االســم،

الصــور المعقولــة. وبمــا أن الصــور المعقولــة أو

انعكاســاتها توجــد فــي النفــس، فيمكننــا أن نقــول

Itinerarium mentis( »إن »طريــق النفــس إلــى اإللــه

in Deum()44(، بالنســبة إلــى األفاطونــي الوســيطي،

يمــر دائمــا عبــر النفــس.

بدرجــات برهــان األفاطونــي البرهــان إن

الكمــال، برهــان يســتدل مــن هــذه الدرجــات علــى

)44( هــذا عنــوان لكتــاب ألفــه القديــس بونافانتــورا ســنة )))1 بعــد أن مــر بتجربــة روحيــة )المترجــم(.

مقيــاس والامتناهــي، األســمى الكمــال وجــود

ومنبعــه. والمتناهــي الجزئــي الكمــال

البرهــان األفاطونــي هــو البرهــان الــذي أشــرت

يســتنتج برهــان الحقيقــة، بصــورة ســابقا، إليــه

مــن وجــود الحقائــق الجزئيــة والخاصــة وجــود حــق

مطلــق وأســمى، حــق المتنــاه.

الوجــود المطلــق، الحــق المطلــق، الكمــال

اإللــه تصــور يتــم النحــو هــذا علــى المطلــق:

األفاطونــي. إلــى بالنســبة الامتناهــي

القديــس منــا يعل ]كمــا[ ذلــك، عــن وفضــا

بونافانتــورا، فلســنا بحاجــة إلــى التوقــف عنــد هــذه

النســبي الناقــص، المتناهــي، »بالدرجــات«: األدلــة

]صفــات[ تســتلزم مباشــرة )فــي نظــام الفكــر كمــا

فــي نظــام الوجــود( المطلــق والكامــل والامتناهــي.

ولهــذا بالضبــط نســتطيع نحــن الفانين تصــور اإلله،

صورتــه مــن انطاقــا اإللــه وجــود علــى والبرهنــة

القديــس ذلــك علمنــا كمــا نفســها، المعقولــة

نفحــص أن يكفــي :)Saint Anselme( أنســيلم

-علــى نحــو مــا- فكــرة اإللــه التــي نجدهــا فــي أنفســنا

-الكمــال المطلــق بــا توســط أن اإللــه نــرى لكــي

-بــل وجــوده إن يكــون. ال أن يمكــن ال واألســمى-

ــن فــي ــى نحــو مــا متضم وجــوده الضــروري- هــو عل

كمالــه الــذي ال يمكــن تصــوره بالفكــر غيــر موجــود.

خاصــة القــول إذن: أســبقية النفــس، ومذهب

يســند الــذي واإلشــراق المعقولــة، الصــور

والعالــم ألفاطــون، الفطــري المذهــب ويقــوي

باهتــا انعكاســا بوصفــه متصــورا المحســوس

بــل القبليــة، والنزعــة المعقولــة، الصــور لواقــع

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 122

والنزعــة الرياضيــة – تلكــم مجموعــة مــن الســمات

الوســيطة. لألفاطونيــة المميــزة

لنستدر اآلن نحو األرسطية.

العصــر أفاطونيــة إن قبــل مــن قلــت لقــد

أو أوغســطين القديــس أفاطونيــة الوســيط،

تكــن لــم بونافانتــورا القديــس أو بيكــون روجــر

أفاطــون. أفاطونيــة تكــون- أن -وهيهــات

ابــن أرســطية فحتــى األرســطية؛ وكذلــك شــأن

رشــد -ناهيــك عــن أرســطية ابــن ســينا-، أو -لكــي ال

نتحــدث إال عــن فاســفة العصــر الوســيط الغربي-

ــر أو القديــس تومــا ــر الكبي أرســطية القديــس ألبي

هــي -كذلــك- تكــن لــم البرابانســي))4(: ســيغر أو

أرســطو. أرســطية

علــى أن هــذا األمــر طبيعــي؛ فالمذاهــب تتغيــر

مــا كل التاريخــي، وجودهــا مجــرى فــي وتتعــدل

الميتــة للزمــان والتغيــر. واألشــياء يحيــا يخضــع

والمنقرضــة وحدهــا تظــل هــي ذاتهــا بــا حــراك.

مــا كان يمكــن لألرســطية الوســيطية أن تكــون

أرســطية أرســطو، ال لشــيء ســوى أنهــا عاشــت

فــي عالــم مختلــف: فــي عالــم نعلــم -كمــا قلــت ذلــك

أعــاه- أنــه لــم يكــن فيــه ومــا كان يمكــن أن يكــون

فيــه إال إلــه واحــد.

))4( Siger de Brabant )حوالــي 40)1- حوالــي 80)1(: كان أســتاذا بكليــة الصنائــع، جامعــة باريــس، إبــان ســتينات وســبعينات عــن المدافــع األرســطي التيــار تزعــم عشــر. الثالــث القــرن نمــط كونهــا وعــن الاهــوت، عــن الفلســفة اســتقالية الخيــر األســمى، وعــن أطروحــات بذاتــه لتحصيــل حيــاة كاف فلســفية أخــرى )قــدم العالــم، إنــكار العنايــة، وحــدة العقــل، إنــكار الحريــة...( تعرضــت إلدانــة الســلطة الكهنوتيــة ممثلــة رومــا إلــى اســتدعي و77)1. 1(70 ســنتي باريــس بمطرانيــة للتحقيــق فــي تهــم الهرطقــة الموجهــة إليــه. وأثنــاء إقامتــه الجبريــة قــام مســاعده، الــذي قيــل إن نوبــة جنــون اجتاحتــه،

بقتلــه.

وصلــت الكتابــات األرســطية إلــى الغــرب -أوال

عبــر إســبانيا، بترجمــات مــن العربيــة، ثــم فيمــا بعــد

بنقــول مــن اليونانيــة مباشــرة- إبــان القــرن )1، بــل

ربمــا حوالــي نهايــة القــرن )1.

ومنــذ 10)1: حظــرت الســلطات الاهوتيــة قــراءة

-أي: دراســة- طبيعيــات أرســطو. وهــذا دليــل أكيــد

علــى أنهــا كانــت معروفــة منــذ وقــت طويــل بمــا

فيــه الكفايــة لكــي يحصــل الشــعور باآلثــار الضــارة

لتعليمهــا.

ظــل الحظــر حبــرا علــى ورق؛ فانتشــار أرســطو

أو المــدارس، انتشــار مــع جنــب إلــى جنبــا ســار

بدقــة أكبــر: مــع انتشــار الجامعــات.

وهــذا يكشــف لنــا واقعة مهمة: الوســط الذي

ذاعــت فيــه األرســطية ليــس هــو نفــس الوســط

]المبثوثــة األفاطونيــة المذاهــب تشــرب الــذي

التــي والجاذبيــة الوســيطة، األوغســطينية فــي[

مارســتها ليســت هــي نفســها كذلــك))4(.

قلــت آنفــا إن األرســطية ذاعــت فــي الجامعات؛

فهــي تتوجــه إلــى أنــاس متعطشــين للمعرفــة.

إنهــا علــم قبــل أن تكــون أي شــيء آخــر، قبــل حتــى

أن تكــون فلســفة؛ وإنمــا بفضــل قيمتهــا الخاصــة

معرفــة علميــة فرضــت فــي كونهــا المتمثلــة

نفســها، وليــس بفضــل قربهــا مــن موقــف دينــي.

ال؛ بــل إن األرســطية -بخــاف ذلــك- تبــدو أوال غيــر

قابلــة للتوافــق مــع الموقــف الروحانــي للمســيحي

التــي فالمذاهــب الجيــد؛ للمســلم كمــا الجيــد

)46( Cf. Robert, G. )1933(.les Écoles et l’enseignement de la théologie pendant la première moitié du XIIe siècle )2e éd(. Ottawa-Paris.

123األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

بينهــا- مــن واحــدة العالــم –وســرمدية تعلمهــا

تبــدو مضــادة بصراحــة لحقائــق الديــن الموحــى)47(،

بــل وللتصــور األساســي لإللــه الخالــق. ومــن هنــا

ــة نفهــم أن الســلطة أو العقيــدة القويمــة، الديني

حيثمــا وجــدت أدانــت أرســطو. كمــا أن فاســفة

ــه -أي: ــى تأويل ــن عل ــوا مجبري العصــر الوســيط كان

علــى إعمــال النظــر فيــه- مــن جديــد فــي اتجــاه جديــد

متوائــم مــع العقيــدة الدينيــة. وذلــك جهــد لــم يــؤت

أكلــه إال جزئيــا مــع ابــن ســينا)48(، ولكنــه آتــى أكلــه

علــى نحــو باهــر مــع القديــس تومــا؛ فأرســطو -وقــد

ــر))4( علــى نحــو مــا علــى يــد تومــا األكوينــي- صــار تنص

ركيــزة التعليــم فــي الغــرب.

لكن لنعد إلى الموقف الفكري لألرسطية:

فــي الرغبــة هــو يدفعهــا مــا إن قلــت: لقــد

المعرفــة العلميــة، وهــم الدراســة. ومــا تدرســه

ليــس هــو النفــس، بــل العالــم –الفيزيــاء، العلــوم

الطبيعيــة...؛ ألن العالــم، بالنســبة إلــى األرســطي،

ليــس انعكاســا للكمــال اإللهــي، بالــكاد لــه متانــة،

أو كتابــا مرمــوزا يمكننــا فيــه أن نفــك -وعلــى نحــو

ســيء أيضــا- شــفرة مجــد الســرمدي. لقــد تمتــن

العالــم علــى نحــو مــا: فهــو »عالــم«، أو طبيعــة، أو

مجموعــة مــن الطبائــع متراتبــة ومنظمــة تنظيما

جيــدا، مجموعــة قــارة وثابتــة وتمتلــك كينونة خاصة،

بــل وتمتلكهــا علــى نحــو مخصــوص. ال ريــب فــي

الديــن فكــرة مــع تتوافــق ال الحقيقــة فــي األرســطية )47(نفســها. الموحــى

الحقيقــي، الســري، والمســتور ابــن ســينا يكــون مذهــب )48( قــد بعنايــة عــن العــوام –وهــذا مــا ينطبــق علــى الفارابــي- غيــر مكتــرث

بالديــن، بــل ومناقضــا لــه، كمــا هــو شــأن مذهــب ابــن رشــد.

))4( أو "تمســح": أي صــار نصرانيــا، أو أضفيــت عليــه صبغــة )المترجــم(. مســيحية

أن هــذه الكينونــة، -بالنســبة إلــى أرســطي وســيطي-

مســتمدة مــن اإللــه، أي أن اإللــه هــو ســببها، ال، بــل

ــة -التــي هــي مــدد ــر أن هــذه الكينون هــو خالقهــا؛ غي

مــن اإللــه- يمتلكهــا العالــم أو الطبيعــة أو الخليقــة،

بمجــرد مــا أن يتلقاهــا. إنهــا لــه ولــم تعــد للــه.

هــذا وكائنــات – العالــم هــذا أن فــي ريــب ال

للصيــرورة وخاضــع ومتغيــر، متحــرك العالــم–

وجريــان الزمــن، ال ريــب فــي أنــه بذلــك يتعــارض

مــع كينونــة اإللــه الثابتــة والفــوق زمانيــة، غيــر أن

العالــم -وإن كان متحــركا وزمانيــا- لــم يعــد عابــرا،

ــا- الــدوام. بخــاف ذلــك: وحركيتــه ال تســتبعد -بتات

يمكننــا القــول إنــه بالنســبة إلــى األرســطي كلمــا

تغيــر هــذا كلمــا بقــي نفــس الشــيء؛ فــإذا كانــت

ــر، وتظهــر وتختفــي فــي العالــم، فــإن األفــراد تتغي

هــي تظــل الطبائــع أن ذلــك يتغيــر: ال العالــم

نفســها. ومــن أجــل ذلــك بالضبــط تكــون طبائــع؛

ومــن أجــل ذلــك تكمــن حقيقــة األشــياء فيهــا.

وفكــر األرســطي ليــس مثــل فكــر األفاطونــي

الوســيطي متجهــا بتلقائيــة نحــو ذاتــه، ]بــل[ إنــه

ب علــى نحــو طبيعــي نحــو األشــياء. ثــم إن مصــو

األشــياء -أو قــل: وجــود األشــياء- هــو األمــر األكيــد

اإلنســاني للذهــن األول والفعــل إليــه. بالنســبة

والخــاص بــه ليــس هــو إدراك الــذات، بــل هــو إدراك

الموضوعــات الطبيعيــة: كــراس، طــاوالت، أنــاس

آخــرون ..، فــا يتوصــل إلــى التعــرف علــى ذاتــه إال

ــو، باســتدالل. بطريــق ملـتـ

بالتأكيــد لكنــه نفــس، -بــا شــك- لألرســطي

إنســان. إنــه ليــس نفســا.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 124

وعلــى الســؤال الســقراطي: مــن أكــون؟ -أي:

مــا اإلنســان؟- ســيقدم األرســطي جوابــا مختلفــا

ليــس اإلنســان األفاطونــي. جــواب عــن تمامــا

فانيــة غيــر نفســا جســد، فــي محبوســة نفســا

-بحســب يكســر تصــور فهــذا فــان؛ جســم فــي

ــن اإلنســاني. إن اإلنســان األرســطية- وحــدة الكائ

.)animale rationalemortale( وفــان عاقــل حيــوان

ليــس اإلنســان شــيئا غريبــا أخــرى: وبعبــارة

عــن العالــم، ومتفوقــا عليــه تفوقــا ال نهائيــا بمــا

طبيعــة طبائــع، بيــن طبيعــة إنــه نفــس. هــو

تحتــل موضعــا خاصــا فــي تراتبيــة العالــم، موضعــا

ــه مــع ذلــك ــة بــا ريــب، إال أن ــا بمــا فيــه الكفاي عالي

يوجــد فــي العالــم.

وبقــدر مــا أن مــدار فلســفة األفاطونــي علــى

مفهــوم النفــس، بقــدر مــا أن فلســفة األرســطي

مدارهــا علــى مفهــوم الطبيعــة. غيــر أن الطبيعــة

تشــمل مــا بقــدر جســده تشــمل اإلنســانية

معــا. منهمــا المؤلفــة الوحــدة إنهــا النفــس؛

وفضــا عــن ذلــك: فــإن األفعــال اإلنســانية -كلهــا

أو معظمهــا- أفعــال مختلطــة؛ وفيهــا كلهــا -أو

فــي معظمهــا وســأعود بعــد ذلــك إلــى االســتثناء-

يتدخــل الجســد بوصفــه عامــا أساســيا ال غنــى

لــن جســده اإلنســان فقــد إن وضروريــا. عنــه،

يعــود إنســانا، لكنــه لــن يكــون أيضــا مــاكا. وإن

فســيكون فقــط: نفســا يكــون أن علــى اقتصــر

ذلــك فهــم عــدم وفــي تــام. وغيــر ناقصــا كائنــا

األفاطونــي. يكمــن خطــأ

لكــن، مــا النفــس؟ يقــول تعريــف شــهير: إنهــا

صــورة لجســم عضــوي ذي حيــاة بالقــوة)0)(؛

وهــذا تعريــف يعبــر بطريقــة رائعــة عــن التعالــق

الجوهــري بيــن الصــورة -أي النفس-0وبيــن المــادة

إن لكــن، اإلنســاني. المركــب فــي الجســم- -أي

ــي)1)(- ــى أفاطون كان ال شــيء أســهل -بالنســبة إل

مــن البرهنــة علــى خلــود النفــس، طالمــا أنــه تــم

تصورهــا منــذ البدايــة علــى أنهــا شــيء كامــل وتــام،

إلــى بالنســبة ذلــك مــن أصعــب شــيء ال فإنــه

أرســطي. ومــا تمكــن تومــا األكوينــي مــن أن يمتثــل

لــروح وفــي غيــر بصيرورتــه إال الديــن، لحقيقــة

األرســطية التاريخيــة، أو لنقــل: بإصــاح وتحويــل

أرســطية أرســطو فــي هــذه المســألة )كمــا فــي

مــن تمامــا جديــد نــوع وإبــداع أخــرى(، مســائل

الصــور الجوهريــة التــي يمكنهــا أن تســتغني عــن

المــادة.

لكــن لنعــد إلــى اإلنســان وأفعالــه. إن اإلنســان

رأينــا- هــو -بالطبــع- كائــن مختلــط، مركــب -كمــا

مــن نفــس وجســد. والحــال أن كل أفعــال كائــن مــا

يجــب أن تتوافــق وطبيعتــه. وإذن فالفعل الخاص

أن يمكــن ال المعرفــة- التعقــل، -أي: باإلنســان

ال يســتلزم طبيعتــه كلهــا -أي: جســمه ونفســه-

فــي اآلن نفســه. ثــم إن التعقــل اإلنســاني ليــس

فقــط يتبــدى لنــا علــى أنــه يبتــدئ بــإدراك األشــياء

)0)( هــذا هــو التعريــف األرســطي الشــهير للنفــس، الــوارد فــي الفصــل األول مــن المقالــة الثانيــة مــن كتــاب "فــي النفــس": »النفــس هــي جوهــر بمثابــة صــورة )eidos( لجســم طبيعــي ذي .)entéléchie( حيــاة بالقــوة. والواقــع أن هذا الجوهر كمال أولفهــي إذن كمــال أول لجســم لــه هــذه الطبيعــة... لهــذا كانــت النفــس كمــاال أول لجســم طبيعــي ذي أعضــاء.« ))41 أ؛ تراجــع ترجمــة األهوانــي، القاهــرة، المركــز القومــي للترجمــة، ط. )، )01)،

صــص. )4-)4(. )المترجــم(.

)1)( لكــي يخلــع األفاطونــي الوســيطي علــى النفــس طابــع الجوهريــة، ارتــأى منحهــا مــادة روحانيــة.

125األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

الماديــة، ومــن ثمــة بــاإلدراك الحســي، لكــن هــذا

ــه. ــة وال تتجــزأ من العنصــر يشــكل لحظــة ضروري

إلــى -بالنســبة المحســوس مجــال إن

بالمعرفــة الخــاص المجــال هــو األرســطية-

ــم. ال ــاب اإلحســاس يغيــب العل اإلنســانية. فبغي

ريــب فــي أن اإلنســان ال يقتصــر علــى أن يحــس، بــل

يهيــئ اإلحســاس. فهــو يتذكــر، ويتخيــل، وبهاتيــن

الوســيلتين ينعتــق ســلفا مــن ضــرورة الحضــور

الفعلــي للشــيء المــدرك حســيا. ثــم -وبدرجــة عليا-

يجــرد عقلــه صــورة الشــيء المــدرك حســيا مــن

ــة فيهــا علــى نحــو المــادة التــي تكــون ]الصــورة[ حال

علــى القــدرة -أي هــذه التجريــد وملكــة طبيعــي،

التعقــل علــى نحــو مجــرد- هــي التــي تمكــن اإلنســان

إن الحيوانــات. عــن وتميــزه العلــم إنشــاء مــن

التعقــل المجــرد الخــاص بالعلــم بعيــد جــدا عــن

Nihil est( اإلحســاس. غيــر أن الصلــة تظــل قائمــة

in intellectu quod non prius fuerit in sensu()))(. ثــم إن

العقــل الروحانيــة ليســت فــي متنــاول الكائنــات

اإلنســاني، أقلــه علــى نحــو مباشــر، وال يمكنــه

هــذا ينطبــق باالســتدالل. إال إليهــا يتوصــل أن

األمــر علــى ســائر الكائنــات الروحانيــة، بمــا فــي ذلــك

اإلنســانية. النفــس

وهكــذا، إذا كانــت النفــس األفاطونيــة تــدرك

ذاتهــا مباشــرة وبــا توســط، فإنمــا باالســتدالل

إلــى معرفــة األرســطية النفــس تتوصــل فقــط

مــن الســببي االســتدالل مــن بنــوع أي ذاتهــا،

)))( "ال شــيء فــي العقــل لــم يكــن مــن قبــل فــي الحــواس": المشــائيون، أو األرســطيون المدرســيون صاغهــا أطروحــة اإلمبريقيــون وظفهــا وقــد األكوينــي، تومــا رأســهم وعلــى لــوك ودافيــد هيــوم وبيركلــي...( فــي العصــر الحديــث )جــون

)المترجــم(. مختلــف بمعنــى

المســبب إلــى الســبب، مــن الفعــل إلــى الفاعــل.

اإللــه- -صــورة األوغســطينية النفــس أن وكمــا

لهــا أو تجــد فــي ذاتهــا شــيئا مــا يمكنهــا مــن تصــور

اإللــه، مــن تكويــن فكــرة ناقصــة وبعيــدة -ال شــك

فــي ذلــك-، ولكنهــا -مــع ذلــك- فكــرة عــن اإللــه الذي

هــو نموذجهــا وأصلهــا، فــإن هــذا الطريــق منســد

تمامــا بالنســبة إلــى األرســطي. إنــه ال يســتطيع

ــه، والبرهنــة علــى وجــوده إال مــن ــى اإلل التوصــل إل

خــال اســتدالل، مــن خــال اســتدالل ســببي.

ثــم إن جميــع أدلتــه علــى وجــود اإللــه مســتندة

إلــى اعتبــارات ســببية، وتنطلــق كلهــا مــن وجــود

األشــياء والعالــم الخارجــي. يمكننــا أن نذهــب أبعــد

مــن ذلــك: يحصــل األرســطي علــى مفهــوم عــن

اإللــه مــن خــال برهنتــه وجــوده. وهــذا بالضبــط

هــو الطريــق المعاكــس -كمــا رأينــا- بالنســبة إلــى

األفاطونــي.

تبرهــن أدلــة وجــود اإللــه عنــد األرســطي علــى

وجــوده بمــا هــو ســبب أول أو غاية أخيــرة للكائنات.

سلســلة مــد اســتحالة مبــدأ علــى قائمــة وهــي

ســببية إلــى مــا ال نهايــة)))(، والصعــود بــا نهايــة

مــن المعلــول إلــى العلــة: فابــد مــن التوقــف فــي

مــكان مــا، وإثبــات ســبب هــو نفســه غيــر مســبب،

غيــر معلــول.

فنبنــي بطريقــة مماثلــة، نســتدل أن يمكننــا

مــن بــل )الفاعلــة(- األســباب مــن سلســلة -ال

الغايــات، فينبغــي أن نضــع فــي مــكان مــا غايــة

)))( يتعلق األمر طبعا بسلســلة محكمة الترتيب، ال بسلســلة زمنيــة؛ فهــذه األخيــرة -بخــاف األولــى- يمكــن مدهــا مــدا غيــر

محــدود، ثــم إن الخلــق فــي الزمــان أمــر غيــر قابــل للبرهنــة.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 126

أخيــرة، غايــة فــي ذاتهــا. ويمكننــا كذلــك أن نفحــص

الســببية، للعاقــة الخاصــة الجوانــب بعــض

أهميــة لهــا التــي الحركــة ظاهــرة مــن وننطلــق

عاليــة: ذلــك أن كل شــيء فــي األرســطية يتحــرك،

وال شــيء يتحــرك مــن ذاتــه، وكل حركــة تفتــرض

محــركا. وعندئــذ -مــن محــرك إلــى محــرك- ســنصل

والــذي يتحــرك، ال أول أخيــر، محــرك إلــى محــرك

ســيبدو فــي اآلن نفســه الغايــة األولــى أو األخيــرة

للكائنــات. ويمكننــا أخيــرا أن نســتدل انطاقــا مــن

عرضيــة الكائنــات -وهــو الدليــل المفضــل عنــد ابــن

ســينا- فنـــبين أن سلســلة الكائنــات العرضيــة ال

ــا ــر محــدود، وأن علين يمكــن أن تمتــد علــى نحــو غي

أن نوقفهــا فــي مــكان مــا عنــد كائــن غيــر عرضــي

ضــروري-)4)(. -أي

يتضــح جيــدا أن كل هــذه األدلــة -ماعــدا ربمــا

الغايــة بوصفــه اإللــه لنــا يعــرض الــذي الدليــل

والموضــوع األســمى الخيــر للكائنــات، األخيــرة

األخيــر، أو األول، لشــوقها وحبهــا- ال تقدمــه لنــا

إال علــى أنــه ســبب، ليــس حتــى خالقــا بالضــرورة

كاف غيــر ذلــك بــدا كــم نتذكــر ونحــن للعالــم.

لألفاطونــي.

األرســطي عنــد ســنجد أننــا فــي ريــب ال

ولكــن والكينونــة... الكمــال بدرجــات األدلــة

هاهنــا أيضــا نجــد األفاطونــي يقفــز مباشــرة

المتناهــي مــن المطلــق، إلــى النســبي مــن

يســتعمل األرســطي بينمــا الامتناهــي، إلــى

مــن نحــو مباشــر علــى أحيانــا الســينوي يســير البرهــان )(4(مــن كثيــرا هنــاك أن نعلــم إننــا الضــروري. إلــى العرضــي

ســينا. ابــن عنــد األفاطونيــة

الدرجــات مســتندا هاهنــا أيضــا إلــى اســتحالة

متناهيــة. ال سلســلة

)Duns Scot( ســكوت دانــس إن ثــم

-منطقــي المدرســة البــارع والدقيــق، وهــو فــي

عــادة- يعتقــد ممــا أكثــر أفاطونــي العمــق

إلــى تفضــي ال األدلــة هــذه أن إلــى يذهــب

شــيء وال يمكــن أن تفضــي. فبانطاقنــا مــن

المتناهــي، وباســتنادنا إلــى المبــدأ الــذي يوجــب

التوقــف فــي مــكان مــا، ال يمكننــا البرهنــة علــى

وجــود إلــه ال متنــاه. وقــد فعــل أرســطو ذلــك وال

شــك، وكذلــك ابــن ســينا. لكــن ابــن ســينا -مــن

جهــة- لــم يتقيــد تقيــدا صارمــا باألرســطية كمــا

ابــن ســينا دانــس ســكوت جيــدا، ذلــك الحــظ

– ســينا ابــن فــإن ذلــك عــن وفضــا مؤمــن.

وأرســطو كذلــك- يفتــرض صراحــة عالمــا قديما؛

ــاه للتمكــن مــن حفــظ ــد مــن محــرك ال متن فاب

الحركــة حفظــا أبديــا. لكــن إن كان العالــم ليــس

قديمــا، وكان متناهيــا، فــإن محــركا متناهيــا كاف

وواف...، وأخيــرا: فــإن أرســطو -األكثــر منطقيــة

المحــرك إلهــه ابــن ســينا- ال يجعــل مــن مــن

إلهــا خالقــا. ابــن ســينا -وكذلــك القديــس تومــا-

ينطلقــان مــن إلــه خالــق لهــذا أيضــا يصــان إليــه،

لمــا كان أحدهمــا مســلما واآلخــر مســيحيا فقــد

الحقيقيــة)))(. أرســطو ــرا فلســفة غي

أن -علــى محــق ســكوت دانــس أن أعتقــد

الوســيطة األرســطية إن كثيــرا- يهمنــا ال ذلــك

)55( Cf. Gilson, E.)1938(. » Les Seize Premiers Theoremata et la pensée de Duns Scot «, Archives d’Histoire doctrinale et littéraire au Moyen Age, vol. 12-13, Paris.

127األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

ليســت أرســطية أرســطو؛ فقــد هيمنــت عليهــا

الدينيــة، الخالــق اإللــه فكــرة وحولتهــا وغيرتهــا

اإللــه الامتناهــي. غيــر أنهــا وفيــة بمــا فيــه الكفايــة

بعنــف- وحتــى تعــارض- لكــي معلمهــا لتعاليــم

الوســيطية. األفاطونيــة نظريــات

الصــور بتصــور قبلــت أنهــا فــي ريــب ال

اإللهــي الذهــن فــي الســرمدية المعقولــة

-وهــو تصــور أفاطونــي وأفاطونــي محــدث-،

غيــر أن هــذه الصــور المعقولــة إنمــا هــي صــور

إلهيــة، وليســت صورنــا نحــن، وال يصــل أي نــور

منهــا إلينــا. ولكــي نســتنير: لدينــا نورنــا، نورنــا

اإلنســاني، العقــل الخــاص بنــا. ال ريــب فــي أنــه

أتانــا مــن اإللــه -مثــل أي شــيء آخــر- ولكنــه -إن

تعكــس مــرآة ليــس التصويــر- هــذا لــي جــاز

النــور اإللهــي، بــل هــو مصبــاح أوقــده اإللــه فينــا،

ويضــيء اآلن بنــوره الخــاص. وهــذا النــور كاف

وواف لكــي يتــاح لنــا أن نضــيء – أي أن نعــرف-

مــا أنــه العالــم. علــى فــي نتوجــه العالــم وأن

ــة ــه يكفــي أيضــا للبرهن جعــل إال لذلــك. كمــا أن

ــا علــى ــي أتين ــك الت -بمســاعدة اســتدالالت كتل

عــرض مامحهــا- علــى وجــود إلــه خالــق. إنــه ال

يكفــي لكــي يتــاح لنــا تكويــن فكــرة حقيقيــة عنــه،

فكــرة مــن شــأنها أن تجعــل أدلــة األفاطونــي

صحيحــة بالنســبة إلينــا.

وهكــذا فالدليــل بالصــورة المعقولــة –دليــل

أنســيلم- ســيكون جيــدا بالنســبة إلــى مــاك، أي

إلــى كائــن روحانــي صــرف، كائــن مــن بالنســبة

ــة عــن شــأنه أن يمتلــك هــذه الصــورة المعقول

اإللــه التــي يفترضهــا القديــس أنســيلم. إنهــا ال

ــن ال ــا نحــن الذي تصلــح فــي شــيء بالنســبة إلين

نمتلكهــا.

إننــا نــرى جيــدا الشــيء نفســه دائمــا، الفكــرة

العقــل اإلنســانية، الطبيعــة نفســها: المركزيــة

اإلنســاني، ولــو كنــت أدرس األخــاق، لــكان األمــر

كائــن طبيعــة اإلنســاني... بالســلوك يتعلــق

مركــب، أو عقلــه أو ســلوكه، كائــن نفســه مرتبطــة

قابــل غيــر يكــون يــكاد وطيــدا ارتباطــا بجســده

للفصــل.

ولكــن -وهــذا أمــر طريــف- ثمــة مســألة تصــل

الطبيعــة وحــدة كســر إلــى األرســطية فيهــا

القديــس فيهــا عمــل مســألة وهــي اإلنســانية،

تومــا األرســطي غيــر الوفــي لمعلمــه -بــل وضــده-

الوحــدة. اســتعادة علــى

يقــدر الفيلســوف األرســطي التعقــل تقديــرا

كبيــرا ، والمقصــود هــو التعقــل الحقيقــي طبعــا.

أفاطــون؛ عــن مختلفــا تفســيرا يفســره وهــو

النشــأة ســيرورة فــي وهــو لنــا يظهــره فهــو

بمشــقة وببــطء انطاقــا مــن اإلحســاس الخــام.

وهــذا مــا يجعــل تقديــره لــه يــزداد فــي العمــق. فــأن

يتمكــن إنســان -أي كائــن مركــب- مــن التوصــل إلــى

-بــل العلميــة الحقيقــة وإلــى الحقيقــي، التعقــل

والميتافيزيقيــة- فذلــك يغمــره بنشــوة واندهــاش

ال حــدود لهمــا.

ذلــك أن التعقــل بالنســبة إلــى األرســطي: هــو

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 128

ماهيــة اإللــه ذاتهــا)))(. فإلهــه -كمــا نعلــم- عقــل

أي فــي يجــد ذاتــه، ألنــه ال محــض، عقــل يعقــل

مــكان موضوعــا جديــرا بــأن يعقــل مــن قبلــه.

لكــن العقــل فــي اإلنســان هــو أيضــا شــيء

-وإن األرســطي أن ذلــك يــكاد)7)(؛ أو إلهــي، مــا

مــن انطاقــا يتشــكل وهــو لنــا يظهــره كان

ذلــك مــع فإنــه آنفــا- قلــت كمــا المحســوس،

درجــة وعنــد معينــة، لحظــة فــي أنــه ياحــظ

فالتعقــل تمامــا. المحســوس يتجــاوز معينــة،

التعقــل الميتافيزيقــي، أو الفيلســوف –تعقــل

األساســية القوانيــن ويصــوغ يــدرك الــذي

ــة ــة عقلي ــه– فاعلي ــة والعقــل الواعــي بذات للكينون

بحتــة وتامــة. وعندئــذ، كيــف يمكــن أن تنتمــي إلــى

كائــن إنســاني؟ ال يقــدم أرســطو جوابــا واضحــا

عــن هــذا الســؤال المهــم. ثمــة مقطــع شــهير

يقــول لنــا إن العقــل الفعــال محــض وغيــر فــان،

ــا إلــى الفصــل التاســع مــن مقالــة الــام )))( يشــير كويــري هن la( اإللهــي العقــل ماهيــة أرســطو حــدد حيــث ،)lambda(ــا: »إن العقــل األســمى nature de l'Intelligence divine( قائإذن إنمــا يعقــل ذاتــه، ألنــه ليــس هنــاك مــا هــو أســمى منــه،

وعقلــه إنمــا هــو عقــل العقــل«.» L'Intelligence suprême se pense donc elle-même, puisqu'elle est ce qu'il y a de plus excellent, et sa Pensée est pensée de pensée. « )1074b 34(.تنــاول شــراح وفاســفة تأثيــرا هائــا فــي أثــر هــذا الوصــف العلــم لمســألة الوســيط والعصــر المتأخــر القديــم العصــر

)المترجــم(. اإللهــي.

)7)( يشــير ألكســندر هنــا إلــى مقاطــع شــهيرة مــن "األخــاق إلــى نيقوماخــوس" )المقالــة العاشــرة، الفصــل الســابع، 1177أ-

1178أ(. )المترجــم(.

خــارج)8)(. مــن إلينــا وآت مفــارق

تبــارزت أجيــال مــن الشــرح حــول هــذا النــص،

بتقديــم تأويــات بالغــة االختــاف وعــدم الرجحــان.

حــل ممكنــان: حــان إال هنــاك ليــس وإجمــاال:

اإلســكندر األفروديســي)))( الــذي ســيتبناه العــرب

بعــد تعديلــه، وحل ثامســطيوس)0)( الذي ســيتبناه

القديــس تومــا بعــد هضمــه وتكميلــه.

وإنمــا واحــد، بمقطــع الواقــع فــي األمــر يتعلــق ال )(8(بمقطعيــن مــن كتابيــن مختلفيــن: فيمــا يخــص ســمات العقل يمكــن وخالــد، ومفــارق، أنــه محــض، فــي المتمثلــة الفعــال الرجــوع إلــى المقطــع اآلتــي مــن كتــاب "فــي النفــس": » هــذا العقــل ]أي الــذي يفعــل –ينتــج- التعقــل[ مفــارق وغيــر ممتــزج وغيــر منفعــل، ألنــه بالماهيــة فعــل... ومــن المســتبعد أن هــذا العقــل يعقــل تــارة، وال يعقــل تــارة أخــرى. ومــا أن يفــارق، يرتــد إلــى ماهيتــه؛ وهــذا فقــط هــو الخالــد واألبــدي« )0)4 أ 4-17)(. راجــع ترجمــة األهوانــي، مرجــع ســبق ذكــره، ص )11. راجــع أيضــا

ترجمــة بوديــوس )Richard Bodéüs(، ضمــن:Aristote.Œuvres complètes )2014(. sous la direction de Pierre Pellegrin, Paris : Flammarion, p. 1028."مــن اإلنســان إلــى العقــل قــدوم يخــص مســألة أمــا فيمــا نشــوء "فــي كتــاب فــي أرســطو إليهــا تطــرق فقــد خــارج": يفحــص الثانيــة(. المقالــة مــن الثالــث )الفصــل الحيوانــات" أرســطو هنــا صعوبــة يمكــن صياغتهــا كاآلتــي: مــن أيــن تأتــي ــا؟ هــل توجــد ــوان حيوان ــي بهــا يكــون الحي النفــس الحاســة التأم ال فــي المنــي؟ يقــدم المعلــم األول العديــد مــن االحتمــاالت التــي المبــادئ أن كل يؤكــد ثــم النفــس، قــوى يخــص فيمــا أن مثلمــا جســم، بــا توجــد أن يمكــن ال جســماني، فعلهــا بالنســبة المســتحيل ومــن رجليــن. بــا مســتحيل المشــي إلــى قــوى كهــذه أن تدخــل مــن خــارج؛ »فبمــا أنهــا غيــر قابلــة لانفصــال عــن الجســم، فمــن غيــر الممكــن أن تدخــل بنفســها ]بــدون جســم[، وال أن تدخــل بواســطة جســم؛ ألن المنــي مــا وحــده العقــل أن إذن يبقــى المتحــول. الغــذاء بقيــة إال هــو يدخــل مــن خــارج، وأنــه وحــده إلهــي؛ ألن فاعليتــه ليــس لهــا أي

شــيء مشــترك مــع فعــل جســماني« )))7 أ- ب(.Aristote, La Génération des animaux, trad. David Lefebre, in, Aristote, Œuvres complètes, op.cit., pp. 1622-1623.

عــاش مشــائي، فيلســوف :Alexandre d’Aphrodise )(((فــي القــرن الثانــي الميــادي، اشــتهر بشــرحه ألعمــال أرســطو

)المترجــم(.

دولــة رجــل :)(88 حوالــي – (70 )حوالــي Themistius )(0(ومــات الصغــرى، آســيا فــي ولــد وفيلســوف وخطيــب ألرســطو الشــارحة بأعمالــه اشــتهر القســطنطينية. فــي

جــم(. )المتر

129األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

ســوف نفحــص فحصــا موجــزا هذيــن الحليــن؛

»العقــل هــو مــا بدقــة لنحــدد ذلــك، قبــل لكــن

الفعــال)1)(«.

فــي عقلنــا أن هنــاك جــدال فيــه إنــه ألمــر ال

عنصــرا فاعــا وجانبــا منفعــا. فأرســطو إذن يميــز

فينــا بيــن عقليــن: عقــل فعــال، وعقــل منفعــل.

األول هــو عقــل المعلــم، والثانــي عقــل التلميــذ.

ــم، والثانــي هــو الــذي يتعلــم، األول هــو الــذي يعل

األول هــو الــذي يمنــح، والثانــي هــو الــذي يتلقــى.

ــا ــذي يعلمن إن أرســطو، وبخــاف أفاطــون ال

نعلمــه ســلفا)))(، مــا إال نتعلــم أن أنــه ال يمكــن

يذهــب إلــى أنــه ال يمكــن أن نعــرف إال مــا تعلمنــاه،

وأيضــا إلــى أنــه ال يمكــن أن نتعلــم شــيئا إال إن كان

هنــاك أحــد مــا قــد تعلمــه قبلنــا، يعلمــه وينقــل

ــا- هــذه العلــم. ــا -يفــرض علين إلين

ولهــذا فــإن التعقــل –الــذي يؤولــه أفاطــون

علــى أنــه حــوار النفــس مــع ذاتهــا، حــوار يجعلهــا

تكتشــف بذاتهــا، فــي ذاتهــا، الحقيقــة المفطــورة

قبــل اإلســتاغيري علــى غــرار فيهــا- يتصــور مــن

)1)( فكــرة العقــل الفعــال بالغــة العواصــة، وأرســطو نفســه وجــد نفســه مرغمــا علــى عقــد مقارنــة، أو لنقــل علــى إجــراء مماثلــة: إدراك الحقيقــة مــن قبــل العقــل أمــر مماثــل لــإلدراك الحســي، والعقــل يســلك إزاء موضوعــه تقريبــا مثلمــا تفعــل العيــن إزاء موضوعهــا. إنــه تعقــل "بالقــوة"، مثلمــا العيــن بصــر "بالقــوة". ولكــن، مثلمــا أنــه ال يكفــي امتــاك عينيــن لإلبصــار، ــا مــن دون تدخــل وأن أي إبصــار فعلــي )بالفعــل( ليــس ممكنــا امتــاك عقــل "بالقــوة للمعرفــة" ــك ليــس كافي الضــوء، كذللكــي تترتــب علــى ذلــك معرفــة: البــد كذلــك مــن تدخــل أو فعــل الــذي عامــل خــاص هــو العقــل الفعــال أو العقــل بالفعــل، يلعــب إذن -بالنســبة إلــى العقــل اإلنســاني- الــدور الــذي يلعبــه

الضــوء بالنســبة إلــى العيــن.

)))( يشــير كويــري هنــا إلــى نظريــة أفاطــون فــي أن العلــم )المترجــم(. "مينــون" محــاورة فــي والمبســوطة تذكــر،

درس؛ درس ينجــز مــن أجــل الــذات، أي درس ينجــزه

العقــل الفعــال للعقــل المنفعــل.

إنــه لمــن الصعوبــة بمــكان -ســلفا- أن يكــون

]اإلنســان[ تلميــذا، أن يتعلــم ويســتوعب حقيقــة

العلــوم والميتافيزيقــا. أمــا ابتكارهــا واكتشــافها

اإلنســانية للطبيعــة فمطالبــة الخاصــة، بقــواه

-اإلنســانية علــى نحــو بحــت- بالكثيــر. ثــم إن الــدرس

ــا »مــن خــارج«. ينبغــي أن يأتين

ولهــذا فــإن اإلســكندر، ومــن بعــده الفارابــي

يطــول فــروق -مــع رشــد وابــن ســينا وابــن

اســتقصاؤها)))(- ذهبــوا إلــى أن هــذا المعلــم الــذي

يمتلــك الحقيقــة -أليــس ذلــك الزمــا لكــي يتمكــن

مــن تعليمهــا؟- الــذي يمتلكهــا دائمــا -أو بعبــارات

أرســطية: هــو دائمــا بالفعــل- ال يشــكل جــزءا مــن

المركــب اإلنســاني. إنــه يؤثــر علــى اإلنســان، علــى

»مــن بالقــوة( أو )المنفعــل اإلنســاني العقــل

خــارج«، وتبعــا لهــذا الفعــل يعقــل اإلنســان، أي:

ويســتوعب. يتعلــم

بــكل خاصــا ليــس الفعــال العقــل إن

إنســان؛ بــل هــو واحــد ووحيــد ومشــترك للجنــس

اإلنســاني برمتــه. ذلــك أن الخطــأ وحــده يعود إلينا

تخصيصــا؛ فهــو خطئــي أو خطــؤك. أمــا الحقيقــة:

هــو الحقيقــي التعقــل إن أحــد. ألي تعــود فــا

واحــد بالهويــة عنــد كل الــذي يعقلونــه. ويلــزم عــن

ذلــك أن يكــون وحيــدا، ألن مــا هــو كثيــر يجــب أن

يكــون مختلفــا.

)63( Cf. Mandonnet, R. P. M.)1911(. Siger de Brabant et l'averroïsme latin au XIIIe siècle )2e éd(. Louvain.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 130

تفســر النظريــة العربيــة فــي »وحــدة العقــل«

ــى ــم الحقيقــة واحــدة بالنســبة إل ــدا ل اإلنســاني جي

الجميــع، ولــم العقــل واحــد كذلــك. غيــر أن مشــكلة

تطــرح: مــاذا تصيــر النفــس اإلنســانية فــي هــذه

الفاعليــة ممارســة منهــا تســلب التــي النظريــة

منطقيــا: للكلمــة؟، الدقيــق بالمعنــى الذهنيــة

ــر فانيــة، مثــل هــذه النفــس ال يمكــن أن تكــون غي

ال يمكــن أن توجــد بعــد مــوت جســدها...)4)(. غيــر

أن ابــن ســينا يرفــض قبــول هــذه النتيجــة -أو علــى

األقــل: قبولهــا بكاملهــا-. ذلــك أن التعقــل شــيء

مــا إلهــي إلــى حــد أن واقعــة التعقــل -أي التعلــم

الحقيقــة- معرفــة إلــى والتوصــل واالســتيعاب،

تحــول العقــل المنفعــل إلــى عقــل مســتفاد. وهــذا

العقــل هنــا هــو الــذي يبقــى بعــد فنــاء الجســد،

ويظــل يعقــل -أبديــا- الحقائــق التــي جعــل منهــا

حقائقــه فــي الحيــاة.

ودراســة المدرســة تفضــي ذلــك: نــرى إننــا

كل إلــى الخصــوص، علــى والفلســفة العلــم،

ــا التــي تتمثــل، شــيء، تفضــي إلــى الســعادة العلي

بالنســبة إلــى اإلنســان -كمــا بالنســبة إلــى اإللــه-

إلــى أيضــا تقــود وهــي التعقــل، ممارســة فــي

الخلــود)))(.

إن حــل ابــن ســينا هــو بوضــوح حــل هجيــن،

حــل إنســان يخشــى قبــول النتائــج المترتبــة عــن

المبــادئ التــي وضعهــا هــو نفســه. ثــم إن ابــن

)4)( لمــا كانــت النفــس "صــورة" للجســم، فإنهــا ال يمكــن أن تبقــى مــن دونــه؛ ووجــود أفعــال ذهنيــة بحتــة ينجزهــا العقــل اإلنســاني ــه "مفــارق". ــى أن ــا أن نتصــوره عل ــح لن ــذي يتي ــد ال هــو الشــيء الوحيوالحــال أن هــذه األفعــال -وفقــا لمذهــب العــرب- ليســت أفعــاال لــه.

)))( إلى خلود غير شخصي بطبيعة الحال.

رشــد لــم يقبــل بــه. ووحــدة -أو بصيغــة أفضــل:

اإلنســاني )للجنــس اإلنســاني العقــل واحديــة-

برمتــه(، والطابــع غيــر الفــردي وغيــر الشــخصي

للتعقــل: أمــور يلــزم عنهــا بالضــرورة نفــي الخلــود.

األنــواع ســائر أفــراد –ككل اإلنســاني فالفــرد

وعابــر زمنــي ماهويــا: هــو األخــرى- الحيوانيــة

وفــان. إن التعريــف األرســطي لإلنســان –حيــوان

عاقــل وفــان- ينبغــي أن يؤخــذ علــى محمــل الجــد

بمعنــاه الحرفــي واألدق. فمــا اإلنســان عندئــذ؟

لقــد قلنــا: إنــه كائــن حيوانــي وعاقــل وفــان، كائــن

يعيــش فــي العالــم، وفــي العالــم يتصــرف وينجــز

فيــه؟ يفعــل أن عليــه يتوجــب ومــاذا مصيــره.

-بقــدر األفضــل أيضــا: صــوري هاهنــا الجــواب

اإلمــكان- هــو ممارســة العلــم والفلســفة. وهــذا

الفاعليــة هــو كان لمــا التعقــل -ببســاطة- ألن

ــا الرضــى المحــض ــا؛ فــإن ممارســته تمنحن العلي

والعميــق أكثــر مــن أي شــيء آخــر.

تمثــل الرشــدية مســعى قويــا لعلمنــة الحيــاة

ذاك- أو القــدر -بهــذا متنكــرا ونفيــا الفكريــة،

فقــط. هــذا ليســت الدينية)))(.لكنهــا للعقيــدة

الرشــدية تســتلزم فلســفية: نظــر زاويــة مــن

نفــي الفردانيــة الروحانيــة، وتحطــم وحــدة الكائــن

مــن وخطــورة عمقــا أكثــر نحــو علــى اإلنســاني

األفاطونيــة؛ ذلــك أنــه إن لــم يكــن اإلنســان، وإنمــا

النفــس هــي التــي تعقــل وتريــد فــي األفاطونيــة،

فإنهــا نفســي علــى األقــل، نفســي التــي هــي أنــا

)))( قــال إرنســت رنــان فــي كتابــه الرائــع "ابــن رشــد والرشــدية": إنــه ال أحــد -مــا خــا اليهــود- أخــذ ابــن رشــد علــى محمــل الجــد. وهــذا غلــط فــادح؛ فالرشــدية قــد لعبــت دورا ذا أهميــة قصــوى

فــي العصــر الوســيط وفــي حقبــة النهضــة.

131األرسطية واألفالطونية يف فلسفة العرص الوسيط

ذاتــي. أمــا بالنســبة إلــى ابــن رشــد، فلســت أنــا -وال

حتــى نفســي- مــن يعقــل: إن العقــل الفعــال -غيــر

الــذي هــو الجميــع- بيــن الشــخصي والمشــترك

يعقــل مــن خالــي أنــا...

وتلــك نتيجــة غريبــة لمذهــب إنســاني انتهــى

مــا يشــكل طبيعتــه مــن اإلنســان إلــى حرمــان

ويســند مكانتــه. ومــن ثمــة نــدرك لــم ثــار القديــس

فــي يقــال -كمــا اإليمــان باســم ال تومــا ضــده،

الغالــب- بــل أيضــا باســم العقــل. ألن الفلســفة

الرشــدية بالنســبة إليــه ليســت مجــرد فلســفة

الخصــوص، علــى وربمــا كذلــك، إنهــا جاحــدة:

فلســفة ســيئة.

ــه للمشــكلة التــي يطرحهــا نــص ــم إن حل ث

أيضــا إنــه العــرب. حلــول يخالــف أرســطو

األرســطية- إطــار -فــي يتيــح الــذي الوحيــد

اإلنســاني، الشــخص فرديــة علــى الحفــاظ

اإلنســاني. المركــب

يعلمنــا هــذا الحــل -علــى وجــه اإلجمــال- أن:

ــة -العقــل الفعــال والعقــل ــة واالنفعالي الفاعلي

-تبعــا وأنــه للفصــل، قابليــن غيــر المنفعــل-

لذلــك-: إن كان اإلنســان يعقــل فيجــب بالضرورة

أن يمتلــك االثنيــن. ولكــن: إن كان أرســطو يقــول

لنــا إن العقــل الفعــال يأتينــا »مــن خــارج«، فإنــه

أنــه نفهــم أن بشــرط الحــال، بطبيعــة محــق

يأتينــا مباشــرة مــن اإللــه، وأن اإللــه هــو الــذي منح

لــكل واحــد منــا عندمــا خلقنــا عقــا فعــاال. وذلــك

بالضبــط هــو مــا يجعــل منــا مخلوقــات روحانيــة،

ويفســر فــي نهايــة المطــاف الفاعليــة العقليــة

المعرفــة الذاتــي، الوعــي أي لعقلنــا؛ البحتــة

وروحانيــة الفلســفة. وجــود الميتافيزيقيــة،

أنهــا واقعــة بدورهــا تفســر التــي هــي نفســنا

قابلــة لانفصــال عــن الجســد، وبقاءهــا خالــدة

عندمــا يفنــى هــذا.

هــو التومــاوي الحــل إن آنفــا قلــت لقــد

يســمح األرســطية- إطــار -فــي الــذي الوحيــد

بالحفــاظ علــى روحانيــة النفــس ووحــدة المركب

اإلنســاني. قــد يكــون أكثــر دقــة أن نقــول: إنــه

يتجــاوز أطــر األرســطية. فإلــه أرســطو )وابــن

رشــد(: هــذا اإللــه الــذي ال يعقــل إال ذاتــه، والــذي

يجهــل العالــم الــذي لــم يخلقــه، غيــر قــادر علــى

ــه القديــس ــه إلي ــذي يعهــد ب ــدور ال أن يلعــب ال

تومــا. إن الحــل التومــاوي يفتــرض ســلفا: إلهــا

عالــم فــي فقــط إذ مخلوقــا؛ وعالمــا خالقــا

كهــذا، حيــث الخــواص الجزئيــة ليســت مخلوقــة

تكــون ،)singulapropriissuntcreatarationibus( عبثــا

اإلنســانية، الشــخصية أو الروحانيــة الفرديــة

عالــم فــي كذلــك ليســت إنهــا ممكنــا. أمــرا

الــذي الــدرس هــو هــذا أرســطو. )Cosmos(

لألفاطونيــة الطريــف التاريــخ إيــاه يعلمنــا

الوســيطتين. واألرســطية

دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية132

Translations | ترجمات

هل كان ابن تيمية به مس من جنون؟

Did Ibn Taymiyya Have a Screw Loose?(((Donald P. Little | تأليف: دونالد ب. لتل(((Ahmed Mahmoud Ibrahim | ترجمة: أحمد محمود إبراهيم

)1( دونالــد ب. لتــل )Donald P. Little( ))))1- 017)م(: مستشــرق أمريكــي معاصــر، ارتبــط اســمه بمعهــد الدراســات اإلســامية بجامعــة ماكجيــل )McGill University( )كنــدا(، مشــتغا بتدريــس التاريــخ اإلســامي واللغــة العربيــة.

.)An Introduction to Mamluk Historiography( :من أشهر أعماله

))( د. أحمد محمود إبراهيم: مدرس التاريخ اإلسامي والحضارة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة. مــن أعمالــه المنشــورة: "تأســيس اإلســام المــوازي: التصــوف الشــعبي فــي األناضــول"، ومــن ترجماتــه عــن اإلنجليزيــة: "النشــأة

الثانيــة للفقــه اإلســامي: المذهــب الحنفــي فــي فجــر الدولــة العثمانيــة الحديثــة، لجــاي بــوراك"[email protected] :اإليميل

133دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

شــخصية لتحليــل المعقــودة الدراســة هــذه تتخــذ

قــرره الــذي الحكــم مــن تيميــة )ت 728هـــ/1328م( ابــن

ابــن بطوطــة )779هـــ/1377م تقريبــا( بشــأنه، وهــو أنــه

كان يفتقــر إلــى االتــزان العقلــي= منطلقــا لهــا. ولئــن

ــا فــي األســاس تقييــم هــذا الحكــم، فــإن لهــا كانــت تتغي

ــل فــي بيــان مــا إذا كانــت شــخصية ابــن هدفــا آخــر يتمث

ــرت، وعلــى وجــه ــرت علــى ســيرته، وكيــف أث تيميــة قــد أث

ــز العاطفــي الــذي الخصــوص تحديــد مــا إذا كان التحي

أثــاره ســواء أكان لصالحــه أم ضــده يمكــن أن يعــزى

ــا بدرجــة كبيــرة إلــى ســلوكه. علــى أننــا ســنضرب صفح

ــا عــن مناقشــة مســألة أخــرى ال تقــل فــي أهميتهــا هن

عــن ســابقتها إن لــم تكــن أهــم منهــا، أال وهــي مقــدار

األثــر الــذي تركتــه شــخصية ابــن تيميــة علــى كتاباتــه؛

ألن الترتيــب الزمنــي لمؤلفاتــه التــي تنــد عــن الحصــر،

والتــي ال يــزال أكثرهــا مخطوطــا، لــم يــدرس بعــد درســا

وافيــا. وثمــة ســؤال آخــر يــرد ضمنــا فــي تضاعيــف هــذه

لنــا تتيحهــا التــي المعلومــات هــل وهــو: الدراســة،

المصــادر اإلســامية الوســيطة تكفــي للوفــاء بمقاصــد

التحليــل النفســي الجــاد ]لشــخصية ابــن تيميــة[؟

ــن بطوطــة يصــف ــارة التــي أطلقهــا اب ــا علــى أن العب وممــا يدلن

نــا يمكــن إغفالــه بهــا الســامة العقليــة البــن تيميــة ليســت أمــرا هي

مقدســي جــورج البروفيســور بأخــرة نشــرها التــي المقالــة تلــك

نفســها العبــارة هــذه أن إلــى فيهــا وذهــب ،)George Makdisi(

كانــت مــن األســباب األساســية وراء الــرأي العلمــي الســائد والقائــل

بــأن ابــن تيميــة والمدرســة الحنبليــة كانــا »يقعــان خــارج التيــار

األساســي للفكــر اإلســامي«، وأن هــذه الصــورة التــي رســمت

وية أو تمحيص، للشــيخ، فطفــق المستشــرقون يرددونهــا في غيــر ر

»أفضــت إلــى تشــويش نظرتنــا إلــى التاريــخ الدينــي اإلســامي«))(.

(3) “Ibn Taymiya: A Ṣūfī of the Qādiriya Order”, American Journal of Arabic Studies, I (1973), 119.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 134

والحــق أن مقدســي لــم يحفــل بمســألة مــا إذا كان

غه أم ال، إال علــى لــه مــا يســو ابــن بطوطــة رأي

ــه بوصفــه ــر مباشــر، وذلــك حيــن أشــار إلي نحــو غي

العصــور فــي تيميــة ابــن منتقــدي مــن »واحــدا

الوســطى«)4(.

هــذه فــي الفصــل ينبغــي كان إذا أنــه غيــر

التهمــة؛ ابتغــاء إقامــة فهمنــا البــن تيميــة علــى

فيمــا الضــروري فمــن متيــن، تاريخــي أســاس

تثبــت التــي المتاحــة األدلــة نســتعرض أن يبــدو

هــذه التهمــة أو تنفيهــا. ولكــن مــا أيســر الدعــوة

إلــى ذلــك، ومــا أشــق الوفــاء بهــا؛ ذلــك أننــا حتــى

المعلومــات عــن مؤقتــا ــرف الط غضضنــا لــو

األساســية التــي تتيحهــا لنــا كتابــات ابــن تيميــة،

التــي األخبــار مــن هائــا قــدرا نصــادف فســوف

أوردتهــا عنــه الحوليــات، والمصنفــات التــي أفــردت

يفــوق نحــو علــى التراجــم، وكتــب عنــه، للحديــث

فــي الغالــب مــا ورد مــن أخبــار عــن أي مســلم آخــر

ينتمــي إلــى العصــور الوســطى، جملــة وتفصيــا،

الحــال))(. ]ملسو هيلع هللا ىلص[ نفســه بطبيعــة خــا محمــدا مــا

وباإلضافــة إلــى الصعوبــة التــي يثيرهــا حجــم

)4( Ibid., p. 118.دراســته فــي أيضــا، (Henri Laoust) هنــري الووســت وينكــر (Essai sur les doctrines sociales et politiques de Taḳī-d-Dīn Aḥmad b. Taimīya, Cairo, Institut Français d’Archéol-ــه “صــدر ــن بطوطــة؛ ألن (ogie Orientale, 1939, p. 481، رأي ابالزهــو، ومتكلــم مشــوش عــن مراقــب ذي هــوى، ورحالــة يملــؤه .pp( :المعرفــة، و]فقيــه[ مالكــي متعصــب”. وراجــع أيضــا أيضــا

480-)8( مــن دراســة الووســت المذكــورة.

))( راجع للمؤلف نفسه: “The Historical and Historiographical Significance of the Detention of Ibn Taymiyya”, International Journal of Middle East Studies, IV )1973(, 313-20.]وقــد ترجمــت هــذه الدراســة إلــى العربيــة بعنــوان: “اعتقــال ابــن تيميــة وداللتــه فــي التاريــخ والتأريــخ”، وهــي منشــورة علــى موقــع

نهــوض بتاريــخ )01)م. )المترجم([.

أيضــا ــق تتعل أخــرى مســألة ثمــة المصــادر،

الرغــم علــى أنــه ذلــك المصــادر؛ هــذه بطبيعــة

مــن أن كثيــرا مــن المؤلفيــن هاجمــوا معتقــدات

انتقــد أحــد نــكاد نقــف علــى ابــن تيميــة، فإننــا ال

ــى مــا ــا إل شــخصه. ويرجــع الســبب فــي ذلــك جزئي

تصــادف مــن أن مــن ترجمــوا لــه كانــوا جميعــا مــن

حنابلــة؛ بوصفهــم ســواء الغالــب، فــي أنصــاره

وابــن 744هـــ/)4)1-44)1م(، )ت الهــادي عبــد كابــن

رجــب )ت ))7هـــ/)))1م/)))1- )))1م(، أم بوصفهــم

البروفيســور اصطلــح مــن إلــى المنتميــن مــن

هنــري الووســت )Henri Laoust( علــى تســميتهم

»الشــافعية أو الشــوافع« بـ»الحنابلــة

المؤيديــن للمذهــب الحنبلــي«؛ كالذهبــي )ت

774هـــ/)7)1م())(، )ت كثيــر وابــن ))7هـــ/)))1م(،

ــل علــى الرغــم مــن أن الذهبــي، كمــا ســنرى، يمث

عــن كتــب مــا أكثــر فــإن ولذلــك خاصــة. حالــة

التقديســية ــير الس ضمــن ينــدرج تيميــة ابــن

التــي تحتفــي بالمناقــب، علــى نحــو مــا يشــير إليــه

عنــوان أكمــل المصــادر المعاصــرة التــي ترجمــت

ــة مــن ــود الدري ــاب »العق ــة، وهــو كت ــن تيمي الب

مناقــب شــيخ اإلســام ابــن تيميــة« البــن

عبــد الهــادي)7(. بيــد أنــه يســعنا الوقــوف فــي هــذا

الحشــد مــن األخبــار، التــي مــال بهــا الهــوى، علــى

بعــض األدلــة التــي يمكــن مــن خالهــا تمحيــص

ــن بطوطــة، وإن لزمنــا أوال الحكــم الــذي أطلقــه اب

تمحيــص شــهادته تمحيصــا دقيقــا، ثــم مقارنتهــا

بعــد ذلــك بغيرهــا مــن األحــكام التــي أطلقــت علــى

)6( “Le Hanbalism sous les mamlouks bahrides”, Revue des Études Islamiques, XXVIII )1960(, 58.

)7( تحقيــق: محمــد حامــد الفقــي، القاهــرة: مطبعــة حجــازي، 8))1م.

135هل كان ابن تيمية به مس من جنون

شــخصية ابــن تيميــة، كــي نخلــص مــن ذلــك إلــى

بعــض النتائــج التــي نســتقل بهــا.

فتــرد بموضوعنــا الصلــة ذات الفقــرة وأمــا

فــي شــرع حيــن بطوطــة« ابــن »رحلــة فــي

وصــف زيارتــه لدمشــق ســنة ))7هـــ/)))1م؛ فقــد

ــا علــى مألــوف عادتــه، ــه للمدينــة، جري افتتــح وصف

بذكــر انطباعــات ابــن جبيــر )ت 14)هـــ/17)1م( عنهــا،

ــا، ثــم انتقــل إلــى وهــو الرحالــة الــذي ســبقه زمني

وصــف األثــر اإلســامي الرئيــس فــي دمشــق، وهــو

ال فــي ذلــك أيضــا علــى ابــن الجامــع األمــوي، معــو

جبيــر بدرجــة كبيــرة، ثــم أخــذ فــي ذكــر المدرســين

فــي األربعــة القضــاة وقضــاة بــه، والمعلميــن

المدينــة، ثــم شــفع ذلــك بفصل عنونــه بـ»حكاية«

هــذه ترجمــت وقــد تيميــة. ابــن عــن فيــه ــم تكل

الحكايــة بتمامهــا؛ العتقــادي أن اســتعراض حكــم

ابــن بطوطــة فــي ســياقه الكامــل الــذي أورده فيــه

هــو أمــر مــن األهميــة بمــكان:

الفقهــاء كبــار مــن بدمشــق »وكان

كبيــر تيميــة ابــن الديــن تقــي الحنابلــة

فــي أن إال الفنــون، فــي يتكلــم الشــام،

عقلــه شــيئا. وكان أهــل دمشــق يعظمونــه

المنبــر. علــى ظهــم ويع التعظيــم، أشــد

ــم مــرة بأمــر أنكــره الفقهــاء ورفعــوه وتكل

بإشــخاصه فأمــر الناصــر، الملــك إلــى

والفقهــاء القضــاة وجمــع القاهــرة، إلــى

شــرف وتكلــم الناصــر، الملــك بمجلــس

هــذا إن وقــال: المالكــي الــزواوي الديــن

ــر أنك مــا وعــدد وكــذا، كــذا قــال الرجــل

بذلــك العقــود وأحضــر تيميــة، ابــن علــى

ووضعهــا بيــن يــدي قاضــي القضــاة، وقــال

تقــول؟ مــا تيميــة: البــن القضــاة قاضــي

قــال: ال إلــه إال هللا، فأعــاد عليــه، فأجــاب

الناصــر الملــك فأمــر قولــه. بمثــل عليــه

فــي وصنــف أعوامــا، ن فســج بســجنه،

الســجن كتابــا فــي تفســير القــرآن ســماه

أربعيــن نحــو فــي المحيــط«، »البحــر

للملــك تعرضــت أمــه إن ثــم مجلــدا.

بإطاقــه، فأمــر إليــه، وشــكت الناصــر،

إلــى أن وقــع منــه مثــل ذلــك ثانيــة، وكنــت

إذ ذاك بدمشــق، فحضرتــه يــوم الجمعــة

الجامــع منبــر علــى النــاس يعــظ وهــو

ويذكرهــم؛ فــكان مــن جملــة كامــه أن قــال:

إن هللا ينــزل إلــى الســماء الدنيــا كنزولــي

هــذا، ونــزل درجــة مــن درج المنبــر، فعارضــه

فقيــه مالكــي يعــرف بابــن الزهــراء، وأنكر ما

تكلــم بــه، فقامــت العامــة إلــى هــذا الفقيــه

كثيــرا، ضربــا والنعــال باأليــدي وضربــوه

حتــى ســقطت عمامتــه، وظهــر علــى رأســه

لباســها، عليــه فأنكــروا حريــر، ــية

شاش

بــن مســلم الديــن عــز دار إلــى واحتملــوه

ره بعــد قاضــي الحنابلــة، فأمــر بســجنه وعــز

ذلــك. فأنكــر فقهــاء المالكيــة والشــافعية

إلــى األمــر ورفعــوا تعزيــره، مــن كان مــا

وكان تنكيــز، الديــن ســيف األمــراء ملــك

مــن خيــار األمــراء وصلحائهــم، فكتــب إلــى

الملــك الناصــر بذلــك، وكتــب عقــدا شــرعيا

أن منهــا منكــرة، بأمــور تيميــة ابــن علــى

ال واحــدة كلمــة فــي بالثــاث المـــطلق

تلزمــه إال طلقــة واحــدة، ومنهــا المســافر

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 136

الــذي ينــوي بســفره زيــارة القبــر الشــريف،

ــا، ال يقصــر الصــاة، وســوى زاده هللا طيب

ذلــك مــا يشــبهه. وبعــث العقــد إلــى الملك

الناصــر، فأمــر بســجن ابــن تيميــة بالقلعــة،

ن بهــا حتــى مــات فــي الســجن«)8(. فســج

ــل القضيــة األساســية التــي تثيرهــا هــذه وتتمث

الحكايــة فيمــا إذا كان ابــن بطوطــة قــد رأى ابــن

ل فيمــا أورده علــى ــه عــو ــا، أم أن ــه حق ــة وراقب تيمي

مرويــات بعــض شــهود العيــان، وعلــى خيالــه فــي

أكبــر الظــن؟ والحــق أن التسلســل الزمنــي الــذي

يــورده ابــن بطوطــة يدحــض الوقائــع التــي يذكرهــا،

علــى نحــو مــا جــرت بــه عادتــه فــي كثيــر مــن األحيــان؛

ذلــك أنــه إذا لــم يكــن قــد وصــل إلــى دمشــق- تبعــا

ســنة رمضــان مــن التاســع حتــى هــو- لروايتــه

)))1م(، ســنة أغســطس مــن )التاســع ))7هـــ

فقــد اســتحال أن يــرى ابــن تيميــة وهــو يعــظ فــي

ــر كان مســجونا آنــذاك، الجامــع األمــوي؛ ألن األخي

ولبــث فــي الســجن شــهرا، اســتنادا إلــى بعــض

)8( Voyages, I, 215-18; cf. the translations of Gibb, Ibn Battuta, Travels in Asia and Africa, 1325-1354, London )Routledge & Kegan Paul Ltd( 1929, pp. 67-68, and The Travels of Ibn Baṭṭūṭa, A. D. 1325-1354, I, Cambridge )The University Press( 1958, 135-36.

المســتقلة))(. المصــادر

المســتغرب مــن يبــدو م، تقــد عمــا وفضــا

أن تخلــو المصــادر األخــرى ممــا عســى أن يوثــق

الحادثــة، هــذه مثــل إلــى بطوطــة ابــن إشــارة

ــد، خافــا لمــا قــرره ابــن وهــي المصــادر التــي تؤك

بطوطــة، أن الســبب فــي ســجن ابــن تيميــة فــي

زيــارة مــن مســألة المناســبة كان موقفــه هــذه

القبــور)10(، التــي ال تعــدو أن تكــون فــي روايــة ابــن

بطوطــة مســألة ثانويــة. وتبعــا لهــذه المصــادر

نفســها، كانــت آراء ابــن تيميــة فــي مســألة صفــات

فيمــا الســبب هــي النــزول، صفــة ومنهــا هللا،

تعــرض لــه مــن مشــكات فــي طــور أســبق مــن

حياتــه)11(.

)9( J Gibb, The Travels of Ibn Baṭṭūṭa, I, 135, note 251. ،((( ص الدريــة”، “العقــود فــي الهــادي عبــد ابــن ويذكــر تاريخــا ]آخــر[ هــو الســادس مــن شــعبان )الثامــن مــن يوليــو(، ويذكــر ابــن كثيــر فــي “البدايــة والنهايــة“، )القاهــرة: مطبعــة الســادس هــو ]ثالثــا[ تاريخــا )1((/14 )))1م، الســعادة، عشــر مــن شــعبان )الثامــن عشــر مــن يوليــو(. وانظــر أيضــا: Ivan Hrbek, “The Chronology of Ibn Baṭṭūṭa’s Travels”,(ابــن أن ــد أك حيــث ))4,(؛ ,)1(((( Archiv Orientálni, XXXبطوطــة ال يمكــن أن يكــون قــد رأى ابــن تيميــة فــي دمشــق، وأنــه ربمــا ســمع “الحكايــة” التــي ســردها فــي رحلتــه مــن بعــض المصــادر فــي مكــة. ويخلــص إيفــان هربــك )Ivan Hrbek( مــن ــه ــى أن ابــن بطوطــة “يــروي مــا يســمعه مــن أحــداث كأن ذلــك إلرآهــا رأي العيــن، وهــو مــا يترتــب عليــه أنــه ال يمكــن الوثــوق بمــا

يذكــره فــي مناســبات مماثلــة”.

)10( انظــر علــى ســبيل المثــال: ابــن عبــد الهــادي، العقــود الدريــة، ص 7))- 0))؛ ابــن كثيــر، البدايــة والنهايــة 14/))1- 4)1؛ صــاح الدين خليــل بــن أيبــك الصفــدي، أعيــان العصــر وأعــوان النصــر، عاطــف أفنــدي مخطــوط )180م، ورقــة 4) أ؛ ابــن حجــر العســقاني، الــدرر الكامنــة فــي أعيــان المائــة الثامنــة، تحقيــق: محمــد ســيد جــاد

الحــق، القاهــرة: دار الكتــب الحديثــة، )))1م، 1/))1؛ وانظــر أيضــا: Laoust, Essai, pp. 145-47; Ḥasan Q. Murād, “Miḥan of Ibn Taymiya: A Narrative Account Based on a Comparative Analysis of Sources”, unpublished M. A. thesis, McGill University, 1968, pp. 107-109.

)11( ابــن عبــد الهــادي، العقــود الدريــة، ص 8)1- )))؛ ابــن كثيــر، أ؛ (4 ورقــة العصــر، أعيــان الصفــدي، ،(8/14 والنهايــة البدايــة

وانظــر أيضــا:Laoust, Essai, pp. 132-33; Murād, “Miḥan”, pp. 77-78, 84-92.

137هل كان ابن تيمية به مس من جنون

)ت العســقاني حجــر ابــن أن والواقــع

))8هـــ/)144م( يــروي أن الحادثــة التــي نــزل فيهــا ابــن

ــح فهمــه تيميــة درجــة مــن درجــات المنبــر لكــي يوض

ا، فــي ســنة )70هـــ/)0)1م))1(. للنــزول وقعــت مبكــر

ولمــا كان المصــدر الــذي اعتمــد عليــه ابــن حجــر فــي

هــذه الحادثــة شــخصا معاصــرا البــن تيميــة، فأكبــر

ابــن بطوطــة نقــل عنــه هــذه الروايــة، الظــن أن

وزعــم أنــه شــهد الحادثــة المذكــورة بنفســه؛ كــي

يزيــد التأثيــر الدرامــي للحكايــة التــي أوردهــا.

وثمــة فــروق أخــرى كذلــك؛ منهــا علــى ســبيل

المثــال: أنــه ليــس ثمــة مصــدر آخــر يزعــم أن أم ابــن

ــدى الســلطان إلطــاق ســراح ــطت ل ــة توس تيمي

ابنهــا مــن الســجن، علــى الرغــم مــن أن ابــن عبــد

الهــادي يــورد خطابــا كتبــه ابــن تيميــة إلــى أمــه وهــو

مســجون فــي مصــر))1(. ومــع ذلــك، فــإن كثيــرا مــن

التفاصيــل التــي ذكرهــا ابــن بطوطــة صحيحــة؛ فقد

كان محمــد عــز الديــن بــن مســلم قاضــي قضــاة

الحنابلــة فــي دمشــق آنــذاك)14(، ومــن المعلــوم أن

األميــر تنكــز كان يشــغل فــي ذلــك الحيــن منصــب

نائــب دمشــق))1(. وأهــم مــن ذلــك أن مــا ذكــره ابــن

))1( الــدرر الكامنــة، 4/1)1. وكان المصــدر الــذي اســتقى منــه ابــن حجــر هــذه الحادثــة هــو نجــم الديــن ســليمان الطوفــي الحنبلــي ابــن تاميــذ أحــد أنــه يذكــر الووســت الــذي )71هـــ/)1)1م(، )ت تيميــة )note ,488 .Essai, p 1(. وتأسيســا علــى هــذه اإلشــارة ــزل درجــة ــر فيهــا أحــد تاميــذ ابــن تيميــة أن الشــيخ ن التــي يخبالــذي أطلقــه الحكــم قبــول الصعــب مــن يبــدو المنبــر، مــن را فيــه أن روايــة ابــن بطوطــة لحادثــة مماثلــة الووســت مقــر

.)481 .ibid., p( “كانــت ”افتــراء مثيــرا للدهشــة]قــال ابــن حجــر فيمــا رواه عــن الطوفــي: ”... فذكــروا أنــه ذكــر حديــث النــزول، فنــزل عــن المنبــر درجتيــن، فقــال: كنزولــي هــذا؛

فنســب إلــى التجســيم“. )المترجــم([.

))1( العقود الدرية، ص 8))- ))).

)14( ابن كثير، البداية والنهاية، 14/))1.

)15( L. A. Mayer, Saracenic Heraldry, Oxford )Clarendon Press(, 1933, p. 219.

ــه المالكــي للبســه ــة ذلــك الفقي بطوطــة مــن إدان

ز موثوقيــة روايتــه. صفــوة القــول أن الحريــر يعــز

قــة بالنــزول درجــة عــن المنبــر هــذه الحادثــة المتعل

التــي أثنــاء المــدة نفســها يحتمــل أنهــا وقعــت

تعــرض فيهــا ابــن تيميــة للهجــوم بســبب آرائــه

فــي زيــارة القبــور، وهــو الهجــوم الــذي شــهده ابــن

زيارتــه تاريــخ تحديــد فــي أخطــأ بطوطــة، ولكنــه

ــره شــهرا، وذلــك حيــن أملــى مذكراتــه لدمشــق فأخ

بعــد ذلــك بســنوات.

يكــن لــم لــو فحتــى أمــر، مــن يكــن ومهمــا

العيــن، رأي تيميــة ابــن رأى قــد بطوطــة ابــن

نهــا تلــك فــإن المعلومــات التفصيليــة التــي ضم

الحكايــة تدلنــا فــي وضــوح علــى أنــه ســمع أو طالــع

فاقتنــع تيميــة، ابــن ألنشــطة تعــرض مرويــات

بأنــه علــى الرغــم ممــا كان عليــه الشــيخ مــن غــزارة

العلــم، ومــا حظــي بــه مــن المكانــة والشــعبية فــي

دمشــق، فقــد بــدا غريــب األطــوار إلــى حــد مــا فيمــا

كان يؤمــن بــه مــن معتقــدات ومــا يصــدر عنــه مــن

ــه ــذي تركت ــاع ال ــوان الســلوك. والحــق أن االنطب أل

حكايــة ابــن بطوطــة بوجــه عــام هــو أن رجــا فــي

كامــل قــواه العقليــة مــا كان لــه أن يباهــي فــي مــأل

مــن النــاس وعلــى هــذا النحــو الســافر بآرائــه فــي

التجســيم، ومــا كان لــه أن يرفــض التعــاون مــع

الســلطات إذا اعتقــل أو خضــع للتحقيــق. ومــن

ــد أنــه مــا كان ليكــرر ذنبــا لبــث بســببه فــي المؤك

الواضــح مــن ولكــن الزمــان. مــن مــدة الســجن

بطوطــة ابــن بــرأي ــق تتعل المســألة هــذه أن

ــر تفس ربمــا نفســها المــادة وأن الشــخصي،

ى الدولــة إلثبــات أن ابــن تيميــة كان بطــا، يتحــد

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 138

فــي المنافحــة عــن آرائــه الخاصــة؛ ولهــذا، فإنــه لمــا

كانــت روايــة ابــن بطوطــة مشــكوكا فيهــا، ولمــا

أن علينــا ينبغــي فإنــه خــاف، موضــع رأيــه كان

نلتمــس تقييــم شــخصية ابــن تيميــة فــي بعــض

األخــرى. المصــادر

والواقــع أن المــادة المناقبيــة التــي قصــد بهــا

تتســم وأفعالــه تيميــة ابــن أقــوال تبجيــل إلــى

عبــد ابــن أن مثــا: ذلــك فمــن والثــراء؛ بالوفــرة

الهــادي يختتــم »عقــوده« بمــا دبجــه طائفــة مــن

ثمانيــة عــن عددهــم يقــل ال الشــيخ، معاصــري

ــن ــه))1(، وجمــع اب وعشــرين رجــا، فــي مديحــه ورثائ

ناصــر الديــن )ت )84هـــ/8)14- ))14م( أقوال خمســة

ون فيهــا بــأن ابــن تيميــة كان ــر ــا يق وثمانيــن عالمـ

جديــرا بهــذا اللقــب الجليل »شــيخ اإلســام«)17(.

علــى أن مــا ظفــر بــه ابــن تيميــة مــن ثنــاء عريــض ال

يعنــي بالضــرورة أنــه لــم يكــن حقيقــا بــه، بــل إنــه

مــن الواضــح، خافــا لذلــك، أن المبالغــة فــي مدحــه

ولهــذا ؛ اســتثنائي أنــه شــخص علــى تــدل كانــت

فقــد أثــار مثــل هــذا التقديــر العــام ]فــي المجتمــع

اعتــراف ذلــك علــى دليــل وخيــر المملوكــي[.

ــا ــت نموذج ــه كان ــأن حيات ــل أتباعــه[ ب خصومــه ]قب

ــا: أن ابــن مخلــوف )ت ــه؛ فمــن ذلــك مث ــذى ب يحت

718هـــ/18)1م(، قاضــي المالكيــة فــي مصر، الذي كان

مســئوال إلــى حــد كبيــر عــن المحاكمــات والمحــن

ــة فــي مصــر)18(، ــن تيمي ــى التــي تعــرض لهــا اب األول

)16( pp. 393-517.

مــن ســمى ابــن تيميــة شــيخ مــن زعــم أن الــرد الوافــر علــى )17(اآلتيــة، الــدرر علــى المشــتمل المجمــوع فــي كافــر، اإلســام كردســتان مطبعــة القاهــرة: الكــردي، هللا فــرج تحقيــق:

.((-1 ص )))1هـــ/11)1م، العلميــة،

)18( انظر اإلحاالت الوادة في: Little, “Detention”, p. 324, note 7.

رأينــا »مــا قائــا: المطــاف نهايــة فــي اعتــرف

ــا فــي ممكن

ــق ــم نب أتقــى مــن ابــن تيميــة، ل

الســعي فيــه، ولمـــا قــدر علينــا عفــا عنــا«))1(.

))7هـــ/)))1م(، )ت ــبكي الس الديــن تقــي إن بــل

ــف بعــض الرســائل فــي معارضــة آراء الــذي صن

ابــن تيميــة فــي العقائــد)0)(، ووصفــه الووســت بأنــه

عــدو ابــن تيميــة ]اللــدود[)1)(، أبــدى رضــاه عمــا ذكــره

ــة: ــن تيمي ــم اب ــي فــي تقيي الذهب

إلــى الذهبــي وكتــب حجــر: ابــن »]قــال

منــه وقــع كام بســبب يعاتبــه الســبكي

فــي حــق ابــن تيميــة؛ فأجابــه، ومــن جملــة

الجــواب[: وأمــا قــول ســيدي فــي الشــيخ

كبيــر يتحقــق فالمملــوك الديــن، تقــي

قــدره، وزخــارة بحــره، وتوســعه فــي العلــوم

النقليــة والعقليــة، وفــرط ذكائه واجتهاده،

الــذي المبلــغ ذلــك مــن كل فــي وبلوغــه

ذلــك يقــول والمملــوك الوصــف، يتجــاوز

دائمــا، وقــدره فــي نفســي أكبــر مــن ذلــك،

وأجــل مــا جمعــه هللا له مــن الزهادة والورع

ال فيــه، والقيــام الحــق ونصــرة والديانــة

لغــرض ســواه، وجريــه علــى ســنن الســلف،

وأخــذه مــن ذلــك بالمأخــذ األوفــى، وغرابــة

ــه فــي هــذا الزمــان، بــل مــن أزمــان«)))(. مثل

يتهــم قــد الســبكي أن مــن الرغــم وعلــى

واإلطنــاب المبالغــة مــن شــيء فــي بالوقــوع

))1( ابن عبد الهادي، العقود الدرية، ص )8).

)0)( الــدرة المضيــة فــي الــرد علــى ابــن تيميــة، تحقيــق: محمــد زاهــد الكوثري، دمشــق، )القدســي(، 47)1هـ/8))1- )))1م.

.(7 .Hanbalisme”, p“)(1(

)))( ابن حجر، الدرر الكامنة، 1/))1.

139هل كان ابن تيمية به مس من جنون

ــى ــراض عل فــي هــذا المقــام، فمــن الصعــب االعت

الوصــف الــذي أســبغه علــى ابــن تيميــة؛ لتكــراره

المطــرد علــى ألســنة أصدقــاء الشــيخ وخصومــه

. جميعــا

مــن بجملــة تيميــة البــن اإلقــرار أن بيــد

الفضائــل ال يعنــي تبرئتــه مــن كل نقيصــة؛ فبيــن

ــة ــور علــى مثلب ــاء يمكــن العث ــارات المــدح والثن عب

أنكــرت علــى الشــيخ. وتشــتمل الرســالة وحيــدة

المعنونــة بـ»النصيحــة الذهبيــة البــن تيمية«

ــه إلــى شــخصه)))(، ومــن الجلــي علــى أصــرح نقــد وج

الشــهير ث والمحــد خ المــؤر تصنيــف مــن أنهــا

إليــه، كمــا الرغــم مــن أن نســبتها الذهبــي، علــى

ســنرى، لــم تــزل موضــع خــاف. وتنتظــم الرســالة

التــي صيغــت فــي شــكل نصيحــة هجومــا عنيفــا

علــى موقــف ابــن تيميــة تجــاه أقرانــه مــن العلمــاء،

بــه مــن عــرف وتنتقــد علــى وجــه الخصــوص مــا

ــب، وضيــق عطــن، وافتقــار إلــى كبــر، وعنــاد، وتعص

الكياســة والمــداراة. ويــرى الذهبــي أن هــذا المزيــج

ــه، ــة عــن أخطائ ــن تيمي مــن الخصــال قــد أعمــى اب

ــه، وأفضــى بــه وحجــب عنــه أيضــا فضائــل خصوم

قيــن. المتمل مــن يحيــط نفســه بطائفــة أن إلــى

ــح وحســبنا أن نــورد بعــض المقتطفــات حتــى نوض

ــن لهجتهــا: طبيعــة هــذه الوثيقــة ونتبي

عيــوب عــن عيبــه شــغله لمــن »طوبــى

النــاس، وتبــا لمــن شــغلته عيــوب النــاس

عيــن فــي القــذاة تــرى كــم إلــى عــن عيبــه.

ــذع فــي عينــك. إلــى كــم أخيــك، وتنســى الج

الكوثــري، زاهــد محمــد تحقيــق: العلــم، زغــل بيــان فــي )(((.(4 -(1 ص )))1م، 48)1هـــ/8))1- )القدســي(، دمشــق،

وعباراتــك، وشقاشــقك نفســك، تمــدح

وتــذم العلمــاء وتتبــع عــورات النــاس)4)(... يــا

حجــاج رجــل، باللــه عليــك، كــف عنــا؛ فإنــك م

إياكــم تنــام. وال تقــر ال ،اللســان عليــم

الــكام وكثــرة ... الديــن فــي واألغلوطــات

بغيــر دليــل تقســي القلــب ]فكيــف إذا كان

فــي عبــارات اليونســية والفاســفة، وتلــك

وهللا القلــوب؟[)))(. ــي تعم التــي يــات

الكفر

كــم فإلــى الوجــود، فــي ضحكــة صرنــا قــد

يــات الفلســفية، لنــرد تنبــش دقائــق الكفر

عليهــا بعقولنــا؟! يــا رجــل، قــد بلعــت ســموم

وبكثــرة ،

مــرات هــم ومصنفات الفاســفة

اســتعمال الســموم يدمــن عليهــا الجســم،

مــن خيبــة يــا البــدن)))(. فــي وتكمــن، وهللا،

اتبعــك؛ فإنــه معــرض للزندقــة واالنحــال،

والديــن العلــم قليــل كان إذا ســيما وال

باطوليــا شــهوانيا، لكنــه ينفعــك ويجاهــد

عــدو الباطــن وفــي ولســانه، بيــده عنــك

أتباعــك معظــم فهــل وقلبــه، بحالــه لــك

إال قعيــد مربــوط خفيــف العقــل؟ أو عامــي

قــوي أو غريــب واجــم ؟ الذهــن بليــد كــذاب

المكــر؟ أو ناشــف صالــح عديــم الفهــم؟ فــإن

نهــم بالعــدل«)7)(. لــم تصدقنــي ففتشــهم وز

إال ليــس وأكثــر ــه كل هــذا أن الذهبــي ويؤكــد

، ال يريــد بــه إال ــاء يســوقه صديــق محــب نقــدا بن

تيميــة: البــن الخيــر

)4)( السابق، ص )).

)))( السابق، ص ))، )).

)))( السابق، ص )).

)7)( السابق.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 140

»مــا أذكــر أنــك تذكــر المــوت، بــل تــزدري

ــل علــى بمــن يذكــر المــوت، فمــا أظنــك تقب

ــي إلــى وعظــي، بــل لك همة قولــي، وال تصغ

كبيــرة فــي نقــض هــذه الورقــة بمجلــدات،

وتقطــع لــي أذنــاب الــكام، وال تــزال تنتصــر

حتــى أقــول لــك: والبتــة ســكت. فــإذا كان

الشــفوق وأنــا عنــدي، حالــك هــو ذلــك

عنــد حالــك يكــون فكيــف الــواد، ــب المح

أعدائــك؟! وأعــداؤك، وهللا، فيهــم صلحــاء

وعقــاء وفضــاء، ]كمــا أن أوليــاءك فيهــم

ــة وعــور وبقــر[. فجــرة وكذبــة وجهلــة وبطل

عانيــة، تســبني أن منــك رضيــت وقــد

ا«)8)(. وتنتفــع بمقالتــي ســر

صــورة ترســم شــديدة عبــارات هــا كل وهــذه

التــي الصــورة مــن مــداراة أقــل تيميــة البــن

ــم ــى هــذا أن الحك ــن بطوطــة. زد عل ــه اب رســمها ل

الــذي قضــى بــه الذهبــي أشــد وطــأة مــن الحكــم

الــذي أطلقــه ابــن بطوطــة؛ ذلــك أنــه اشــتهر بأنــه

األشــاعرة إلــى ينظــرون الذيــن الشــافعية أحــد

بعيــن االحتقــار، وأنــه، تبعــا لمــا قــرره ]تــاج الديــن[

آراء إلــى الميــل شــديد »كان ، الســبكي

الحنابلــة«، وهــو الميــل الــذي أفضــى بــه إلــى لــزوم

إرشــاده)))(. وقبــول تيميــة ابــن صحبــة

والحــق أن الحكــم الــذي قضــى بــه الذهبــي علــى

ابــن تيميــة كان مــن القســوة بحيــث إن اثنيــن مــن

)8)( السابق، ص 4).

القاهــرة: الخامــس، الجــزء الكبــرى، الشــافعية طبقــات )(((المطبعــة الحســينية المصريــة، بــدون تاريــخ، ص 17). وراجــع أيضــا: صــاح الديــن المنجــد، ســيرة جديــدة للذهبــي، فــي: ســير المخطوطــات، القاهــرة: معهــد األول، الجــزء النبــاء، أعــام

بــدون تاريــخ، ص )1.

العلمــاء، وهمــا: يوســف كــوكان العمــري ومحمــد

عطــاء هللا حنيــف الفوجيانــي، زعمــا أنــه ال يمكــن

ــا بأنــه ال يتســق مــع مــا أن يكــون قــد قالــه، واحتج

أعــرب عنــه مــن تقديــر شــديد البــن تيميــة فــي غيــر

هــا علــى خلــو المصــادر المعاصــرة مــن موضــع، ونب

أي إشــارة إلــى مثــل هــذه الرســالة ]»النصيحــة

الذهبيــة«[)0)(. وال يمكــن االقتنــاع بــأي مــن هذيــن

ــاب التراجــم االعتراضيــن. فعلــى الرغــم مــن أن كت

ضمــن الرســالة هــذه يدرجــوا لــم المعاصريــن

مؤلفــات الذهبــي، فــإن الســخاوي )))8هـــ/)144م(،

يــروي فيمــا كتبــه بعــد ذلــك بمائــة عــام أنــه طالــع

هــذه الرســالة التــي كتبهــا الذهبــي)1)(. زد علــى هــذا

أن الســخاوي نقــل عــن رســالة أخــرى، أمســك عــن

ذكــر عنوانهــا، ســاق فيهــا الذهبــي مزيــدا مــن النقــد

البــن تيميــة؛ حيــث قــال:

»]وقــد رأيــت لــه عقيدة مجيدة، ورســالة

نســبته لدفــع هــي تيميــة، البــن كتبهــا

مــرة فيــه- لمزيــد تعصبــه مفيــدة، وقــال

مــا رمقــت عينــه أوســع بأنــه« مــع حلفــه

منــه علمــا، وال أقــوى ذكاء، مــع الزهــد فــي

المــأكل والملبــس والنســاء، ومــع القيــام

پبلشــنگ اســامى الهــور: تيميــة، ابــن اإلمــام العمــري، )(0(گمپنــى، 0))1م، ص )1)- 18)؛ محمــد أبــو زهــرة، حيــاة شــيخ اإلســام ابــن تيميــة، ترجمــه إلــى األورديــة: الســيد رئيــس أحمــد الجعفــري ]النــدوي[، وأضــاف إليــه، محمــد عطــاء هللا حنيــف الفوجيانــي، الهــور: المكتبــة الســلفية، 1))1م، ص )77- 781. والحــق أننــي أديــن بالفضــل فــي هــذه اإلحــاالت المرجعيــة إلــى أطروحــة حســن وللدكتــور ،8( رقــم الحاشــية ،118 )Miḥan(، ص مــراد قاســم ســاجدي علــوي، و س. س. ك. الحســيني؛ لقيامهمــا بترجمــة

هــذه اإلحــاالت مــن األورديــة.

)1)( اإلعــان بالتوبيــخ لمــن ذم التاريــخ، بغــداد: مكتبــة العينــي، )8)1هـــ/)))1م. وراجــع أيضــا: ترجمــة فرانــز روزنتــال لهــذا الكتــاب

ــه: )Franz Rosenthal( فــي كتاب (nd ed., Leiden )E. ,A History of Muslim Historiography

.(7( .p ,1((8 ,)J. Brill

141هل كان ابن تيمية به مس من جنون

فــي تعــب إنــه ــن[-: ممك بــكل الحــق فــي

وزنــه وتفتيشــه ســنين متطاولــة، فمــا وجد

أخــره بيــن المصرييــن والشــاميين، ومقتته

وكذبــوه، بــه، وازدروا بســببه، نفوســهم

ــاوى، ــب والدع ــر والعج بــروه، إال الك بــل كف

المشــيخة، رياســة فــي الغــرام وفــرط

واالزدراء بالكبــار، ومحبــة الظهــور، ]بحيــث

وال منــه بــأورع ليســوا نــاس عليــه قــام

أعلــم وال أزهــد، بــل يتجــاوزون عــن ذنــوب

مــا ولكــن أصدقائهــم، وآثــام أصحابهــم

ســلطهم هللا عليــه بتقواهــم وجالتهــم،

بــل بذنوبــه، ومــا دفــع هللا عنــه وعــن أتباعــه

مــا بعــض إال عليهــم جــرى ومــا أكثــر،

يســتحقون[”)))(.

زغــل »بيــان هــو الفقــرة هــذه ومصــدر

هــا عد التــي الفقــرة وهــي للذهبــي، لــم«)))( الع

لنفــس الذهبــي؛ علــى منحولــة أيضــا الفوجيانــي

ــد أن الحقيقــة هــي ــا)4)(. بي األســباب المذكــورة آنف

أن اآلراء التــي اشــتملت عليهــا هاتــان الرســالتان

ــر بصــدق عــن رأي الذهبــي فــي ابــن تيميــة، وهــو تعب

الــرأي الــذي جــرى اإلعــراب عنــه فــي مصــادر أخــرى

ال نــزاع فــي موثوقيتهــا، ]أي: فــي صحــة نســبتها

ــر ســبيل، ــى أصحابهــا[. وعلــى العمــوم، فــإن خي إل

مشــاعر لوصــف الوحيــد، الســبيل يكــن لــم إن

)))( الســابق. ]يمكــن مراجعــة هــذا النــص فــي: فرانــز روزنتــال، العلــي، أحمــد صالــح ترجمــة: المســلمين، عنــد التاريــخ علــم ص )8)1م، الثانيــة، الطبعــة الرســالة، مؤسســة بيــروت: 04). وقــد ذكــر محمــد زاهــد الكوثــري، ناشــر كتــاب »بيــان زغــل العلــم«، أن »النصيحــة الذهبيــة« هــي نفــس الرســالة التــي أشــار

إليهــا الســخاوي فــي »اإلعــان بالتوبيــخ«. )المترجــم( [.

)))( راجع ما تقدم في هذه المقالة.

)4)( حياة شيخ اإلسام ابن تيمية، ص )77- 781.

الذهبــي تجــاه ابــن تيميــة هــو القــول بأنهــا كانــت

ــة؛ فثنــاؤه علــى الشــيخ كان أمــرا مشــاعر متضارب

مألوفــا فــي مقــام المــدح والتقريــظ، ولكنــه اقتــرن

بالنقــد دائمــا. وكانــت ماحظــات الذهبــي- خافــا

أســاس إلــى تســتند بطوطــة- ابــن لماحظــات

بالشــيخ، المباشــرة المعرفــة يقــوم علــى متيــن

اهتماماتهمــا عــن نشــأت التــي المعرفــة وهــي

اتصــال مــن ذلــك علــى ترتــب ومــا المشــتركة،

علمــاء مــن كان فــي دمشــق؛ فكاهمــا بينهمــا

ــزري بالفلســفة ويســيء الحديــث، وكاهمــا كان ي

الظــن بعلــم الــكام، وكاهمــا كان يحــاول صياغــة

.)in scholastic terms( اإلســام صياغة مدرســية

والحــق أن جــل كتابــات الذهبــي تتصــل، علــى نحــو

مــن األنحــاء، بعلــم الحديــث، أو علــم الرجــال- وهــو

رواة موثوقيــة مــن التحقــق ــا يتغي الــذي العلــم

جــذوره كانــت الــذي التاريــخ علــم أو الحديــث-

حقــل صميــم فــي تقــع نفســها ومنهجياتــه

الحديــث. وأمــا مصنفــات ابــن تيميــة فكانــت أدخــل

فــي بــاب التنظيــر مــن حيــث مضمونهــا ومنهجهــا،

ــت عنايتــه بالحديــث فــي هــذا العــدد الوافــر وإن تجل

مــن الكتــب التــي ألفهــا فــي الفقــه وأصولــه، وفــي

اعتمــاده الشــديد علــى الحديــث بوصفــه مصــدرا

مؤلفاتــه فــي عنهــا أعــرب التــي آرائــه لتوثيــق

ــد كا الرجليــن بعــض وظائــف األخــرى. وقــد تقل

التدريــس؛ حيــث شــغا مشــيخة الحديــث فــي عــدد

مــن المؤسســات ]العلميــة[ بدمشــق؛ فتولــى ابــن

تيميــة مشــيخة الحديــث بــدار الحديــث الســكرية،

والمدرســة الحنبليــة)))(، وتولــى الذهبــي مشــيخة

)35( Laoust, “Ibn Taymiyya”, Encyclopaedia of Islam, 2nd ed., III, 951-53, Murād, “Miḥan”, pp. 74-76, 107.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 142

والمدرســة النفيســية المدرســة فــي الحديــث

الفاضليــة، وكذلــك فــي دار الحديــث الســكرية خلفــا

البــن تيميــة)))(. وكان الذهبــي أخيــرا منتســبا إلــى

طائفــة مــن الشــافعية فــي دمشــق ذكــر الســبكي

حيــث بهــم؛ أضــر تأثــرا تيميــة بابــن تأثــروا أنهــم

قــال: »واعلــم أن هــذه الرفقــة، أعنــي: المــزي

والذهبــي والبرزالــي وكثيــرا مــن أتباعهــم،

أضــر بهــم أبــو العبــاس بــن تيميــة إضــرارا

أمــرا األمــور عظائــم مــن وحملهــم بينــا،

ليــس هينــا، وجرهــم إلــى مــا كان التباعــد

دكادك فــي ]وأوقفهــم بهــم، أولــى عنــه

، المرجــو مــن هللا أن يتجاوزهــا لهــم مــن نــار

وألصحابهــم[«)7)(. بيــد أنــه علــى الرغــم ممــا كان

بينهمــا مــن صحبــة واهتمامــات مشــتركة واتفــاق

علــى بعــض المســائل، فمــن الواضــح أن إعجــاب

الذهبــي بابــن تيميــة كان ينــال منــه دائمــا كثيــر مــن

كان الــذي التضــارب، هــذا ــى ويتجل الهواجــس.

الذهبــي علــى وعــي بــه، فــي أوضــح صــوره فــي هــذه

العبــارة الافتــة للنظــر التــي تعكــس هــذا الموقــف

الــذي حفظــه ابــن حجــر علــى أكمــل وجــه؛ إذ يقــول

]نقــا عــن الذهبــي[:

»ومــن خالطــه وعرفــه فقــد ينســبني إلــى

نابــذه وخالفــه فقــد ومــن فيــه، التقصيــر

يــت أوذ وقــد فيــه، التغالــي إلــى ينســبني

وأضــداده. أصحابــه مــن الفريقيــن مــن

واللحيــة، الــرأس أســود أبيــض، وكان

)))( عبــد القــادر النعيمــي، الــدارس فــي تاريــخ المــدارس، الجــزء األول، دمشــق: المجمــع العلمــي العربــي، 84)1م، ص )7. وانظــر

أيضــا: Moh. Ben Cheneb, “al-Dhahabī”, EI2, II, 214.

)7)( طبقات الشافعية، )/4)).

ــيب، شــعره إلــى شــحمة أذنيــه، قليــل الش

بعــة مــن وكأن عينيــه لســانان ناطقــان، ر

ي ــور الرجــال، بعيــد مــا بيــن المنكبيــن، جه

الصــوت فصيحــا، ســريع القــراءة، تعتريــه

حــدة، لكنــه يقهرهــا بالحلــم. ولــم أر مثلــه

فــي ابتهالــه واســتغاثته، وكثــرة توجهــه.

وأنــا ال أعتقــد فيــه عصمــة، بــل أنــا مخالــف

لــه فــي مســائل أصليــة وفرعيــة، فإنــه كان

مــع ســعة علمــه وفــرط شــجاعته وســيان

بشــرا الديــن، لحرمــات وتعظيمــه ذهنــه

مــن البشــر«)8)(.

مختلــف فــي متناثــرة أخــرى تعليقــات وثمــة

وهــي الذهبــي، إلــى عزوهــا يمكــن المصــادر

تكشــف عــن مزيــد مــن مثالــب ابــن تيميــة؛ إذ يــروي

ابــن الصفــدي )ت 4)7هـــ/)))1م( عــن الذهبــي أن

ا بنفســه جريئــا قليل المــداراة)))(. تيميــة كان مزهــو

وكذلــك ينقــل ابــن رجــب )ت ))7هـــ/)))1م(، كاتــب

الصفــة را مكــر الذهبــي، عــن الحنبلــي، التراجــم

تيميــة[ ابــن ]أي: فيــه أن إليهــا مضيفــا األخيــرة

ــه فــي البحــث[، ة ]تعتري ــد ــه ح »عــدم تــؤدة«، وأن ل

رجــب ابــن ويــروي حــرب«)40(. »ليــث كأنــه حتــى

أيضــا عــن المصــدر نفســه ]أي: الذهبــي[ أن ابــن

ــم ــب المــزاج، حتــى إنــه »قــد يعظ تيميــة كان متقل

مــرات«)41(. المحــاورة فــي ويهينــه مــرة، جليســه

)8)( الــدرر الكامنــة، 1/1)1. وراجــع أيضــا: ترجمــة حســن قاســم .(4.Miḥan”, p” :مــراد لهــذا النــص، فــي

إحســان تحقيــق: الســادس، الجــزء بالوفيــات، الوافــي )((( .18 ص )))1م، ،)Franz Steiner Verlag( فيســبادن عبــاس،

)40( الذيــل علــى طبقــات الحنابلــة، تحقيــق: محمــد حامــد الفقــي، الجــزء الثانــي، القاهــرة: مكتبــة الســنة المحمديــة، )))1م، ص

.(((

)41( السابق.

143هل كان ابن تيمية به مس من جنون

أعــم تقديــر مــع هــا كل الخصــال هــذه وتتســق

وأكثــر تعاطفــا ســاقه الذهبــي البــن تيميــة، وهــو

ــر يتيــح لنــا، فيمــا يبــدو لــي، مفتاحــا لفهــم مــا تقدي

نعرفــه عــن الشــيخ؛ حيــث كان ابــن تيميــة، تبعــا

للذهبــي، منقطعــا للعلــم تمــام االنقطــاع، »فارغــا

ال والجمــاع، والملبــس المــأكل شــهوات عــن

لــذة لــه فــي غيــر نشــر العلــم وتدوينــه، والعمــل

بمقتضــاه«))4(. ومــن المهــم فــي هــذا الصــدد أن

ــه ــب أن ى، وال ري ــزوج قــط ولا تســر ــم يت ــه ل نذكــر أن

أمــر شــديد الغرابــة بالنســبة لشــخص مســلم))4(.

وكان متــى اكتســب شــيئا مــن المــال أنفقــه؛ ولهذا

ــن علــى إخوتــه أن يقومــوا بشــئونه)44(. فقــد تعي

االنطباعــات هــذه مصــدر هــو الذهبــي وكان

كلهــا، فهــل يســعنا التأكــد مــن أن رأيــه فــي ابــن

تيميــة لــم تنحــرف بــه العواطــف أو المشــاعر عــن

جــادة اإلنصــاف؟ الحــق أنــه مــن الصعــب، إن لــم

ر ذلــك فــي ظــل مــا يكــن مــن المســتحيل، أن نقــر

نفتقــر إليــه مــن معلومــات عــن شــخصية الذهبــي،

كان بأنــه توحــي الحديــث فــي لهجتــه كانــت وإن

ــا، بعيــدا عــن الحســد، وأنــه ضــاق ذرعــا موضوعي

بابــن تيميــة، وإن لــم يعــدل بــه هــذا الضيــق إلــى

الحقــد عليــه. وباإلضافــة إلــى ذلــك، هنــاك بعــض

األخبــار التــي يمكــن الوقــوف عليهــا فــي طائفــة مــن

))4( الســابق، ص 0)). ويطالعنــا هــذا الــرأي نفســه فــي كتــاب »الوافــي بالوفيــات« للصفــدي، 7/)1، فيمــا عدا لفظة »الجماع«،

حيــث يســتبدل بهــا الصفــدي قولــه: »الراحــة الدنيويــة«.

وانظــر )/)))؛ الحنابلــة، طبقــات علــى الذيــل رجــب، ابــن )4((أيضــا: ابــن الــوردي، تاريخــه، الجــزء الثانــي، النجــف: المطبعــة

.41( ص )))1م، الحيدريــة،

الذهبــي: عــن نقــا رجــب، ابــن عبــارة ]ونــص الســابق. )44(ــت فــي العالــم أكــرم منــه، »وأخــوه يقــوم بمصالحــه ... ومــا رأيوال أفــرغ منــه عــن الدينــار والدرهــم، ال يذكــره، وال يــدور فــي ذهنــه

)المترجــم([. « ...

ــد الحكــم المصــادر األخــرى المســتقلة، وهــي تؤي

. الــذي انتهــى إليــه الذهبــي

الــواردة الحكايــات مــن األخبــار هــذه وتتألــف

اشــتملت التــي والمرويــات التراجــم كتــب فــي

األنشــطة لنــا رت وصــو الحوليــات كتــب عليهــا

ــاب العامــة البــن تيميــة. وعلــى الرغــم مــن أن كت

ا أخبــار يذكــرون كانــوا قلمــا المســلمين التراجــم

كانــت إذا إال لــه يترجمــون مــن بطفولــة ــق تتعل

مــن منقبــة علــى الدالــة األمــارات بعــض تبــرز

المناقــب أو منجــزا مــن المنجــزات غيــر المألوفــة

فــي هــذه الســن الباكــرة، فقــد حفــظ لنــا الصفــدي

إحــدى الحكايــات عــن طفولــة ابــن تيميــة، حيــن كان

يــدرس مــع أبنــاء أســرة أخــرى مــن األســر الحنبليــة

البــارزة فــي دمشــق، وتظهــر هــذه الحكايــة -عــن

ــل عليــه ابــن غيــر قصــد- أن المــزاج الحــاد الــذي جب

لــف الــذي الحظــه الذهبــي كان تيميــة، وهــذا الص

ــا عــرف بــه منــذ نعومــة أظفــاره: ا جلي أمــر

قيــم ابــن الشــيخ عنــه لــي »]وحكــى

بنــي عنــد صغيــرا كان قــال:[ الجوزيــة،

شــيئا فادعــوا معهــم، فبحــث المنجــا،

أنكــره، فأحضــروا النقــل، فلمــا وقــف عليــه

ألقــى المجلــد مــن يــده غيظــا، فقالــوا لــه:

ــد مــن يــدك وهــو أنــت جــريء؛ ترمــي المجل

! فقــال ســريعا: أيمــا خيــر أنــا لــم

كتــاب ع

أو موســى؟ فقالــوا: موســى، فقــال: أيمــا

التــي الجوهــر ألــواح أو الكتــاب هــذا خيــر

كان فيهــا العشــر كلمــات؟ قالــوا: األلــواح،

فقــال: إن موســى لمــا غضــب ألقــى األلــواح

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 144

يــده«))4(. مــن

وثمــة حكايــة أخــرى يوردهــا الصفــدي تؤكــد مــا

الحظــه الذهبــي مــن أن ابــن تيميــة كان ال يكتــرث

أكل أنــه الحكايــة هــذه وتــروي الدنيــا. بشــئون

يبــدى أن ــه لشــدة مرارتــه، دون أم قرعــا، عافتــه

امتعاضــا))4(. ولعــل أبلــغ مــا يدلنــا علــى اســتغراقه

يبالــي ال بأنــه مجاهرتــه يــن الد أمــر فــي الكامــل

أن يمكــن التــي المختلفــة العقوبــة بصنــوف

يتعــرض لهــا؛ حيــث قــال:

جنتــي أنــا بــي؟ أعدائــي يصنــع »مــا

فهــي رحــت أيــن صــدري، فــي وبســتاني

معــي، أنــا حبســي خلــوة، وقتلــي شــهادة،

ســياحة«)47(. بلــدي مــن وإخراجــي

لنــا ر تصــو التــي المرويــات هــذه لنــا وتتيــح

تثبــت وافــرة أدلــة تيميــة البــن العامــة األنشــطة

مــا أبــداه الذهبــي مــن ماحظــات أخــرى، وال ســيما

قــة بمــا عــرف بــه الشــيخ تلــك الماحظــات المتعل

وتعصــب، ومعانــدة، واندفــاع، وخيــاء، زهــو مــن

وعــزوف عــن المــداراة. ومــن اليســير الوقــوف علــى

ر لنــا مثــل هــذه الخصــال بعــض األمثلــة التــي تصــو

فــي المصــادر الثانويــة، وحســبنا أن نســتحضر فــي

هــذا المقــام بعــض األحــداث التــي مــر بهــا؛ كجرأتــه

ام المغــول)48(، وجســارته المتهــورة فــي مواجهــة حــك

فــي دعــوة الســلطان المملوكــي إلــى جهادهــم))4(،

))4( الوافي بالوفيات، 17/7.

))4( السابق، ص 18.

)47( ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة، )/)40.

)48( Laoust, “La Biographie d’Ibn Taimīya d’après Ibn Kaṯīr”, Bulletin d’Études Orientales, IX )1942-45(, 123-24.

)49( Ibid., p. 127.

نســبت التــي المقدســة اآلثــار لبعــض وتخريبــه

إلــى النبــي ]ملسو هيلع هللا ىلص)0)(، وشــجاعته فــي التنديــد بمــا كان

الشــعبذة)1)(، ألــوان مــن الرفاعيــة دراويــش يأتيــه

ي- مــن وســعيه فــي إطــاق ســراح صاحبــه – المـــز

للســلطة اإلذعــان مــرة غيــر ورفضــه الســجن)))(،

المملوكيــة)))(، ووشــايته باألقبــاط علــى نحــو يفتقــر

إلــى الكياســة والمــداراة، فــي حيــن رأى غيــره مــن

العلمــاء أن الحكمــة فــي هــذا الموطــن توجــب الليــاذ

بالصمــت)4)(.

انقطاعــه فــي صادقــا تيميــة ابــن وكان

البطالــة حيــاة إلــى يركــن ال الدينيــة، للمبــادئ

عنــه يــروي الهــادي عبــد ابــن إن حتــى والفــراغ،

مصــر فــي بــه اعتقــل الــذي الســجن ل حــو أنــه

ل وحــو والعبــادة، الدينيــة للدراســة معهــد إلــى

المحبوســين مــن االشــتغال بالشــطرنج والنــرد

إلــى مازمــة الصــاة)))(. وحتــى حيــن كان الشــيخ

إلــى مــا يســير فــي شــوارع القاهــرة فــي طريقــه

)50( Ibid., p. 133; Murād, “Miḥan”, p. 80.

)51( Laoust, “Biographie”, pp. 135-36, and Essai, pp. 126-27; Murād, “Miḥan”, pp. 80-82.

)52( Laoust, “Biographie”, p. 137; Murād, “Miḥan”, p. 89.

-1(( .and Essai, pp ,1(( ,41-1(( .Laoust, “Biographie”, pp )(((.07-10( ,((-(4 ,(( .Murād, “Miḥan”, pp ;4(-144 ,(4

)54( Laoust, Essai, pp. 141-42; Murād, “Miḥan”, pp. 101-02.

)))( ابن عبد الهادي، العقود الدرية، ص 88).]ونــص عبــارة ابــن عبــد الهــادي: »... وحبــس بســجن الحاكــم المحابيــس وجــد الحبــس دخــل ولمــا ... الديلــم بحــارة مشــتغلين بأنــواع مــن اللعــب، يلتهــون بهــا عمــا هــم فيــه، كالشــطرنج والنــرد، ونحــو ذلــك مــن تضييــع الصلــوات. فأنكــر الشــيخ عليهــم أشــد اإلنــكار، وأمرهــم بمازمة الصــاة، والتوجه إلــى هللا باألعمــال الصالحــة، والتســبيح واالســتغفار، والدعــاء، بهــم فــي أعمــال ــه، ورغ ــنة مــا يحتاجــون إلي وعلمهــم مــن السهــم علــى ذلــك، حتــى صــار الحبــس بمــا فيــه مــن الخيــر، وحضاالشــتغال بالعلــم والديــن خيــرا مــن الزوايــا والربــط، والخوانــق والمــدارس، وصــار خلــق مــن المحابيــس إذا أطلقــوا يختــارون اإلقامــة عنــده، وكثــر المتــرددون إليــه، حتــى كان الســجن يمتلــئ

)المترجــم([. منهــم«.

145هل كان ابن تيمية به مس من جنون

كان يعــده أصحابــه موتــا محققــا، لــم يســتطع أن

يمنــع نفســه مــن التوقــف قليــا لإلطاحــة برقعــة

علــى بــه يلعبــون قومــا رأى حيــن الشــطرنج،

اديــن)))(. الحد حوانيــت بعــض مســطبة

هــذه قــراءة علــى ر مــن ســيتوف أن وأحســب

ابــن فــي الذهبــي رأي أن لــه ســيتبين المصــادر

ره. وعلــى الرغــم مــن أنــه كان ــر تيميــة كان لــه مــا يب

ــل فضائلــه ــا تتمث شــيخا عظيمــا وشــخصا ألمعي

األساســية فــي الشــجاعة والتقــوى واإليثــار وغــزارة

ــه نب التــي نقائصــه أيضــا لــه كانــت فقــد العلــم،

ة ــل بالدرجــة األولــى فــي حــد ، وتتمث عليهــا الذهبــي

ــه ســيطر عليهــا(، مزاجــه )وإن كان مــن المؤكــد أن

وقلــة صبــره علــى مــا جبــل عليــه البشــر مــن نقــص،

وتصلبــه الشــديد؛ فأمســى بفضــل هــذه الخصــال

مجتمعــة، ســواء أكانــت حســنة أم قبيحــة، شــخصا

ا مغايــرا ألقرانــه مــن العلمــاء الذيــن كانــوا اســتثنائي

أرق منــه حاشــية، ومنهــم الذهبــي نفســه.

رنــا بهــا هــذه الدراســة وتظــل األســئلة التــي صد

قائمــة. ويمكــن طــرح الســؤال األول منهــا بصيغــة

مغايــرة علــى النحــو اآلتــي: هــل يثبــت رأي الذهبــي

فــي ابــن تيميــة مــا قــرره ابــن بطوطــة بشــأنه؟ الحــق

أنــه إذا كان مقصــود ابــن بطوطــة أن ابــن تيميــة

، فينبغــي علينــا ــه الجــن مجنــون، نــوع جنــون، أي: مس

األخــرى المصــادر تخلــو إذ بالكليــة؛ قولــه اطــراح

)))( السابق، ))).]ونــص عبــارة ابــن عبــد الهــادي: »... فلمــا خــف النــاس خــرج يطلــب الجامــع العتيــق، فمــر فــي طريقــه علــى قــوم يلعبــون اديــن، فتقــض بالشــطرنج، علــى مســطبة بعــض حوانيــت الحدالرقعــة وقلبهــا، فبهــت الــذي يلعــب بهــا والنــاس مــن فعلــه ذلــك. ثــم مشــى قاصــدا للجامــع والنــاس يقولون: هنــا يقتلونه، الســاعة قيــل: الجامــع، إلــى وصــل فلمــا يقتلونــه، الســاعة

يغلــق الجامــع عليــه وعلــى أصحابــه ويقتلــون«. )المترجــم([.

تمامــا مــن األدلــة التــي تعضــد هــذا القــول، ومــن

هــذه المصــادر مــا كتبــه الذهبــي نفســه. بيــد أنــه مــن

الواضــح أن ابــن بطوطــة لــم يقصــد إلــى شــيء مــن

ذلــك، وعلينــا أن نتذكــر فــي هــذا المقــام أن عبارتــه

ــف خف قــد شــيئا« عقلــه فــي أن »إال الفجــة

إســماحا أكثــر بــدت أخــرى عبــارات غلوائهــا مــن

فــي وصــف ابــن تيميــة؛ حيــث وصفــه بأنــه »كبيــر

الشــأن، يتكلــم فــي الفنــون .... وكان أهــل

دمشــق يعظمونــه أشــد التعظيــم«)7)(.

ابــن حكــم إن القــول: يمكــن أخــرى وبعبــارة

بطوطــة لــم يكــن ينطــوي علــى إدانــة محضــة البــن

فــي كان لــو حتــى عليــه، ثنــاء شــابه وإنمــا تيميــة،

مســتطاعنا أن نســتنتج أنــه كان مســوقا بشــعور

إلــى بالنظــر بطوطــة، ابــن أن وأعتقــد الحســد.

الســياق الــذي وردت فيــه هــذه المقولــة المـــهينة، لــم

يكــن يقصــد إال أن ابــن تيميــة كان يفتقــر إلــى مــا يكفــي

مــن الحلــم وضبــط النفــس حتــى يصــدر فــي ســلوكه

يــدع علــى نحــو يعــزز مصلحتــه الشــخصية، بحيــث

مــا دأب عليــه بيــن الفينــة والفينــة مــن إثــارة الفتــن

والقاقــل. فــإذا كان هــذا التفســير صحيحــا)8)(، فمــن

ابــن الــذي اتخــذه الصعــب أن ننكــر صحــة المنحــى

بطوطــة فــي وصــف ]شــخصية[ ابــن تيميــة؛ نظــرا

ــده الذهبــي فــي غيــر موضــع. ألن هــذا الوصــف قــد أك

ا، بــل ربمــا بلــغ حــد التطــاول ولئــن كان وصفــا قاســي

والوقاحــة، فإنــه ال يخلــو مــن بعــض الحــق.

وبعــد، فكيــف أثــرت شــخصية ابــن تيميــة علــى

)57( Defrémery and Sanguinetti, Voyages, I, 215.

ــدا: إن ابــن بطوطــة ربمــا )8)( يمكــن القــول بعبــارة أكثــر تحديكان يعنــي أنــه علــى الرغــم مــن رســوخ قــدم ابــن تيميــة فــي ــر عنهــا بــدت غيــر منطقيــة. العلــوم كلهــا، فــإن األفــكار التــي عب

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 146

بــة مــن حيــث كونــه مصلحــا؟ كان ســيرته المتقل

ذلــك بطريقتيــن علــى األقــل؛ إحداهمــا: مــا ألمــح

، كمــا رأينا فــي »النصيحة الذهبية« إليــه الذهبــي

و»بيــان زغــل العلــم«، مــن أن ابــن تيميــة هــو

الــذي جــر علــى نفســه كل هــذه المشــكات، أي

أنــه لــو كان قــد ركــن إلــى شــيء يســير مــن المــداراة

مــن زمائــه مــع عاقاتــه فــي النفــس وضبــط

ــب العلمــاء، ومــع ســلطة الدولــة المملوكيــة، لجن

تســبب التــي المحــن مــن كثيــرا وغيــره نفســه

ق ــه كان ســيوف ــل إن فيهــا، ليــس هــذا فحســب، ب

ــد إلــى نشــر آرائــه بقــدر أكبــر مــن النجــاح. وقــد تأك

هــذا الــرأي فــي موضــع آخــر؛ ]حيــث قــال ابــن حجــر

ــدة فــي نقــا عــن الذهبــي[: »وكانــت تعتريــه ح

تــزرع للخصــم وشــظف وغضــب البحــث

الطــف لــو وإال النفــوس، فــي عــداوة لــه

، فــإن كبارهــم خصومــه، لــكان كلمــة إجمــاع

خاضعــون لعلومــه، معترفــون بشــغوفه،

ــرون بنــدور خطــأه«)))(. مق

ينفــك ال كان تيميــة ابــن أن ذلــك يعنــي وال

عــن معــاداة اآلخريــن واتخــاذ مواقــف متشــددة

لمــا تبعــا أنــه، فالحــق دائمــة؛ بصــورة تجاههــم

يرويــه ابــن عبــد الهــادي، رفــض مطاوعــة الملــك

تــه الراميــة إلــى إعــدام خصومهمــا الناصــر فــي خط

عنهــم، بالصفــح نصحــه إنــه بــل المشــتركين،

وهــذا دليــل كاف علــى إثبــات تســامحه فــي بعــض

ــا أن امتناعــه عــن األحيــان)0)(. ومــع ذلــك، يبــدو جلي

)))( ابن حجر )نقا عن الذهبي(، الدرر الكامنة، 1/1)1.

وانظــر ،(8( ،(8( ص الدريــة، العقــود الهــادي، عبــد ابــن )(0(أيضــا:

Laoust, Essai, pp. 140 -141.

مــداراة خصومــه أو حتــى رعايــة أصدقائــه أســهم

تعــرض التــي المصاعــب فــي جوهريــة بصــورة

والدينيــة السياســية المؤسســة قبــل مــن لهــا

المملوكيــة.

أن المحتمــل مــن يبــدو أخــرى، جهــة ومــن

ــدت فــي نفــوس أعدائــه الخصــال نفســها التــي ول

شــعور الكراهيــة نحــوه وأثــارت اســتنكار الذهبــي

أنصــاره. إعجــاب أكســبته التــي نفســها هــي

عــن المقــام هــذا فــي الطــرف نغــض وســوف

مضمــون معتقداتــه مــرة أخــرى، مفترضيــن أنهــا

يــه مــن ، أقــل أهميــة فــي نظــر محب كانــت، وال بــد

لحــاء، ومــن الجنــد واألمــراء، ومــن »العلمــاء والص

منتصــب ألنــه العامــة؛ وســائر والكبــراء، التجــار

وإن وقلمــه«)1)(، بلســانه ا ونهــار ليــا لنفعهــم

ــا فــي نظــر أقرانــه مــن كانــت بيقيــن عامــا مهم

يــن قــد العلمــاء. فــا ريــب أن مثــل هــؤالء المحب

وجرأتــه، بشــجاعته اإلعجــاب عليهــم اســتولى

وهــي الخصــال التــي كانــت، فيمــا روي لنــا، مضــرب

المثــل)))(.

والواقــع أن شــهرة ابــن تيميــة بــدأت، فيمــا

نقــل إلينــا، حيــن أظهــر هــذه الخصــال فــي لقــاء

غــازان، الســلطان وبيــن بينــه جمــع إنــه قيــل:

إيلخــان الدولــة المغوليــة)))(. زد علــى هــذا أنــه مــن

ــدت فــي الصعــب أن نعتقــد أن خصالــه التــي تجس

شــدة ثباتــه علــى مــا كان يؤمــن بــه مــن مبــادئ،

ومعارضتــه المتقــدة، وحماســته وصراحتــه

)1)( ابن عبد الهادي، العقود الدرية، ص: 118.

)))( ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة، )/))).

)))( ابن حجر، الدرر الكامنة، 4/1)1.

147هل كان ابن تيمية به مس من جنون

أثــارت وإن بخصومــه، واســتخفافه للســلطة،

مثــار تكــن لــم الذهبــي، اســتياء مــن كبيــرا قــدرا

إعجــاب كثيــر مــن أنصــاره الذيــن جنحــوا إلــى تأييــده

اإلعجــاب أن بــد فــا معتقداتــه. إلــى اســتنادا

ــر الدعــم ــا يفس بهــذه الخصــال كان عامــا مهم

ومــا ابــن بطوطــة، إليــه أومــأ الــذي الجماهيــري

اشــتهر بــه مــن تأثير لدى مســئولي دولــة المماليك

علــى اختافهــم)4)(. وبعبــارة أخــرى، أعتقــد أن ابــن

تيميــة لــو كان قــد اتبــع نصيحــة الذهبــي واهتــدى

فــي أخاقــه وتصرفاتــه بالنمــط الســائد بيــن أقرانــه

مــن العلمــاء، أي أنــه لــو كان قــد تعــاون مــع زمائــه

دعوتــه نبــرة وخفــف المملوكيــة، الســلطة وآزر

وحــد مــن غلــواء ســلوكه، مــن أجــل تحاشــي »لفــت

المجتمــع علــى تأثيــره لتقلــص إليــه«، األنظــار

كبيــرة. بدرجــة المملوكــي

ــى مــا ــام، هــل تشــتمل المصــادر عل وفــي الخت

يكفــي مــن المــواد واألخبــار التــي تكفــل النهــوض

بتحليــل نفســي معقــول ]لشــخصية ابــن تيميــة[؟

بالنفــي، تكــون مبلــغ علمــي أن اإلجابــة يجــب أن

علــى الرغــم مــن وفــرة األدلــة والقرائــن التــي تثيــر

خ المهتــم بالمنــازع النفســية، فمــن فضــول المــؤر

ذلــك مثــا: اضطــراب طفولــة ابــن تيمية بأثــر الفرار

ة مزاجــه التــي يرجــع مــن المغــول بالضــرورة، وحــد

تاريخهــا إلــى طفولتــه، واســتغراقه الذاتــي وقلــة

ه ــلطة، وإيثــاره للعزوبــة، وبــر مداراتــه، وتحديــه للس

ــر آقــوش ــا: تأثيــره علــى والــي الشــام األمي )4)( فمــن ذلــك مثاألفــرم ))71هـــ/)1)1م(، واألميــر ســار، نائــب الســلطنة فــي مصــر )710هـــ/10)1م(، وشــيخ العربــان فــي الشــام مهنــى بــن عيســى )))7هـــ/)))1م(، وتبعــا لهنــري الووســت، كان البــن تيميــة تأثيــر

علــى الملــك الناصــر نفســه. انظــر:Laoust, “Biographie”, pp. 140-42, 146.

ــه المحافظــة فيمــا كان يديــن بأمــه، دع عنــك نزعت

المســار لــي أن هــذا يلــوح أنــه بيــد آراء. بــه مــن

والتخميــن الحــدس علــى ســيتكئ الــدرس فــي

بدرجــة كبيــرة؛ نظــرا لقلــة مــا تحويــه المصــادر مــن

وثمــة النفســي. التحليــل هــذا تدعــم معلومــات

مقاربــة أخــرى أكثــر جــدوى تنعطــف بنــا إلــى كتابــات

ــش فــي ابــن تيميــة؛ إذ ربمــا يســوغ لنــا اآلن أن نفت

ــار تلــك الخصــال التــي وقــف هــذه الكتابــات عــن آث

عليهــا الذهبــي فــي شــخصية ابــن تيمية؛بحســبان

جهــة، مــن الذهبــي أحــكام الختبــار ذلــك وســيلة

وفهــم الطابــع الــذي وســم فكــر ابــن تيميــة مــن

جهــة أخــرى.

ومهمــا يكــن مــن أمــر، فإننــا مدينــون بالفضــل

ابــن تيميــة للذهبــي فــي المقــام األول؛ ألنــه جعــل

خــال القائــل المســلمين المفكريــن مــن واحــدا

ال اآلن إلينــا يتحدثــون الذيــن الوســطى العصــور

ولكــن ــدة، متجس غيــر مجــردة أصواتــا بوصفهــم

الواقعيــة أشــد واقعييــن أشــخاصا بوصفهــم

صــوره. أجلــى فــي البشــري بالطابــع موســومين

فــإذا أردنــا أن نفهــم طبيعــة »الظاهــرة التيميــة«،

وأعنــي بهــا إدراك األثــر الكامــل الــذي تركتــه أنشــطة

ابــن تيميــة ومؤلفاتــه علــى تطــور اإلســام، فــا ريــب

أنــه يجــب علينــا أن نبــدأ بطبيعــة الرجــل نفســه.

دونالد ب. لتل

مونتريال

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية148

مراجعات الكتبBook Reviews

مراجعات كتب

149 دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية

Book Reviews | مراجعات الكتب

مراجعات الحداثة: قراءة في كتاب '' الجذور

)األصول( الالهوتية للحداثة''

لمايكل ألين جليسببي.

The Theological Origins of ModernityMichael Allen Gillespie

Abderrahim Elbasri :(((عبد الرحيم البصري

)1( أســتاذ الفلســفة بالســلك الثانــوي التأهيلــي، باحــث فــي الفلســفة المعاصــرة بجامعــة الحســن الثانــي، كليــة اآلداب بنمســيك، الــدار البيضــاء.

[email protected] :اإليميل

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 150

التأريــخ أجــادوا اليــوم الغربييــن المفكريــن أن يبــدو

ألنفســهم أكثــر ممــا مضــى، وأبدعــوا في ذلــك المقاالت

المتباينــة، والمذاهــب التــي نــادرا مــا شــاكل بعضهــا

اآلخــر، ومــا دفعهــم إلــى ذلــك شــيء أكثــر مــن حاجــة فــي

إلــى فهــم حاضرهــم بالوجــه األمثــل، وإلــى نفوســهم

وصــف بأوصــاف القــدح. وقد

تصحيــح الرؤيــة عــن مــاض

اتضــح أن ''ســؤال الحداثــة'' هــو رأس األســئلة الكبــرى

التــي شــغلت حيــزا مهمــا مــن النقاشــات األكاديميــة

األســئلة مــدار وأن 'الغربــي''، المعرفــة مجتمــع فــي

وأصلهــا، الحداثــة معنــى علــى النقاشــات هــذه فــي

ورهانهــا األكبــر، وآفاقهــا فــي الزمــن الراهــن، وهــل هــي

صنيعــة غربيــة خالصــة أم منتــوج كونــي شــاركت فيــه

حضــارات مختلفــة؟ وهــل هــي حقبــة فريــدة مــن تاريــخ

البشــرية، أم أنهــا امتــداد للحقــب التــي قبلهــا )العصــور

الوســطى(؟ وهــل هــي مشــروع مســتدام أم أنهــا مجــرد

حقبــة اســتنفذت مشــروعيتها؟ وهــل هــي مكتملــة أم

مفتوحــة علــى إمكانــات أخــرى ال تنضــب؟ وهــل للحداثــة

التاســع القــرن اختتــم أن بعــد بالديــن؟ خاصــة صلــة

ترســخ أن وبعــد اإللــه، مــوت بإعــان مجــراه عشــر

اعتقــاد حديــث مضمونــه أن تدخــل الديــن فــي الشــأن

العــام لــم يعــد مقبــوال، وبعــد انحطــاط االعتقــاد الدينــي

وانهيــاره فــي أيــام النــاس هــذه، وهــل الحداثــة انتصــار

أيضــا الحداثــة أن أم الخرافــة؟ علــى للعقــل نهائــي

ــوع مــا؟ مســكونة باهــوت مــن ن

الكتــاب الــذي نقتــرح النظــر فــي مضامينــه فســحة فكريــة فــي

متــون العصــور الوســطى األوروبيــة، وارتيــاض فــي معانــي مــا تاهــا

ــة؛ ألفــه أســتاذ الفلســفة األمريكــي مايــكل ألــن مــن القــرون الحداثي

جليســبي. وقــد نشــأت فكــرة الكتــاب مــن حاجــة فــي نفــس صاحبــه

إلــى االنخــراط فــي هــذا النقــاش األكاديمــي حــول مفهــوم الحداثــة،

151مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

إال أنــه امتــاز برغبــة تحــدوه إلــى فهــم مــا حــدث فــي

عالــم اليــوم. وليــس هــذا العالــم، فــي نظــر الكاتــب،

حدثــان شــكلها التــي الصــورة غيــر آخــر بشــيء

ــارزان همــا: ســقوط جــدار برليــن، والهجــوم علــى ب

مــن الحــادي عشــر فــي العالميــة التجــارة برجــي

ســبتمبر/أيلول 001)؛ بالواليــات المتحــدة األمريكيــة.

لــم تكــن تلــك البنايــات مجــرد أثــر بشــري، بــل إنهــا

رمــوز متجــذرة فــي الوجــدان البشــري العــام؛ حيــث

)التوتاليتاريــة( للكليانيــة رمــزا إيــاه الجــدار كان

و''آخــر حــر'' ''عالــم بيــن الحــادة وللمواجهــة

إبــان الحــرب البــاردة. بينمــا كان برجــا مســتعبد''

الــذي الليبرالــي للعالــم رمــزا العالميــة التجــارة

ســقوط حســب وقــد العولمــة، قــوى توحــده

جديــد؛ عالــم ببدايــة إيذانــا حينهــا برليــن جــدار

عنوانــه الحريــة والرخــاء البشــري، بعــد مــا شــهدته

ــة فــي النصــف ــة وكارثي البشــرية مــن أحــداث دامي

الهجــوم أن غيــر العشــرين. القــرن مــن األول

علــى برجــي التجــارة العالميــة قــد بــدد هــذا الوهــم،

أيقــظ فقــد جميــل؛ حلــم مــن الغربييــن وأيقــظ

هــذا الحــدث ''اإلرهابــي'' الخــوف مــن موجــة تطــرف

تكتســح العالــم مهــددة حيــاة اإلنســان المعاصــر

_فــي الغــرب_ وحضارتــه علــى نحــو فظيــع.

رأى الكاتــب فــي الهجــوم علــى برجــي التجــارة

وتحديــا ذاتهــا، الحداثــة علــى هجومــا العالميــة

جديــدا للمشــروع الحداثــي بأســره؛ ولذلــك، يؤكــد

علــى ضــرورة توجيــه عنايــة خاصــة لفهــم مــا تكــون

الحداثــة، أو تحديــدا ضــرورة »العــودة إلــى ســؤال

وتبــدو الحداثــي.« ))( المشــروع )أصــول( جــذور

الحاجــة ماســة إلــى خــوض غمــار التفكيــر مــن جديــد

فــي هــذا الســؤال؛ ألن مجمــل األجوبــة التــي قدمــت

»اإلرهابيــون« أولئــك أقــدم لمــاذا ســؤال علــى

علــى ذلــك الفعــل الشــنيع تبــدو تبســيطية و غيــر

مقنعــة؛ فاالكتفــاء بالقــول إنهــم كانــوا متعصبيــن

ــا، وباحثيــن عــن الشــهادة، أو بأنهــم مؤمنــون ديني

ــر ــال يعوزهــم التنوي خلــص، أو بأنهــم شــرذمة جه

تبقــى المتداولــة األجوبــة مــن وغيرهــا الفكــري،

تدفــع قــد التــي العامــة االنطباعــات حــدود فــي

القلــق الظرفــي الناشــئ مــن مواجهــة مثــل تلــك

الكاتــب، رأي بحســب تتركنــا، أنهــا إال الوقائــع،

أمــام حيــرة أعمــق مــن ذلــك بكثيــر؛ إذ إن كل مــا

وســم هــو االنطباعــات تلــك أصحــاب يفعلــه

ــذرون أصــل ــة بالتعصــب، ولكنهــم ي أعــداء الحداث

تعصبهــم وطبيعتــه بــا تفســير. وهكــذا يتركــون

اإلنســان الغربــي فــي حيــرة مــن أمــره أمــام ســؤال

مفتــوح ال يقــوى علــى مواجهتــه.

الحيــرة هــذه فــي األصــل أن جليســبي يــرى

المقلقــة جــدا ليــس التعصــب بحــد ذاتــه، وإنمــا

جهــل الغربييــن العميــق بأمــر هــؤالء المعارضيــن

الجــدد للحداثــة، أو ســوء معرفتهــم بهــم، ولذلــك

فهمهــم إلــى ماســة حاجــة ثمــة أن علــى يؤكــد

ــر أن فهــم هــؤالء »اآلخريــن« بالنحــو األشــمل؛ غي

لــن يتــم إال بشــرط اإلقــدام علــى فهــم الــذات؛ ألن

اإلشــكال فــي نظــر الكاتــب هاهنــا مــزدوج؛ إذ إنــه

الغربييــن فــي فهــم بإخفــاق يتعلــق فحســب ال

))( مايــكل أليــن جيلســبي، الجــذور الاهوتيــة للحداثــة، ترجمــة فيصــل بــن أحمــد الفرهــود، جــداول للنشــر والترجمــة والتوزيــع،

بيــروت، لبنــان، ط1، )01)، ص ).

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 152

هــؤالء »اآلخريــن«، ولكــن فــي »فشــلهم فــي فهــم

أنفســهم«. فقــد كان هــذا التحــدي الجديــد الــذي

ــه ــة عســيرا علــى الفهــم بســبب أن ــه الحداث واجهت

أجبــر الغربييــن علــى مواجهــة إشــكال مدفــون فــي

الــذي باطــن الوجــدان الحديــث، هــو القــرار األول

جــاء بهــذا الوجــدان الحديــث وبالعالــم الحديــث إلــى

االعتقــاد يخــص مكانــة الــذي القــرار أي الوجــود،

الحداثــة إن حيــث المحدثيــن؛ عالــم فــي الدينــي

مــا جــاءت إال مــن حيــث هــي نتيجــة مســار إزاحــة

االعتقــاد الدينــي مــن وضــع كانــت لــه فيــه الهيمنــة

ــرة المجــال ــزواؤه فــي دائ ــاة العامــة، وان ــى الحي عل

الخــاص؛ حيــث يمكــن أن يمــارس بــكل حريــة مــادام

ال يشــكل خطــرا علــى الســلطة الدنيويــة أو علــى

العلــم و العقــل.

ــدءا هــو أن ــه ب ــؤد المؤلــف التأكيــد علي إن مــا ي

ــم إال بشــرط حصــول ــي ال يت فهــم التعصــب الدين

فهــم معمــق ألصــول الثقافــة الغربيــة نفســها

هــذه وأن ونقائضهــا، الحداثــة أنتجــت التــي

أعمــاق فــي بجذورهــا ضاربــة الحديثــة الثقافــة

الديــن، ولســان حــال المؤلــف يقــول إننــا »مــا لــم

نفهــم األســاس الاهوتي/الميتافيزيقــي للحداثــة،

ســنظل غيــر قادريــن علــى فهــم العــداء المحفــز

مــن قبــل الديــن للحداثــة وردنــا عليــه. أن المواجهــة

أكبــر فهمــا ذلــك إثــر علــى منــا تتطلــب الحاليــة

لبداياتنــا الاهوتيــة والدينيــة، وهــذا ال يعــود إلــى أن

فهمنــا هــو الســبيل الوحيــد لذلــك، بــل مــن أجــل

لرغباتنــا الكامنــة المنابــع فهــم فــي مســاعدتنا

تواجهنــا.« ))(. التــي والمخاطــر وقدراتنــا

))( المصدر نفسه، ص11.

أطروحة الكتاب

يذهــب مايــكل ألــن جليســبي إلــى التأكيــد علــى

متصلــة البشــرية تاريــخ أن موجزهــا أطروحــة

الــذي المجــال وأن ببعــض، بعضهــا أطرافــه

ــة، بــل وطرفهــا ــه أبعــد عــن الحداث ــا أن حســب قب

مــن الحداثــة إلــى أقــرب هــو _الديــن_ النقيــض

نفســها، أو لنقــل إنــه أقــرب إليهــا مــن الفكــرة التــي

تكونــت عنهــا بســبب األدب المكتــوب منــذ مــا يربــو

عــن قــرن ونيــف مــن الزمــان. وإذ يؤكــد علــى ذلــك،

فهــو إنمــا يســعى إلــى االعتــراض علــى أطروحــات

متداولــة بهــذا الصــدد؛ تقــول بــأن الحداثــة شــكلت

قطيعــة تامــة مــع مــا قبلهــا، ســواء تمثــل هــذا

ــم ــل« فــي الاهــوت الكنســي، أو فــي العل »الماقب

القــرون فــي وامتداداتــه البطلمي_األرســطي،

الوســطى الغربيــة؛ بيــد أن صاحــب الكتــاب حتــى

وهــو يذهــب إلــى تأكيــد اتصــال التاريــخ البشــري،

أخــرى فــي فهــم طبيعــة هــذا لــه ســبيا يجتــرح

االتصــال ورهاناتــه )تختلــف_ مثــا_ عــن وجهــة نظــر

كرومبيــه(. كمــرون ألســتير األســترالي المــؤرخ

ألفينــاه أننــا فــي المباينــة إلــى ويظهــر مســعاه

ينخــرط فــي نقــاش مــع أبــرز المواقــف الفلســفية

المعروفة في هذا الشــأن؛ منذ هيغل على األقل،

الــذي يعــود إليــه ترســخ فهم للحداثــة يعتبرها نتاج

جهــود أنــاس اســتثنائيين اســتطاعوا دحــر الخرافــة

والشــعبذة، فتحقــق بفضلهــم االنتصــار النهائــي

للعقــل علــى الجهــاالت المطويــة فــي تضاعيــف

بحســب »المشــين« علــى انتصــاره أو الديــن،

تعبيــر األديــب والمفكــر األلمعــي الفرنســي فولتيــر.

أو المجــيء المظفــر لعصــر األنــوار الــذي يقطــع

153مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

الــذي جلســون وإتيــان الظلمــات... عصــر مــع

راجــع هــذه األطروحــة مبينــا أن هــؤالء الــذي يظــن

أنهــم حداثيــون خلــص يدينــون بالكثيــر ألســافهم

لوفيــت بــكارل ا مــرور هايدغــر، إلــى القدامييــن،

وهانــز بلومنبــورغ.

أســس علــى إذا الكتــاب أطروحــة تقــوم

ســجالية معلنــة، فــي وســعنا تحديدهــا مــن جهتــي

الســلب واإليجــاب؛ أمــا مــن جهــة الســلب، فإنهــا

انبســطت بوضــوح فــي اعتــراض الكاتــب علــى كثيــر

أصــل بخصــوص المشــهورة األطروحــات مــن

ــه الوقــوف الحداثــة ومعناهــا، ويهمنــا مــن ذلــك كل

علــى الصلــة الفريــدة التــي تقيمهــا أطروحــة الكتاب

مــع أطروحــة الفيلســوف األلماني هانــز بلومنبورغ،

الــذي رأى بــأن الحداثــة تحــوز مشــروعيتها الخاصة،

أطروحــة صاحــب حســبها كمــا ليســت وأنهــا

األشــياع مــن بالكثيــر حظيــت التــي »الدنيــوة«

مــن والســتينيات الخمســينيات ســنوات خــال

األلمانــي الفيلســوف بــه عنينــا الماضــي، القــرن

كارل لوفيــت الــذي اعتبــر العصــر الحديــث امتــدادا

للمثــل »دنيــوة والحداثــة الوســيط، للعصــر

secularization Christian ideals المســيحية«

األطروحــة هــذه علــى بلومنبــورغ يعتــرض .of

هــو ليــس الحديــث العالــم إن بالقــول الرائجــة

»دنيوتــه«، تمــت بعدمــا ذاتــه الوســيط العالــم

بقــدر مــا أنــه شــيء جديــد وفريــد مــن نوعــه. ظهرت

بصفتهــا بلومنبــورغ، رأي بحســب الحداثــة،

ــار ــذي خلفــه انهي ــى اإلشــكال ال ــي عل الجــواب الثان

الغنوصيــة إشــكال وهــو الوســيط، العالــم

تحديــدا؛ حيــث ظهــرت هــذه األخيــرة مــن جديــد فــي

نهايــة العصــور الوســطى فــي شــكل نزعــة إســمية

)الســكوالئية(، المدرســية النزعــة أركان هــدت

وأنشــأت الرؤيــة الخاصــة بــاإلرادة البشــرية؛ فــي

بإلــه الخــاص المدرســي التصــور مــع تعــارض

يعتبــر الكــون. فــي النظــام صانــع هــو عقانــي

جديــدة؛ غنوصيــة بمثابــة اإلســمانية بلومنبــورغ

تأســيس إلــى ســاعية ضدهــا؛ الحداثــة قامــت

أرضيــة للرفــاه البشــري مــن خــال مفهــوم »إثبــات

أصــل إن آخــر؛ وبتعبيــر ،self-assertion الــذات«.

الحداثــة هــو مــن أصــل المســيحية ذاتهــا، بمعنــى

أنهمــا معــا صــدرا مــن الدافــع نفســه، فــإذا كانــت

األولــى جوابــا علــى إشــكال الغنوصيــة فــي صورتهــا

الجــواب ســوى ليســت الحداثــة فــإن األولــى،

الثانيــة صورتهــا فــي الغنوصيــة علــى التاريخــي

والجديــدة، وهكــذا فــإن الحداثــة بهــذا المعنــى لــم

تكــن مجــرد دنيــوة للمســيحية ولكنهــا كانــت شــيئا

جديــدا تمامــا ومشــروعا legitime )مــن هنــا عنــوان

بحســب الحديثــة( العصــور مشــروعية كتابــه

المرحلــة الحداثــة هــي أن بلومنبــورغ يؤكــد رأيــه.

ســببا كان الــذي اإلشــكال مجــاوزة فــي الثانيــة

ــة. فــي نشــأة المســيحية، وهــو إشــكال الغنوصي

ســعي ألن ــا؛ ضروري الحداثــة مجــيء كان وقــد

ــة بــاء بالفشــل المســيحية إلــى مجــاوزة الغنوصي

الذريــع، ولذلــك عــاودت الظهــور فــي نهايــة العصــر

الوســيط فــي شــكل فلســفة إســمانية لكــي تدخــل

المدرســية، الفلســفة مــع حــادة مواجهــة فــي

ســوف ينجــم عنهــا ميــاد مــا نعرفــه اليــوم باســم

الحديــث. العصــر

ترتبــط أطروحــة الكتــاب بأطروحــة بلومنبــورغ

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 154

وتســعى إلــى مجاوزتهــا؛ اتصــاال وانفصــاال، وفــي

موقــف مايلــي:»إن المؤلــف يؤكــد المعنــى هــذا

لكنــه الصحيــح، االتجــاه فــي يضعنــا بلومنبــورغ

للحجــة الميتافيزيقــي المغــزى إدراك عــن ذهــل

يقــدر لــم التــي قدمهــا هــو نفســه، وهكــذا فانــه

الحداثــة بــه تشــكلت الــذي النحــو ينبغــي كمــا

لــإلرث البنيتيــن الميتافيزيقيــة والاهوتيــة داخــل

بلومنبــورغ مــع المؤلــف يتفــق )الوســيط(«)4(.

فــي فكــرة أن الحداثــة لــم تنشــأ فــي اتصــال مــع

أنهــا مــا بقــدر ضدهــا، وال الوســطى العصــور

فــي يختلــف معــه علــى أطالهــا، ولكنــه نشــأت

بــأن يــرى فهــم هــذا األمــر؛ فــإذا كان بلومنبــورغ

أرقــى »األفــكار« الحديثــة وأرفعهــا لــم تكــن صــادرة

مــا بقــدر تجاوزهــا، أو الوســيطة، األفــكار مــن

أنهــا أســقطت بقايــا عالــم وســيط بعــد أن أحالــه

الصــراع المهلــك بيــن المدرســية واالســمانية إلــى

أطــال؛ فــإن جليســبي يــرى شــيئا ناقصــا فــي هــذا

الموقــف يتمثــل فــي أن األنحــاء التــي اتخذهــا الفكــر

الحديــث لــم تكــن كمــا ظــن _حســبها_ بلومنبــورغ

التــي للمواضــع اعتباطــي مــلء« »إعــادة مجــرد

انهيــاره، بعــد فارغــة الوســيط العصــر تركهــا

الميتافيزيقيــة لإلمكانــات تحققــا كانــت وإنمــا

هــذه تبــدو قــد وراءه. خلفهــا التــي والاهوتيــة

النقطــة جزئيــة غيــر ذات أهميــة، لكــن التفاصيــل

المفاجــآت. قــد تخلــق

أمــا مــن جهــة اإليجــاب، فــإن أطروحــة الكتــاب

ــر يمكــن أن تتجلــى معالمهــا الكبــرى فــي أربــع فك

)4( Michael Allen Gillespie , the theological orgins of modernity, the university of Chicago press, Chicago and London, 2008 , p. 27.

عامــة نبســطها علــى النحــو التالــي:

أوال: أن فكــرة الحداثــة، كمــا يفهمهــا المؤلف،

ترتبــط بفكــرة العصــر القديــم )اإلغريقــي( ارتباطــا

وثيقــا، حيــث إن التمييــز بيــن »القديــم« و»الحديــث«

»الحيــاة اصطاحــي بيــن التمييــز مــن مشــتق

via الحديثــة« و»الحيــاة via antiqua القديمــة«

moderna، وهــو تمييــز يعــود إلــى القــرن العاشــر

التمييــز هــذا األصــل فــي يكــن لــم إذ الميــادي؛

ا؛ وقــد هــم موقفيــن متباينيــن ــا بــل فلســفي تاريخي

مــن الكليــات، يرتبطــان بنحويــن مختلفيــن فــي

قــراءة أرســطو، وهكــذا فــإن »الحيــاة القديمــة«

كانــت هــي المســلك الواقعانــي القديــم الــذي رأى

بينمــا القصــوى، بواقعيتهــا تتمتــع الكليــات أن

كانــت »الحيــاة الحديثــة« هــي المســلك اإلســماني

الجديــد الــذي رأى أن األشــياء الجزئيــة هــي وحدهــا

أســماء، مجــرد فهــي الكليــات أمــا الواقعيــة؛

المنطــق حــدود يلزمــا لــم يــن التمييز وأن هذيــن

فحســب، وإنمــا تعديــاه إلــى توفيــر خطاطــة فهــم

جديــدة للزمــان وللكينونــة ذاتهــا.

دعــم إلــى تســعى كانــت الحداثــة أن ثانيــا:

منظــور معيــن للديــن، واإلتيــان برؤيــة جديــدة لــه

وإن حتــى وأنهــا البشــرية، الحيــاة فــي ولمنزلتــه

ســعت إلــى تحقيــق ذلــك غيــر بعيــد عــن عدائهــا

تدعــم أن أجــل مــن فإنمــا الديــن، تجــاه البيــن

تصيــر ســوف التــي الدينيــة االعتقــادات بعــض

الحداثــة. وأن ذلــك ســيتجلى فــي حاملــة لطابــع

فكــر أعــام الحداثــة أنفســهم، مــع مراعــاة الفــروق

بينهــم بطبيعــة الحــال؛ ولذلــك فإنــه مــن الخطــأ

ــة فــي أصولهــا وفــي جوهرهــا ــل أن الحداث أن نتخي

155مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

كانــت ملحــدة، ومعاديــة للديــن، أو حتــى أنهــا ضــرب

مــن الغنوصيــة؛ ألن الحداثــة منــذ بدايتهــا المبكــرة

مــا كانــت تســعى إلــى محــو كل أثــر للديــن، وال هــي

كانــت تــروم إبطالــه.

ــا: أن الحداثــة مــا جــاءت إال مــن حيــث هــي ثالث

جــواب علــى »ســؤال عصــر« أســاس، حررنــا مــن

إمكانــات مســتقبلية. علــى أعيننــا مــاض، وفتــح

التــي الهايدغريــة بالخلفيــة هاهنــا المؤلــف يقــر

يتبناهــا فــي فهــم الموضــوع؛ ولذلــك فــإن الحداثــة

يقــف خلفهــا ســعي إلــى إيجــاد جــواب ميتافيزيقــي/

المتعلــق األســاس الســؤال علــى الهوتــي

بطبيعــة اإللــه واإلنســان والعالــم الطبيعــي، وعــن

العاقــة بينهــا، وهــو ســؤال بــرز فــي عالــم العصــر

المحتــوم المنتهــى باعتبــاره المتأخــر الوســيط

للصــراع المحتــدم بيــن العناصــر المتناقضــة داخــل

المســيحية نفســها. لقــد نشــأت الحداثــة نتيجــة

محاولــة حــل هــذا النــزاع؛ مــن خــال تأكيــد األولويــة

كذلــك(، هايدغــر للطبيعة)بتعبيــر »األونطيــة«

بــدال مــن اإلنســان )كمــا فعلــت النزعــة اإلنســية(

أو اإللــه )كمــا فعــل اإلصــاح الدينــي(. أســهمت

الطبيعانيــة البدايــة هــذه خــال مــن الحداثــة،

هــذه بيــن النــزاع حــدة تخفيــف فــي الجديــدة،

الموجــودات الثاثــة، وإن تاريــخ الحداثــة ال يفهــم

إال مــن حيــث هــو نتيجــة لسلســلة مــن المســاعي

إلــى إيجــاد طريــق خــارج األزمــة التــي خلقتهــا الثــورة

اإلســمانية؛ غيــر أنهــا لــم تقــدر علــى إزالــة التناقــض

فــي قلبهــا مــن دون أن تزيــل إمــا اإللــه أو اإلنســان،

ــه ال تمــر مــن دون أن تجعــل ــة اإلل وبديهــي أن إزال

مــن اإلنســان بهيمــة، وأن إزالــة اإلنســان ال تتحقق

مــن دون أن توقــع فــي التعصــب الاهوتــي))(.

البــد المعاصــرة الكينونــة فهــم أن رابعــا:

أن يأخــذ فــي حســبانه طبيعــة الســؤال الاهوتــي

الــذي أتــى بالعالــم الحديــث إلــى الوجــود؛ ألن هنــاك

الهوتــا كامنــا فــي الحداثــة نفســها، وألن مــا حســب

عنــد مفكــري القرنيــن التاســع عشــر والعشــرين

ابتعــادا للعالــم البشــري عــن الديــن، أو موتــا لإللــه،

ليــس إال تحويــا للصفــات لإللهيــة إلــى الطبيعــة،

وإلــى اإلنســان.

الثورة االسمانية وانبساط اإلمكان الحداثي

the medieval تعــود أصــول العالــم الوســيط

بيــن التــي تحققــت التوليفــة الفريــدة إلــى world

المســيحية والفلســفة الوثنيــة فــي رحــاب الحقبــة

المتـــأخرة. القديمــة الفتــرة إبــان الهلنســتية؛

األول القرنيــن خــال اإلســكندرية فــي ذلــك بــدأ

امتزجــت حيــث )1_00)م(؛ الميادييــن والثانــي

الوقــت فــي ومتصارعــة مختلفــة، بأشــكال

نفســه، مشــارب متنوعــة مــن الفكــر المســيحي

واألفاطونيــة الشــرقية، الدينيــة واالعتقــادات

المحدثــة، وتنويعــات أخــرى مــن الــرؤى الفلســفية

تعكــس لــم االمتــزاج ذلــك فــي وهــي العتيقــة؛

الروحــي والفكــري لتلــك ســوى حقيقــة االهتيــاج

أهــم فــي المحدثيــن عالــم حــددت التــي األزمــان

كامنــة إذا الحداثــة أصــول الحيويــة. مفاصلــه

ــر ــي الكبي فــي هــذا الصــراع الميتافيزيقــي والاهوت

ــم الوســيط، وحــول وجــه ــة العال ــذي وســم نهاي ال

)5( ibid.,p.32.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 156

أوروبــا فــي القــرون الثاثــة التــي فصلــت العالــم

ــاخ ــرز فــي هــذا المن الوســيط عــن الحديــث. وقــد ب

الفكــري ثاثــة أعــام التقــوا جميعهــم ســنة )))1

فــي يــوم قــداس أقيــم فــي كاتدارئيــة نوتــردام دي

أصبحــت التــي الفرنســية أفنيــون بمدينــة دوم،

النصيــب الثاثــة لهــؤالء كان البابويــة. مركــز

العظيــم فــي تحديــد معالــم المــآل الــذي عرفــه هــذا

الصــراع ســواء أكان ذلــك فــي عصــر الحداثــة أو فــي

المؤلــف، تقديــر فــي الثاثــة، وهــؤالء بعــده. مــا

إنجليزيــا كان وقــد األوكامــي، وليــام أوال: هــم:

فرنسيســكانيا، ثانيــا: فرنشســكو بتــرارك، وقــد

ميتــر األلمانــي ثالثــا: يافعــا، إيطاليــا شــابا كان

فــي بــدا دومينكانيــا شــيخا كان الــذي إيكهــارت

المؤلــف يؤكــد تأماتــه. فــي غارقــا اليــوم ذلــك

األعــام هــؤالء التــي ســلكها الثــاث الطــرق أن

الثاثــة بعــد انتهــاء القــداس فــي أفنيــون هــي التــي

ألنهــم الحديــث؛ العالــم إلــى اإلنســانية ســتقود

وقــد اآلتــي، العظيــم التغييــر علــى كانــوا عامــة

بطبيعــة المتعلــق المركــزي الســؤال واجهــوا

اإللــه واإلنســان والطبيعــة، وبحثــوا لــه عــن جــواب.

عليهــم، الاحقيــن وأجوبــة »أجوبتهــم، إن إذ

والتــي كانــت متنوعــة ومتناقضــة فــي الغالــب، قــد

شــكلت مامــح العالــم الحديــث؛ حيــث إنهــا أعــادت

تعريــف طبيعــة اإلنســان واإللــه والكوســموس

بينهــم.« ))(. العاقــة وكــذا

ســياق فــي المدرســية الفلســفة ازدهــرت

العقانيــة مــن الهلنســتية، وهــي مزيــج الحقبــة

الوثنيــة والعقيــدة المســيحية. وإذا كانــت النزعــة

)6( Ibid., p. 58 .

ا المدرســية قــد عرفــت، عبــر تاريخهــا، تنوعــا كبيــر

رغــم فإنهــا االتجاهــات، وفــي المشــهد فــي

ذلــك قــد تجلــت بوجــه أبــرز فــي الواقعانيــة علــى

فهمهــا كمــا الواقعانيــة، كانــت التحديــد. وجــه

الكليــات بــأن االعتقــاد علــى تقــوم المدرســيون،

لهــا وجــود حقيقــي خــارج الذهــن، حيــث رأى أنصــار

واألجنــاس _األنــواع الكليــات أن االتجــاه هــذا

المنطقيــة_ هــي وحدهــا األشــياء الواقعيــة علــى

فهــي الجزئيــة الفرديــة الموجــودات أمــا التمــام،

ترتــب وقــد الكليــات. لتلــك فرديــة أحــوال مجــرد

عــن هــذه القــراءة األفاطونيــة المحدثــة ألرســطو

رؤيــة خاصــة لإلنســان واإللــه والكــون، تعتبــر أن

هــذا وأن اإللهــي؛ العقــل نفســها هــي الكليــات

إمــا الــذي يكشــف نفســه لإلنســان العقــل هــو

بواســطة »اإلشــراق«، كما حســب أوغســطين، أو

تقصــي الطبيعــة، كمــا هــو شــأن طومــا األكوينــي

الطبيعــة صــارت وهكــذا أتباعــه. مــن وآخريــن

والعقــل يعكســان بعضهمــا، وأصبحــت الســبيل

القيــاس هــي الطبيعــة اكتشــاف إلــى المثلــى

المنطقــي الــذي يحــدد البنيــة العقانيــة للعاقــات

زيــادة علــى أن التــي تربــط األنــواع مــع بعضهــا.

اإللــه لمــا كان متعاليــا فــي ســمائه )وهــو الموجــود

األســمى بيــن كل الموجــودات_ محــرك ال يتحــرك(،

فإنــه بــات قابــا للفهــم مــن خــال صنعتــه )خلقه(.

طبيعــي، موجــود ســوى فليــس اإلنســان أمــا

لــه غايــة محــددة ســلفا؛ مثلــه فــي ذلــك مثــل كل

النزعــة أسســت هكــذا الطبيعــة؛ فــي موجــود

فيــه يســتطيع تصــورا الواقعانيــة المدرســية

المنطــق والاهــوت الطبيعــي أن يكونــا بــدال عــن

الوحــي اإللهــي، أو علــى األقــل، أن يكونــا ســندين

157مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

ــة النــاس، وجعلــت مــن ــه فــي مخاطب ضرورييــن ل

المقــدس. الكتــاب عــن االســتغناء اإلمــكان

بحثــت االســمانية، بخــاف ذلــك، عــن نــزع هــذا

الحجــاب العقانــي عــن وجــه اإللــه، وكان الهــدف

هــو تأســيس مســيحية حقيقيــة باالســتناد علــى

بذلــك قامــت عندمــا لكنهــا المقــدس؛ الكتــاب

قدمــت اإللــه بوجــه آخــر تمامــا، يبــدو فيــه قاهــرا

ا، وغيــر قابــل للمعرفــة، ال يمكــن اإللمــام بــه ال جبــار

بواســطة العقــل وال اكتشــافه فــي الطبيعــة؛ ثــم

إنهــا جعلــت أفعالــه غيــر قابلــة للتوقــع، وكشــفت

أنــه غيــر مبــال ال بالخيــر وال بالشــر. إن هــذه الرؤيــة

عــن اإللــه قلبــت نظــام الطبيعــة المدرســي إلــى

فوضــى مــن الموجــودات الفرديــة، ونظــام المنطــق

واإلنســان األســماء، مــن تسلســل مجــرد إلــى

فــي االعتباريــة مكانتــه مــن إزالتــه تمــت نفســه

بــه فــي كــون النظــام الطبيعــي لألشــياء وألقــي

دليــل أي وال طبيعــي، قانــون أي دون المتنــاه

ذلــك: مــن أبعــد بــل للخــاص؛ يقينــي نهــج وال

لقد أحدثــت ثــورة داخــل المســيحية ذاتهــا كانــت

بمثابــة »ثــورة أنطولوجيــة وضعــت الكينونــة ذاتهــا

أنطولوجيــا أنشــأت إنهــا إذ ســؤال}...{ موضــع

عــن جديــدا وتصــورا جديــدا، ومنطقــا جديــدة،

اإلنســان، واإللــه، والطبيعــة. وقــد تشــكل الفكــر

األوربــي الاحــق كلــه مــن خــال هــذا التحــول )7(«

كانــت نتيجــة هــذه الثــورة االســمانية ســحب

البســاط مــن تحــت أقــدام الكنيســة، إذ لــم تعــد هي

مــن يحــدد قدســية األشــياء، وال هــي بقيــت ســبيل

االســماني اإللــه هــذا ألن األخــروي؛ الخــاص

)7( Ibid., P.31.

ــن يحــرم الخــاص كل مــن يقــوم مطلــق القــدرة ل

بــكل مــا يســتطيع مــن أجلــه؛ فقــد أصبــح الخــاص

تلــزم علويــة بســلطة يتعلــق ال فرديــا شــأنا

النــاس بالعطــاء، وإنمــا صــار مرتبطــا بمــا ســمي

فــي ســياق الرؤيــة االســمانية بـ»مبــدأ العمــل«.

الكاتــب . ولذلــك يؤكــد )Facientibus principle(

أن البدايــات البكــر للحداثــة كامنــة فــي هــذا اإللــه

ــه ــم يعــد باإلمــكان القبــض علي ــذي ل االســماني ال

بواســطة الكلمــات، وإنمــا صــار فقــط باإلمــكان

ا أثــار الرهبــة والجــزع اختبــاره بصفتــه ســؤاال جبــار

فــي النفــوس)8(.

عاشــتها التــي التاريخيــة التجربــة ســاعدت

أوروبــا خــال العصــر الوســيط المتأخــر علــى جعــل

بحيــث بــه؛ لإليمــان قابــا االســماني اإللــه هــذا

اختبــرت البشــرية فــي ذلــك اإلبــان شــتى صنــوف

واالنشــقاق األســود، الطاعــون مثــل المحــن؛

الكنســي الكبيــر، وحــرب المائــة ســنة المشــهورة،

قــدر ألكبــر عجــل الــذي النــاري الســاح واختــراع

مــن النــاس بالهــاك؛ ثــم إجمــاال، تدهــور العالــم

الصليبيــة، الحمــات فشــل بســبب المســيحي

وبســبب الخطــر الداهــم المحــدق بــه الــذي مثلــه

بــدا ولذلــك والغــرب))(. الشــرق فــي اإلســام

للنــاس أن الكــون ال يعيــش التناغــم المزعــوم، بــل

الصــراع، وتهيــأ لهــم أن العالــم الــذي يعيشــون

فيــه هــو عالــم حــرب دائمــة بيــن اإللــه واإلنســان

والطبيعــة.

ظهــر هــذا التوجه االســماني عــن اإلله المخيف

)8( Ibid ., p .30.

))( مايكل ألن جيلسبي، الجذور الاهوتية للحداثة، ص )10.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 158

ــر والمطلــق القــدرة فــي أعمــال دان ســكوت وكثي

مــن االســمانيين، لكنــه تجلــى بالوجــه األبــرز عنــد

رأى لقــد الاحقيــن. وأشــياعه األوكامــي وليــام

وليــام األوكامــي أن ثمــة هــوة كبيــرة تفصــل اإللــه

عــن اإلنســان، ولذلــك، فــا وجــود لمعرفــة ممكنــة

عــن اإللــه إال بواســطة الوحــي واإليمــان أولا، وال

يمكــن للعقــل أو للطبيعــة ثابــت لنظــام وجــود

لإلنســان أن يدركــه. يؤكــد جلســبي مايلــي: »رفــض

بيــن العقــل والوحــي، التوليفــة المدرســية أوكام

وقــوض األســاس الميتافيزيقي/الاهوتــي للعالــم

الوســيط« )10(. إن عطــاء اإللــه، بحســب رأي أوكام،

يمكــن ال بحيــث محــض؛ وإفضــال عنايــة فعــل

ــم، )ألنهــا أوصــاف أن يوصــف بالعــادل وال بالظال

ــه ــإرادة مطلقــة تجعل ــه يتمتــع ب بشــرية(؛ ألن اإلل

للتقصــي الموجــه المبــدأ أمــا يشــاء، مــا يفعــل

أوكام، إلــى بالنســبة االســماني، المنطــق فــي

فقــد كان هــو نصلــه المشــهور الــذي يقتضــي »أال

ــر مــن الكليــات دونمــا حاجــة إليهــا«. وقــد بيــن نكث

أوكام أن اإلنســان كائــن متنــاه ال يســتطيع منــح

معنــى للعالــم مــن دون الكليــات، إال أنــه أكــد »أن

كل تعميــم يأخذنــا فــي خطــوة إضافيــة بعيــدا عــن

الواقــع؛ ولهــذا الســبب، فإننــا بقــدر مــا نســتعمل

منهــا األقــل نبقــى أقــرب إلــى الحقيقــة« )11(. يــرى

نزعــة فحســب تكــن لــم االســمانية أن الكاتــب

فلســفية أو تيــارا فكريــا، بــل كانــت بمثابــة »الهــوت

الكنيســة حاولــت ولذلــك فرانسيســكاني«.

كان أوكام أن إلــى بالنظــر لكــن عليهــا، القضــاء

)10( Gillesspie, The theological orgins of modernity,op.cit. p37.

)11( Ibid., p. 38.

عضــوا فــي البــاط اإلمبراطــوري فــي أفنيــون، فقــد

بــاءت محــاوالت الكنســية بالفشــل.

بيــن النقــاش انخــرط فــي هــذا كان أول مــن

المدرســييين واالســمانيين، وأول مــن واجــه هــذه

المعضلــة، معضلــة العاقــة بيــن اإللــه االســماني

واإلنســان والطبيعــة، بحســب رأي المؤلــف، هــو

ارتكــز الــذي ،)1(74_1(04( بيتــرارك فرانشيســكو

علــى أســس اســمانية فــي تقديمــه رؤيــة جديــدة

لعيــش الحيــاة المســيحية، أرادهــا مســيحية أقــل

طقوســية وأكثــر روحانيــة وناقدة للفســاد والنفاق

األوان؛ ذلــك فــي النفــوس علــى تســيد الــذي

رئيســا فاعــا والفكــري األدبــي إســهامه فــكان

فــي تقويــض التصــور المدرســي للكــون المتناغــم

والغائــي. بتــرارك كان أهــم مــن انبســط فــي كتاباتــه

وبيــان الفردانيــة. وهــو الحداثــة، مقومــات أحــد

ذلــك أنــه فــي مواجهتــه النهيــار النظــام السياســي

والحضــاري األوروبــي فــي ذلــك اإلبــان، مــا توجــه

ال إلــى المدينــة، وال إلــى اإللــه، وال إلــى الكــون مــن

أجــل طلــب المــدد واإلســعاف، ولكنــه لجــأ إلــى ذاتــه

ويؤســس المفقــودة، الثبــات أرض فيهــا ليجــد

أمــا جديــدا فــي الفردانيــة البشــرية القــادرة علــى

مجــاوزة النكبــاء. لقــد اكتشــف بيتــرارك أساســا

جديــدا للحيــاة البشــرية خلــف الديــن والمجتمــع،

ووســط الحــرب والخــراب، اكتشــف أساســا لمــا

الحديــث. العصــر هــو ذلــك بعــد مــا فــي أصبــح

ــر ــه كلهــا علــى ذلــك، بحيــث »آث وقــد شــهدت حيات

كل رافضــا وحريتــه، خصوصيتــه علــى الحفــاظ

عــروض حيــاة البــاط، وهــذا مــا جعلــه يختــط مثــاال

فــي ذلــك للحيــاة الفكريــة المســتقلة التــي أصبحت

159مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

مركزيــة فــي التــراث اإلنســانوي، وهــو مــا اســتمر

فــي لعــب دور مهــم حتــى هــذا اليــوم ))1(«.

فــي تجســدت ــا حي نموذجــا بتــرارك كان

كتاباتــه فكــرة ثوريــة عــن اإللــه واإلنســان وقفــت

األصليــة الخطيئــة عــن الســائد المعتقــد ضــد

التــي جــردت األفــراد مــن قيمتــم الجوهريــة، ومــن

كان فقــد الفــردي، الكمــال بلــوغ علــى قدرتهــم

وإلــى اإليمــان ذاتيــة أقــرب بالديــن اهتمامــه

مفهــوم الخــاص الفــردي فــي هــذا العالــم أكثــر

مــن ارتباطــه بمعنــى الوعــود اإللهيــة. إذ ركــز علــى

فــرادة الكائــن البشــري واســتنهض قــواه الكامنــة

فيــه، وكانــت فكرتــه هاتــه هــي أســاس المشــروع

اإلنســانوي فــي عصــر النهضــة، وأحــد مقومــات

العالــم الحديــث فــي مــا بعــد.

المؤلــف ركــز وبتــرارك، أوكام إلــى إضافــة

ميتــر األلمانــي المتصــوف أعمــال أهميــة علــى

الــذي .)1((8–1((0( Meister Eckhart إيكهــارت

النزعــة أســس تقويــض فــي بــدوره أســهم

أنــه كان متأثــرا كثيــرا بالرغــم مــن إذ المدرســية،

فــي تشــكلت أنهــا إال المحدثــة، باألفاطونيــة

بــدا وقــد الصوفيــة، نزعتــه منــوال علــى فكــره

ذلــك مــن خــال العاقــة الجديــدة التــي تصورهــا

أن رأى حيــث والطبيعــة؛ واإلنســان اإللــه عــن

الخالصــة، والقــدرة الخالصــة، اإلرادة هــو اإللــه

والفعــل الخالــص. وليــس العالــم فــي صيرورتــه

إال النحــو الــذي تنبســط بــه اإلرادة اإللهيــة؛ وبهــذا

يكــون اإللــه حــاال فــي العالــم، ليــس كمــا حســب

المدرســيون)أي بمــا هــو ماهيــة الموجــودات فــي

))1( جليسبي، الجذور الاهوتية ... ص )7.

فيــه يكــون الــذي بالشــكل ولكــن العالــم( هــذا

becoming الصيــرورة أو ،howness الكيــف هــو

النظــام اإللهــي تبــدو بهــا الموجــودات فــي التــي

للعالــم؛ وحتــى نكتشــف هــذا النظــام، ينبغــي أن

الكائنــات حركــة تحكــم التــي القوانيــن نكتشــف

الطبيعــي والعلــم الاهــوت حتى »صــار كلهــا.

عنــده الشــيء الواحــد نفســه))1(« إن العالــم فــي

المســتمرة الحركــة ليــس ســوى إيكهــارت فكــر

التــي تحكمهــا المشــيئة اإللهيــة بصفتهــا العلــة

ــد، أو الفاعلــة. أو بتعبيــر آخــر، إن العالــم هــو التجس

جســد اإللــه، بحيــث يكــون اإللــه موجــودا فــي العالم

مثلمــا توجــد الــروح فــي الجســد؛ دائــم الحضــور مــن

المبــدأ المحــرك. أنــه جهــة

الحداثة جواب تاريخي على

عصر

سؤال

المدرســية، الفلســفة االســمانية دمــرت

وقدمــت رؤيــة جديــدة لمعنــى اإلنســان ركــزت فيها

ــرا علــى اإلرادة البشــرية، وقــد عــم تأثيــر ــزا كبي تركي

االســمانية أرجــاء البــاد األوروبيــة؛ مثــل إســبانيا

ــي ــد، وهــي الت ــى وجــه التحدي ــا عل ــا، وألماني وإيطالي

تــراث اســماني قــوي؛ خصوصــا فــي ســاد فيهــا

القرنيــن الرابــع عشــر والخامــس عشــر؛ حيــث كان

االســماني غابرييــل بيــل غايــة مــا انتهــت إليــه هــذه

الحــرة الفكريــة االنقابيــة. وذلــك » لدرجــة أنــه فــي

عهــد لوثــر لــم يكــن هنــاك إال جامعــة واحــدة فــي

ألمانيــا لــم تكــن تحــت ســيطرة االســمانيين )14(«.

أســس قوضــت عندمــا االســمانية أن بيــد

)13( Gillespie, the theological… p. 51.

)14( جيلسبي، الجذور الاهوتية، ص )4.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 160

الواقعانيــة صورتهــا فــي المدرســية الفلســفة

الرؤيــة عــن متكامــا بديــا تقــدم لــم تحديــدا،

وفرتهــا التــي للعالــم والمنتظمــة الشــاملة

ا؛ ــا كبيــر المدرســية قبــا؛ فتركــت فراغــا ميتافيزيقي

إذ العالــم فــي حســبانها لــم يعــد ســوى فوضــى

عارمــة مــن الموجــودات الفرديــة، والكليــات لــم تعــد

ســوى أســماء، أو إشــارات ال شــيء يقابلهــا فــي

المــادي. الواقــع

تهيــأ االنتقــال إلــى العالــم الحديــث انطاقــا من

هــذه النقطــة بالــذات، أي مــن نقطــة الفــراغ الــذي

ــا رفــض االســمانيون تركتــه االســمانية وراءهــا، لم

الرؤيــة السياســية والكونيــة والاهوتيــة للهويــة

البشــرية التــي أنشــأتها النزعــة المدرســية، وذلــك

أنــه بالنســبة إلــى االســمانيين ال يوجــد عقــل إلهــي

مدبــر يمكــن أن يكــون أساســا للهويــة السياســية

أو الكونيــة أو الاهوتيــة لإلنســان وللعالــم الــذي

ــة إذا هــي المنفســح التاريخــي يوجــد فيــه؛ فالحداث

اإلشــكال علــى الجــواب فيــه انبســط الــذي

الفعلــي التحقــق إنهــا لنقــل أو هــذا، االســماني

مجــيء معــه حملــه الــذي التاريخــي لإلمــكان

االســمانية.

إذا أنــه جلســبي يؤكــد كلــه، ذلــك علــى بنــاء

وعيــه حقــق قــد الحديــث العالــم بكــون أقررنــا

بنفســه خــال القرنيــن الســادس عشــر والســابع

بــأن الظــن الخطــأ مــن ســيكون فإنــه عشــر،

الحداثــة قــد بــدأت فــي ذلــك اإلبــان بالتحديــد، أو

عندمــا بــدأت قــد اإلنســانية الحيــاة بــأن الظــن

صــارت أوال وعيــا ذاتيــا. وذلــك ألن الحداثــة لــم تبــرز

مكتملــة مــن رأســي غاليلــي وبيكــون، أو ديــكارت

وهوبــس، بــل إنهــا بــرزت علــى مــدى حقبــة طويلــة

مــن الزمــان، وأنهــا مــا كانــت ممكنــة إال بفضــل

متباينــة ســياقات فــي كثيريــن أنــاس جهــود

مــن أول ديــكارت رونيــه يكــن فلــم ومتنوعــة؛

التــي كانــت فــي عصــره عبــارة هاجــم األرســطية

عــن »توماويــة محدثــة«))1(، وال فرنســيس بيكــون

أول مــن انتقــد الواقعانيــة المدرســية، بــل كانــت

االســمانية قبلهمــا بثاثــة قــرون هــي التــي قوضــت

أركان العالــم الوســيط ومهــدت الســبيل لنشــوء

وبتعبيــر باســم»الحداثة«. اليــوم نعرفــه مــا

أوضــح، إن الحداثــة إجمــاال لــم يكــن يقــف خلفهــا

غيــر اإلشــكال الــذي أثارتــه الفلســفة االســمانية.

وبخاصــة فهمهمــا لإللــه الكلــي القــدرة، والمطلــق

اإلرادة، والقاهــر الجبــار. وتصورهــا للعاقــة التــي

تربــط هــذا اإللــه المرعــب باإلنســان وبالطبيعــة

كمــا أشــرنا إلــى ذلــك قبــا.

جلســبي نظــر فــي الحديــث الفكــر ل شــك

جوابــا أعمالهمــا كانــت رئيســان، اثنــان قطبــان

ــكارت علــى اإلشــكال االســماني نفســه، وهمــا: دي

إعــادة إلــى منهمــا كل ســعى حيــث وهوبــس؛

تشــكيل العالــم ال مــن جهــة أنــه صنعــة بشــرية،

أو معجــزة إلهيــة، بــل مــن جهــة مــا هــو موضــوع

طبيعــي، واختافهمــا بيــن فــي النظــر إلــى طبيعــة

اإللــه واإلنســان ومكانــة كل منهمــا فــي العالــم؛

فقــد رأى ديــكارت اإلنســان موجــودا طبيعيــا، لكنــه

أيضــا موجــود إلهــي بوجــه مــا)ال تناهــي اإلرادة(.

الطبيعــة عــن منفصــا اإلنســان اعتبــر وبذلــك

وحــرا فــي عاقتــه بقوانينهــا؛ بينمــا رأى هوبــس

))1( نفسه، ص 47).

161مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

اإلنســان موجــودا طبيعيــا علــى التمــام، وهــو لذلــك

ا إال بالمعنــى الــذي يكــون فيــه متوافقــا ال يكــون حــر

مــع الســببية الطبيعيــة الكونيــة. ســوف يشــكل

الخــاف بيــن ديــكارت وهوبــس فــي هــذه النقطــة

بالــذات صــورة العالــم الحديــث، حيــن انخــرط فيــه

الاحقــون عليهــم كذلــك؛ ألن هــذا الخــاف الفكــري

بينهمــا تغــذى مــن النحــو الــذي عرفــت بــه الحداثــة

إلــى غايتيــن أنهــا تهــدف نفســها، أي مــن جهــة

علــى ســيدا اإلنســان تجعــل أن همــا: اثنتيــن

الحريــة مــن تجعــل وأن لهــا، ومالــكا الطبيعــة

البشــرية أمــرا ممكنــا؛ لكــن الســؤال الــذي يظــل

معلقــا هــو: هــل هاتــان الغايتــان متوافقتــان فيمــا

بينهمــا؟ يؤكــد الكاتــب أن »النقــاش بيــن هوبــس

كتــاب علــى والــردود االعتراضــات فــي وديــكارت

التأمــات يشــير بأنهــا ليســت كذلــك« ))1(.

هذيــن الحداثــة قطبــي بيــن الخــاف تقــدم

أخرييــن فكرتيــن حركتيــن بيــن الخــاف بالزمــان

أســهمتا معــا فــي الدفــع بميــاد العالــم الحديــث؛

الدينــي. واإلصــاح اإلنســية النزعــة بذلــك عنينــا

وقــد كانــت الحركتــان الفكريتــان كذلــك، بحســب

طبيعــة إشــكال علــى جوابــا المؤلــف، رأي

ظاهــرة الخــاف ذلــك وآيــة االســماني، اإللــه

آخريــن قطبيــن بيــن المعــروف الســجال فــي

بيــن المناظــرات وفــي ولوثــر، إرازمــوس همــا:

اإلنســانويين الذيــن اعتبــروا أننــا ال يمكــن الوصــول

إلــى اإللــه إال بواســطة اإلنســان؛ فاإلنســان هــو

واإلصاحييــن شــيء، كل فــي البدايــة نقطــة

ــر( الــذي اعتبــروا، بخــاف ذلــك، )أشــياع مارتــن لوث

))1( نفسه، ص 1).

أن اإللــه هــو البدايــة، بــل إن اإللــه هــو كل شــيء،

أمــا اإلنســان فــا شــيء. هــذا مــا توصــل إليــه لوثــر،

رائــد اإلصــاح البروتســتانتي فــي ألمانيــا، وهــو يجــد

نفســه وســط عاصفــة فــي مســاء يــوم مــن شــهر

يونيــو ســنة )0)1؛ فكانــت هــذه القناعــة بدايــة رؤيتــه

فــي تدخــل أن عليهــا كان محتومــا التــي الدينيــة

ســجال مــع النزعــة اإلنســية، ومــع أبــرز ممثليهــا

فــي عصــره: إيرازمــوس، وينقلــب ســجال الكلمــات

كان حيــث خطيــرا؛ منقلبــا حيــن، بعــد بينهمــا،

كلمــات، البدايــة مســألة فــي بينهمــا »الســجال

بيــد أنــه كان تمهيــدا لســجال مــن نــوع آخــر، تحولــت

فيــه الكلمــات إلــى جثــت واألقــام إلــى أســياف، ومــا

كان قــد كتــب بمــداد كتــب مــن جــراء ذلــك دمــا«)17( .

ــة التــي وفــي ذلــك إشــارة إلــى حــروب الديــن الدامي

القــرن إبــان المشــترك الوجــود أســس دمــرت

األوروبــي. عشــر الســادس

لــم تخــل الحداثــة، وال الحداثــة البعديــة، مــن أثــر

لاهــوت، بــل إن الســؤال الاهوتي-السياســي ظــل

يســكن التجربــة البشــرية حتــى بعــد أن ظــن عصــر

ــر القطيعــة مــع الديــن، وحســب الحداثيــون التنوي

أن العالــم الــذي يعيشــون فيــه قــد أشــاح بوجهــه

الثاثــة الحداثيــة القــرون تكــن لــم الديــن، عــن

المؤلــف، رأي بحســب _ق0)(، )ق17 األخيــرة

ســوى »جهــود حثيثــة لتطويــر ميتافيزيقــا خاصــة

الجــواب فــي تســعف أن بمقدورهــا متماســكة

واإللــه اإلنســان بيــن العاقــة إشــكال علــى

والطبيعــة، فــي حاضنــة أنطولوجيــا إســمانية)18( «.

)17( Gillespie, the theological …p. 143.

)18( Ibid., p.285.

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 162

لقــد اســتمرت أهميــة إشــكال طبيعــة كل مــن

ــذ ــه واإلنســان والطبيعــة، والعاقــة بينهــا من اإلل

بدايــة مــا يعــرف باســم الحداثــة فــي القــرن الســابع

ــة فــي عشــر، وإذا كان األدب المكتــوب عــن الحداث

القرن التاســع عشــر وبداية القرن العشــرين يفرد

لهــا لفظــا خاصــا لوصفهــا هــو مســار »الدنيــوة«،

أو »إبطــال الســحر عــن العالــم« بتعبيــر ماكــس

الحديــث العالــم يعتبــر فهــم ترســخ إذ فيبــر،

عالمــا دنيويــا خالصــا أو ال-دينيــا؛ نشــأ إلــى جانــب

العالــم الــذي شــكله الديــن، فحــل محلــه وهيمــن

الــرأي، هــذا علــى يعتــرض جليســبي فــإن عليــه؛

العالــم فــي للديــن الظاهــر الرفــض أن يؤكــد إذ

الحداثــي، أو أفــول الاهــوت، يحجــب فــي الواقــع

راهنيــة اإلشــكاالت والمقتضيــات الاهوتيــة فــي

العصــر الحديــث. ومــن أجــل ذلــك، ال تكــون عنــده

الحداثــة عنــده مطابقــة لـــمعنى »الدنيــوة«،أي أنهــا

ا للعقــل علــى »المشــين« كمــا لــن تكــون انتصــار

ــه ــر المشــهورة، أو مــوت اإلل ــارة فولتي ورد فــي عب

كمــا ورد فــي عبــارة نيشــته، وغيــره مــن الفاســفة

الحداثييــن فــي القــرن الــذي يليــه، وإنمــا ســتكون

الدينــوة، أو إبطــال الســحر عــن العالــم، هــي : »نقــل

ــا إلــى الكائنــات البشــرية، الصفــات اإللهيــة تدريجي

العالــم وإلــى الامتناهيــة( البشــرية )اإلرادة

وإلــى الكونيــة( الميكانيكيــة الطبيعي)الســببية

القــوى االجتماعيــة )اإلرادة العامــة، واليــد الخفيــة(

ثــم إلــى التاريــخ )فكــرة التقــدم،و التطــور الجدلــي،

ومكــر العقــل( ))1(«.

)19( Gillespie, p. 288.

163دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

حواراتDialogues

حوارات

دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية164

Dialogues | حوارات

حوار األستاذ الدكتور/ عبد الرحمن بودرع)))

يحاوره األستاذ/ فضيل ناصري)))

A Conversation with Professor Dr. Abderrahmane BoudraaBy: Professor: FADIL NASSIRI

1 أستاذ لسانيات النص وتحليل الخطاب- جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب.

) باحث في الباغة وتحليل الخطاب. كلية اللغة العربية _ مراكش.

165دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية العدد 12 | شتاء 2021 م

السؤال األول:

بدايــة، ال أحــد يجــادل فــي أن اللســانيات بحســبانها أســعف مهمــا معرفيــا فتحــا تعــد حديثــا، علمــا الباحثيــن فــي مختلــف فــروع المعرفــة فــي مقاربــة ــا نصــوص وخطابــات متنوعــة. أســالكم ســؤاال بدهيعنــد كثيريــن؛ مــا اللســانيات؟ ومــا أهــم مدارســها؟

ومــا درجــة إســهامها فــي بنــاء المنهــج؟

ــه أحــدث ــة، ألن ــم اللســانيات مــن العلــوم اإلنســانية الحديث أ- عل

قطيعــة إبســتيمولوجية مــع علــوم اللغــة التقيليديــة فــي الغــرب،

مــن جهتيــن:

- أوالهمــا أنــه انتقــل مــن دراســة اللغــة وظواهرهــا والتقعيــد

ــد البنيــات اللغويــة والقواعــد التــي لهــا، إلــى دراســة اآلليــات التــي تول

تنتجهــا، أي انتقــل البحــث اللســاني مــن البحــث فــي اللغــة إلــى البحــث

فــي نحــو اللغــة.

اللغــات مــن خاصــة بلغــة االهتمــام مــن انتقــل أنــه الثانيــة -

ــة ــة اللغــة اإلنســانية عام ــى االهتمــام بنظري البشــرية المعروفــة إل

بغــض النظــر عــن األنمــاط واألنــواع.

اللســانيات فــي تنــدرج التــي اللســانية المــدارس عــن أمــا ب-

المعاصــرة فهــي كثيــرة ومتشــعبة، وتعددهــا راجــع إلــى األســس

الفكريــة والفلســفية والمعرفيــة التــي تنطلــق منهــا كل مدرســة أو

ــم اللغــوي السويســري ــدأ البحــث اللســاني مــع العال اتجــاه، فقــد ب

ــق القطيعــة دوسوســير بوصفــه حامــل لــواء التجديــد اللغــوي ومحق

مــع مناهــج الدراســة التقليديــة التــي كانــت تحشــر فــي دراســة اللغــة

وصفيــا منهجــا وفــرض وتاريخيــة... وعرقيــة اجتماعيــة اعتبــارات

البنيــة عــد وعلــى والمدلــول... الــدال ثنائيــة علــى يعتمــد صارمــا

ــر بالعوامــل الخارجيــة، وال تتحكــم فيهــا ــة بنيــة مغلقــة ال تتأث اللغوي

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 166

المؤثــرات االجتماعيــة غيــر اللغويــة

ماذا يعني مصطلح "اللسانيات؟

أو "اللســانيات" مصطلــح أن الحقيقــة

حديــث مصطلــح "األلســنية" أو "اللســنيات"

نشــأته تتجــاوز ال العربــي اللغــوي الــدرس فــي

الغربيــة األدبيــات مــن مســتمد الســبعينيات،

علميــة دراســة الطبيعيــة اللغــة دراســة فــي

ــم مســتعارا فــي ــح هــذا العل ممنهجــة، وقــد أصب

ــة اليــوم. وعلــى الرغــم ممــا ســائر الثقافــات الكوني

يشــوب مصطلــح اللســانيات فــي العالــم العربــي

ب واختــاف وتشــتت وتعــدد مجــاالت، مــن تشــع

مناهــج فــي التحديــث علــى أمــارة أصبــح فإنــه

وتجــاوز واألســلوبي، والباغــي اللغــوي رس الــد

ــة ــة فــي مقارب ــة التــي كانــت متبع الطــرق التقليدي

اللغويــة. الظاهــرة

راسات اللغوية باين في الد االختاف والت

تتميــز الدراســات اللســانية باالختــاف والتبايــن

وبالتجديــد كبيــر, حــد إلــى النظــر وجهــات فــي

بيــن تأتــي حيــث النظريــات, هــذه فــي المســتمر

ســابقتها تلغــي نظريــة واألخــرى الفنيــة

أجــل، اللغــة عميقــة تســتحق كل هــذه الجهــود

والوصــف الدراســة فــي والتطبيقيــة النظريــة

أعقــد مــن إنســانية ظاهــرة اللغــة والتفســير،

الظواهــر، ليســت اللغــة مجــرد أصــوات أو تراكيــب

فــي مخــزون معرفــي ولكنهــا معــان، علــى تــدل

بنيــات تعكــس لغويــة وبنيــات المتكلــم، ذهــن

فكريــة وتمثيــات ذهنيــة. ومهمة الباحث اللســاني

أن يبحــث فــي خصائــص اللغــات البشــرية وفــي

طــرق اكتســاب المتكلــم لهــا وأن يصطنــع أدوات

اللغويــة الظاهــرة بــة لمقار والتفســير الوصــف

مقاربــة علميــة منهجيــة.

أمــا اختــاف المــدارس اللســانية فــي وصــف

إلــى راجــع فهــو وتفســيرها الطبيعيــة اللغــات

أمريــن:

التــي والفلســفية النظريــة األســس أوال: -

الظواهــر تنــاول فــي تعتمــد عليهــا كل مدرســة

المدرســة بيــن )كالفــرق ومقاربتهــا اللغويــة

والمدرســة التوليديــة والمدرســة البنيويــة

). . الوظيفيــة.

فــي اللغــات بيــن الشــديد التبايــن ثانيــا: -

والتركيبيــة الصرفيــة والبنيــات األصــوات

االختــاف أي الداللــي، والتأويــل والمعجميــة

والتنــوع فــي حقــل الظواهــر اللغويــة الموصوفــة،

ــن الــذي يفــرض علــى الباحــث أن يصــوغ هــذا التباي

تتســم ــرة ومفس واصفــة لســانية نظريــات

واالنســجام، والتماســك واليســر، بالبســاطة

والشــمولية واالســتيعاب، والمرونــة، لكــي تكــون

قابلــة للتطويــر واالســتجابة لمــا يجــد مــن ظواهــر

اللســانية النظريــات مــن كثيــر عرفــت ولقــد

نمــاذج نحويــة وصياغــة تطــورا ملحوظــا بتجــاوز

نمــاذج أخــرى جديــدة متطــورة تســتجيب إلشــكال

ولقضيــة وتراعيــه، المذكــور اللغــوي التبايــن

هــذه ومــن المتكلميــن، لــدى اللغويــة الكفايــة

التحويلــي، التوليــدي النحــو نظريــة النظريــات

الوظيفــي. النحــو ونظريــة

167مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

السؤال الثاني:

بمجموعــة الثقافيــة الســاحة تحبــل مــن النقاشــات؛ منهــا نقــاش العالقــة العربيــة اللغويــات قطــب بيــن القديمــة وقطــب اللســانيات الحديثــة. مــا هــي أوجــه االئتــالف واالختــالف بيــن

القطبيــن؟

مصطلــح نطلــق عندمــا أننــا الحقيقــة

علــوم تعنيــه مــا بــه نعنــي ال فإننــا اللســانيات

العربيــة بالمعنــى القديــم؛ ألســباب عــدة نوجزهــا

يلــي: مــا فــي

علميــة منهجيــة دراســة اللســانيات أن -

علــوم أمــا عامــة، البشــرية اللغويــة للظاهــرة

العربيــة فهــي دراســة تتنــاول جوانــب مــن اللغــة

العربيــة خاصــة كالجانــب النحــوي أو الصرفــي أو

الباغــي...

الغــرب فــي ولــد حديــث علــم واللســانيات -

وفقــه الكاســيكية اللغــة علــوم أنقــاض علــى

اللغــة المقــارن والنحــو المعتمــد علــى المنطــق

معرفيــة قطيعــة أحــدث بعدمــا األرســطي...

اللغويــة. الدراســات ماضــي مــع ومنهجيــة

- أن اللســانيات شــعبة مــن شــعب العلــوم

مــن ظاهــرة بالدراســة تتنــاول ألنهــا اإلنســانية

اللغويــة، الظاهــرة هــي اإلنســانية الظواهــر

منطــق علــى موضوعهــا رصــد فــي وتعتمــد

التــي اللســانية النمــاذج صياغــة أي النمذجــة

اللغــات بهــا تشــتغل التــي اآلليــات تفتــرض

. البشــرية

أمــا علــوم العربيــة فهــي محصــورة فــي دراســة

اللغــة العربيــة وحدهــا، واســتخراج قواعدهــا وبيــان

الكثيــرة المصــادر العلمــاء ألــف أنســاقها، وقــد

وإعرابهــا ونحوهــا العربيــة معجــم دراســة فــي

بلغــت ولكنهــا وباغتهــا... وأصواتهــا وصرفهــا

النظــر فــي والعمــق المنهــج فــي الدقــة مــن

والتفصيــل فــي البحــث مــا جعلهــا قابلــة ألن تقــف

فــي مصــاف اللغويــات العالميــة اليــوم وأن تقــارن

بكثيــر مــن النظريــات اللســانية الحديثــة.

- ويضــاف إلــى الحديــث عــن الفرق بين الدراســات

رس اللســاني الحديث اللغويــة العربيــة القديمــة والــد

أن اللســانيات الحديثــة أتيــح لهــا فــي هــذا العصــر

االســتفادة مــن الســياق العلمــي المســتفيض؛ إذ

أفــادت مــن المعــارف اإلنســانية والعلــوم الدقيقــة

وعلــوم الحاســوب واإلعاميــات، وهــو أمــر لــم يتــح

ــة قديمــا. ــوم العربي بالقــوة نفســها للعل

ــة القديمــة ــة العربي ــم إن الدراســات اللغوي - ث

فهــي الخاصــة، لغتهــا نحــو تبنــي كانــت عندمــا

إنمــا كانــت تفعــل ذلــك بغيــة حفظهــا مــن اللحــن

واالنحــراف، أمــا اللســانيات الحديثــة فإنهــا تســعى

خصائــص ويفســر يصــف كلــي" "نحــو بنــاء إلــى

اللغــات الطبيعيــة بصــورة أعــم .

أضــف إلــى ذلــك وجــود نــوع مــن الحساســية فــي

التعامــل مــن اللســانيات الحديثــة، فمــا مصــدر هــذه

الحساســية التــي تــرى أن اللغــة العربيــة وصفــت بمــا

يكفــي بمناهــج النحــو والباغــة وعلــوم اآللــة العربيــة،

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 168

تبــق هــذه العلــوم زيــادة لمســتزيد، والســبب ولــم

فــي ذلــك تفاضــل اللغــات، وأن للغــة العربيــة امتيــازا

وأفضليــة ليــس لباقــي لغــات األرض.

والحقيقــة أن الفــرق بيــن اللغويــات العربيــة

األخيــرة هــذه أن الحديثــة اللســانية والنظريــات

ألن بينهــا؛ تفاضــل وال اللغــات بيــن تســوي

اللغــات أدوات للتواصــل والتــداول والتعبيــر عــن

إلــى تنقســم اللســانيات أن ومعلــوم الحاجــات،

متباينيــن: تياريــن

- تيــار صــوري يقــف عنــد بنية اللغــة وال يتعداها

إلــى مــا يمكــن أن تحملــه من وظائــف تواصلية.

- وتيــار وظيفــي يصــف بنيــة اللغــة مــن خــال

مــا تؤديــه مــن وظائــف داخــل المجتمــع

تتســاوى الطبيعيــة فاللغــات ذلــك ومــع

أم مجــردة بنيــة أكانــت ســواء اللســانيين عنــد

إلــى النظــر فــي عيــب فــا بنيــة وظيفيــة. كانــت

اللغــات الطبيعيــة بمنظــار اللســانيات الحديثــة،

يعتمــد موضوعــي منظــار ألنــه غضاضــة؛ وال

والتفســير. الوصــف فــي العلميــة المنهجيــة

أن أ. يمكــن أو العربيــة اســتفادته الــذي مــا

وهــي بفروعهــا، اللســانيات مــن تســتفيده

اللســانيات النظريــة، واللســانيات التطبيقيــة،

ومــا يدخــل تحتهــا مــن قضايــا تعليــم للغــات

اللغويــة. والسياســة اللغويــة والحوســبة

وهــل كان فــي منهــج تقســيم الــدرس اللغــوي ب.

المــادة تقتطــع متعــددة مســتويات إلــى

اللغويــة إلــى بنيــات صوتيــة وصرفيــة وتركيبيــة

اللغــة دراســة يثــري مــا وتداوليــة، ودالليــة

العربيــة وتحليــل أبعادهــا ويكشــف منهــا مــا

النحــو العربــي؟ لــم يســتطعه

مــا هــي الثمــرة المعرفيــة المرجــوة مــن مقاربــة ج.

العربيــة اللغويــة واإلشــكاالت القضايــا

بواســطة الــدرس اللســاني الحديــث، هــل يــراد

مــن كل مقاربــة لســانية حديثــة لمنهــج البحــث

اللغــوي القديــم أن تســهم فــي تقريــب عاقــة

حــوي بلســان العــرب وتنزيــل أدوات النظــر الن

ــة، بطريقــة جديــدة بي الوصــف علــى ظواهــر العر

مواضــع فــي اللســانية، بــات المقار تعتمــد

مخصوصــة؟ ــة تطبيقي

فــي أثيــرت إشــكاالت أو أســئلة بضــع هــذه

اللســاني البحــث أولويــات عــن الحديــث ســياق

تنفصــل ال أســئلة وهــي العربــي، العالــم فــي

عــن األســئلة الكبــرى المتعلقــة بتحديــث منهــج

أدوات وتجديــد العربيــة الثقافــة إلــى النظــر

البحــث والتحليــل الستكشــاف المعانــي واألفــكار

لهــا يجــدد مــن تنتظــر التــي المعرفيــة والفوائــد

البديهيــات مــن بــات فلعلــه االســتخراج؛ أمــر

Humanity التذكيــر بمــا حملتــه العلــوم اإلنســانية

البحــث مناهــج فــي جديــد مــن contributions

البحــث اإلنســانية؛ ومنهــا مناهــج واهــر الظ فــي

اللســاني التــي أخــذت تتجــاوز الصفــة المعياريــة إلى

الوصفيــة والتفســيرية العلميــة، منــذ أن نشــرت

فــي جمعــت التــي وكتاباتــه دوسوســير أمالــي

ــف المعــروف: "محاضــرات فــي اللســانيات المصن

169مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

العامــة"))( ، إلــى أن اســتوت اللســانيات علــى يــد

المــدارس الاحقــة، فــي أوربــا والواليــات المتحــدة.

فلــم يعــد أمــام أحــد مجــال للشــك فــي علميــة

البحــث بمناهــج المتســلحة الحديثــة اللســانيات

النظري والتجريبي، وإن تفاوتت درجات الموضوعية

والعلميــة واالطــراد وغيرهــا مــن قســمات العلــوم

التــي تظهــر بالقــوة نفســها الحديثــة، ولــم تظهــر

بهــا فــي العلــوم الطبيعيــة، أمــا اللســانيات العربيــة

ــار بخصوصهــا إشــكال ــة فــإن اإلشــكال المث الحديث

ة عربيــة المنهــج، أي منهــج تأســيس معرفــة لســاني

ــة، عام وأفــكار رات تصــو بنــاء علــى قــادرة حديثــة،

ــة: غوي لفهــم الظاهــرة الل

راثــي الحــي الــذي يشــهد - ســواء فــي بعدهــا الت

ر تطــو مواكبــة فــي ــن مك والت باالســتمرار، لــه

المعاصــر، اللســاني رس الــد

النمــاذج بيــن الموازنــات إطــار فــي أو -

ــة غوي واهــر الل واالجتهــادات المقترحــة لوصــف الظ

، ها تفســير و

رات النحو واللســانيات، - أو فــي إطــار إجــراء مقر

وإخراجهــا ــة، األدبي وغيــر ــة األدبي النصــوص علــى

للقضايــا والتفســير والفهــم التطبيــق، ــز حي إلــى

ــة والتاريخي ــة واالجتماعي ــة والعقدي ة النفســي

عمومــا)4(. عــة، المتنو ة واإلنســاني ة، ياســي والس

غيــر أن كثيــرا مــن الكتابــات اللســانية العربيــة ال

)3( Ferdinand De Saussure, Cours de linguistique générale, Publié par Charles Bally, Albert Sechehay et Albert Riedlinger. Ed. Arbre d’Or, Genève, 2005.

العربيــة، واللغــة اللســانيات فــي بــودرع: الرحمــن عبــد )4(.( ص: ونمــاذج، قضايــا

ــي، ــى أســاليب التأليــف اللســاني الغرب ــكاد ترقــى إل ت

عــن بالقصــور تتســم منهجيــة مداخــل الختيارهــا

بلــوغ المــرام، وبالنقــص فــي أدوات البحــث والتحليــل

بيعة وجمــع الظواهــر، والميــل إلى البحــوث ذات الط

ــة وإهمــال وظيفــة ــة علــى الظواهــر الجزئي التطبيقي

التنظيــر للســانيات عربيــة حديثــة تقــف فــي مصــاف

ــم نهــا التنظيــر مــن التحك اللســانيات الكليــة، ويمك

فــي تحديــد أولويــات البحــث اللســاني.

بيــة العر اللســانية المؤلفــات تراكــم لكــن

يقــرب األخيــرة، خاصــة فيمــا الثاثيــن ســنة فــي

القديمــة اللغويــات مــن الحديثــة اللســانيات

فــرض علــى اللســانيات العربيــة وضعــا جديــدا فــي

مقاربــة الظاهــرة اللغويــة منهجــا وغايــات وأدوات،

وكانــت هــذه المرحلــة بدايــة انشــغال الخطــاب

رس اللســاني العربــي المعاصــر بالعاقة بين الد

وبطبيعــة العربيــة، وعلــوم الحديــث اللســاني

العاقــة التــي يمكــن أن تبنــى بيــن تــراث العربيــة

واللســانيات، عنــد مــن يقولــون بإمــكان التقــارب

والتــرادف فــي األنســاق وأصــول المفاهيــم، لكــن

ــل -لكــي يتوص اللســاني العربــي الحديــث البحــث

إلــى تحديــد هــذه األولويــات - » يفتقــر إلــى دراســات

ريــة د ألســس اإلبســتمولوجية والتصو كافيــة تحــد

والنحــو اللســانيات بيــن العاقــة تضبــط التــي

ــي ــد انشــغل الخطــاب اللســاني العرب ــي. لق العرب

المعاصــر بمفهــوم التأصيــل الــذي يحــاول تتبــع

وإيجــاد المعاصــرة اللســانية المفاهيــم بعــض

نظائــر لهــا عنــد النحــاة. وقــد نتــج عــن ذلــك أغــاط

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 170

وأغاليــط...«))(.

جوانــب مــن أن هــذا جانــب واحــد فقــط غيــر

فــي األولويــات ســؤال عــن الحديــث إشــكال

ــؤال الس هــذا ويبقــى بــي، العر اللســاني الــدرس

تتجــاوز منهجيــة معالجــة إلــى يحتــاج قائمــا

اللســانيات لعاقــة البســيط الجزئــي التنــاول

ــة بعلــوم العربيــة، إلــى البحــث فــي إمكانيــة الحديث

ــة ــة تنضبــط بضوابــط منهجي بنــاء لســانيات عربي

مــن ونســق ومفاهيــم بوســائل وتتوســل

النظريــة مرجعيتهــا تجــد التــي االســتدالالت،

فــي الــدرس اللســاني المعاصــر وتتســع قدرتهــا

العربيــة. اللغويــة الظواهــر وصــف لتشــمل

السؤال الثالث:

ارتبــاط باللغــة اللســانيات ترتبــط الرابطــة هــذه باســتحضار تــالزم. المتينــة مــاذا تقترحــون ألجــل النهوض بالعربيــة المعيــار، وجعلهــا لغة فاعلة

محيطهــا؟ فــي

اللغــات لدراســة وضــع علــم اللســانيات

البشــرية باســتعارة مناهــج مــن العلــوم اإلنســانية

يغيــة وذلــك الدقيقــة، العلــوم بعــض ومــن

البنيــات بخصــوص دقيقــة نتائــج إلــى التوصــل

اللغويــة وكيفيــة إنتاجهــا وطريقــة ارتبــاط الــدال

بالمدلــول،

))( محمــد بــن صالــح وحيــدي، اللســانيات والتــراث النحــوي: النــدوة أعمــال ســجل وإبســتمولوجية، منهجيــة إشــكاالت الدوليــة الثانيــة: قــراءة التــراث األدبــي واللغــوي فــي الدراســات منشــورات ))14هـــ-014)م، محكمــة، علميــة بحــوث الحديثــة،

الريــاض، ص: )40. الملــك ســعود، كليــة اآلداب، جامعــة

الخــروج عــن ســمت العربيــة أمــر منتظــر، وهــو

ــى فــي الشــرائع ــاس، حت ــع األشــياء والن مــن طبائ

ســل إال حــل؛ فمــا بعــث األنبيــاء والر والملــل والن

ليجــددوا للنــاس مــا اعــوج مــن أمــور دينهــم ومــا

انحــرف مــن عقائدهــم، فهــذه رســالة ال تنقطــع،

متسلســلة متصلــة الحلقــات، فأمــا فــي النحو فما

ويجــددون، يصححــون و يصنفــون العلمــاء زال

ــا هــذا، علــى تفــاوت منــذ عهــد ســيبويه إلــى عصرن

ــد، ــد أو جــرأة التجدي ــى التقلي ــداد إل ــم فــي االرت بينه

ومــا زال أهــل اللغــة يصنفون المعاجم ويســتدرك

النــاس يــوم إلــى فواتــه، بعــض علــى بعضهــم

لحــن يصنفــون فــي التعبيــر أهــل زال هــذا، ومــا

العامــة بــل لحــن الخاصــة أنفســهم و يحرصــون

علــى تصفيــة اللغــة مــن األوشــاب، فأنــت تعلــم

مــن هــذه الحركــة الدائمــة الدائبــة أن أمــر اللغــة

عصــر كل وســيظل جســيم، وخطرهــا عظيــم

يجمــع بيــن جناحيــه االنحــراف والتقويــم، واللحــن

علــى والقيــاس الشــاذ واســتحداث والتصحيــح،

المســموع. الــوارد

اللســانيات أدوات بعــض تســتعار وقــد

الحديثــة للقيــام بواجــب تصحيــح التركيــب العربــي

منــه ليــس ممــا بــه علــق وتخليصهممــا

السؤال الرابع:

يعــزو كثيــر مــن الباحثيــن "تلكــؤ" علــم إلــى العربيــة البيئــة فــي اللســانيات الفوضــى التــي تطبــع ترجمــة مفاهيمــه مفاتيحــه بوصفهــا ومصطلحاتــه

171مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

علــى والعمــل بتقريبــه، المضطلعــة الثقافــة فــي الحســن النبــات نباتــه هاتــه علــى تــردون كيــف العربيــة.

الدعــوى؟

ذهــب بعــض الباحثيــن إلــى القــول بوجــود أزمــة

وتتمثــل العربــي، اللســاني البحــث توطيــن فــي

بعــة، المت النظريــة المجــاالت فــي األزمــة هــذه

وفــي البحثيــة، والموضوعــات المنهــج وفــي

ســات اللســانية وأقســام تدريــس جانــب المؤس

مدرســين مــن بذلــك يتصــل ومــا اللســانيات،

ل ينــز العلــم هــذا أن ذلــك إلــى أضــف وطــاب.

ــة ــوم اإلنســانية واالجتماعي ــة دون باقــي العل منزل

اللســاني البحــث أصابــت التــي األزمــة وهــذه .

ليســت خاصــة بــه، ولكنهــا جــزء مــن أزمــة عامــة

أصابــت المؤسســات الجامعيــة والبحــث العلمــي

عامــة، وهــذا شــأن كثيــر مــن المعــارف الجديــدة

التــي تحــل بثقافــة ذات طابــع مختلــف، كالثقافــة

العربيــة. ولكــن تلــك األزمــة كانــت حافــزا لانطــاق

وتطويــره العربــي اللســاني البحــث تعميــق فــي

بــي. الغر اللســاني رس الــد ليواكــب

ولعــل جــزءا كبيــرا مــن األزمــة التــي نشــأت مــع

نشــأة اللســانيات العربيــة، راجــع إلــى صفــة التلقــي

الثقافــة العربــي القــارئ بــه تلقــى الــذي ل األو

الغربيــة فــي مجــال اإلنســانيات عامــة والثقافــة

اللســانية علــى وجــه الخصــوص، ومــا طبــع هــذا

أن إلــى هــا مرد قيــم، وصــراع ريبــة مــن التلقــي

كل فكــر مســتنبت فــي ديــاره ويحمــل خصائــص

عــوا أنــه خــرج أصحابــه ويعالــج مشــكاتهم وإن اد

مــن حــد الخصوصيــات إلــى حــد الكليــات، وهــذا مــا

عبــر عنــه تــودوروف )T. Todorov( بقولــه: » صــورة

بهــا وتعبــر عنــه، أكثــر اآلخــر تحيــل إلــى واقــع مــن يرك

بــت لــه وبنيــت لــه«، ممــا تحيــل إلــى واقــع مــن رك

ــز تــودوروف فــي كتابــه "نحــن واآلخــرون" بيــن ويمي

ــة تجمعهــا ــة واجتماعي ــذات وهــي جماعــة ثقافي ال

عــن يختلفــون الذيــن اآلخريــن وبيــن ، خصائــص

الــذات فــي تلــك الخصائــص .

أن لبثــت مــا النفســية األحــوال تلــك ولكــن

د عندمــا انتشــرت األبحــاث اللســانية أخــذت تتبــد

بــي. الغربيــة بتدريــج فــي المشــهد التداولــي العر

ومــن مظاهــر األزمــة أيضا مشــكلة المصطلح

وهــي العربييــن، واألدبــي اللســاني الــدرس فــي

مشــكلة نشــأت عندمــا اتصــل هــذا الــدرس العربي

الوافــدة اإلنســانية العلــوم بمنجــزات الحديــث

ــاد العــرب ــح فــي ب مــن الغــرب، فعــرف المصطل

وعــدم واضطــراب خلــط وحالــة فوضــى حالــة

اتفــاق واســتقرار، خاصــة فــي الفتــرة الواقعــة بيــن

أربعينيــات القــرن الماضــي وســتينياته، والســبب

فــي أزمــة المصطلــح اختــاف مناهــج الدارســين

ــه ــراث وينحتــون من ــوا يغترفــون مــن الت ــن كان الذي

مصطلحــات يضعــون والذيــن مصطلحهــم،

المصطلــح اشــتقاق بقواعــد تعبــأ ال جديــدة

وجــه علــى األزمــة وتجلــت ، المناســب العربــي

ــركات النقــل والترجمــة لمــا جــد الخصــوص فــي ح

ويجــد فــي ميــدان العلــوم اإلنســاية خاصــة وفــي

. أخــص بصفــة اللســانيات

بعــد العربــي اللغــوي البحــث تطــور ولكــن

وضــع أزمــة تامــا محــوا يمــح لــم الفتــرة هــذه

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 172

للمفاهيــم المناســب العربــي المصطلــح

والمقــوالت اللســانية الحديثــة؛ إذ ظــل المنهجــان

المختلفــان ســائدين، فأولهمــا يبحــث عــن مقابــل

للمصطلحــات اللســانية الغربيــة فــي مصطلحات

لغويــة عربيــة قديمــة ذات حمولة معرفية مختلفة

مــن غيــر مبــاالة بمناســبتها للمدلــول عليــه أو عــدم

مناســبتها، والمنهــج الثانــي كســر قاعــدة العــودة

ــراث وابتــدع مصطلحــات غريبــة ال يفهــم إلــى الت

وهــذا اللاتينــي، بأصلهــا قرنــت إذا إال معناهــا

بــي مظهــر مــن مظاهــر أزمــة البحــث العلمــي العر

فــي مجــال العلــوم اإلنســانية، ومــن مظاهــر األزمــة

عنــد العلمــي العمــل فــي الفــردي البعــد أيضــا

مقابــل فــي يوضــع الــذي المعاصريــن، العــرب

علمــاء عنــد بالفريــق، والعمــل الجماعــي البعــد

. الغــرب وباحثيــه

ــادرة ــد الرحمــن مب ــور طــه عب م الدكت ــد ــد ق ولق

العلــوم فــي المصطلــح ترجمــة أزمــة حــل فــي

ــدا فــي ــه شــق منهجــا جدي اإلنســانية، ومفادهــا أن

ابتــكار المصطلحــات واشــتقاقها وفقــا لقواعــد

درجــة محققــا العربيــة، الصرفيــة االشــتقاق

عاليــة مــن الدقــة فــي ترجمــة مبدعــة مبنيــة علــى

االنتقــاء والصياغــة الدالــة التــي تعبــر عمــا يدخــل

ذلــك علــى ســاعده المصطلــح، داللــة ضمــن

وإلمامــه والمنطــق، بالداللــة الواســع علمــه

علــى الكبيــر واطاعــه اللغــة، بفلســفة الجيــد

التــراث اللغــوي والفلســفي العربــي واإلســامي،

واالشــتقاق الصــرف بأصــول الجيــدة ومعرفتــه

ونحــت المصطلحــات، فتلــك المعــارف والعلــوم

المصطلــح اشــتقاق ملكــة منحتــه والمناهــج

مصطلــح ذلــك ومــن وإبداعــه، المناســب

التداوليــات وغيرهــا مــن عشــرات المصطلحــات

المبثوثــة فــي كتبــه الفلســفية والحجاجيــة... انظــر:

طــه عبــد الرحمــن: فقه الفلســفة: 1-الفلســفة

1((( العربــي الثقافــي المركــز والترجمــة،

السؤال الخامس:

5- يقرن عموم الســامعين اللســانيات بالغــرب، أليــس فــي المجــال العربــي حقيقــة وباحثيــن لعلمــاء تجــارب بــأن نخلــع عليهــا توصيــف المدرســة مــن األصيلــة العربيــة اللســانية ردكــم كان وإذا هويتهــا؟ حيــث باإليجــاب فاذكــروا لنــا بعــض األعــالم، التجديــد ومالمــح وإضافاتهــم،

منجزاتهــم. فــي واألصالــة

نعــم، اللســانيات الحديثــة علــم غربــي خالــص،

وفــرق كبيــر بيــن مصطلــح اللســانيات ومــا تحملــه

مــن حمولــة مفهوميــة ومعرفيــة، وبيــن مــا تعنيــه

عــدة ألســباب القديــم؛ بالمعنــى العربيــة علــوم

نوجزهــا فيمــا يلــي:

- أن اللســانيات Linguisticsدراســة منهجيــة

أمــا عامــة، البشــرية اللغويــة للظاهــرة علميــة

جوانــب تتنــاول دراســة فهــي العربيــة علــوم

أو النحــوي كالجانــب العربيــة خاصــة اللغــة مــن

الباغــي... أو الصرفــي

173مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

حديــث خالــص))(، غربــي علــم واللســانيات -

علــوم أنقــاض علــى الغــرب فــي ولــد النشــأة،

اللغــة الكاســيكية وفقــه اللغــة المقــارن والنحــو

بعدمــا األرســطي... المنطــق علــى المعتمــد

ماضــي مــع ومنهجيــة معرفيــة أحــدث قطيعــة

اللغويــة. الدراســات

- أن اللســانيات شــعبة مــن شــعب العلــوم

مــن ظاهــرة بالدراســة تتنــاول ألنهــا اإلنســانية

اللغويــة، الظاهــرة هــي اإلنســانية الظواهــر

منطــق علــى موضوعهــا رصــد فــي وتعتمــد

التــي اللســانية النمــاذج صياغــة أي النمذجــة

اللغــات بهــا تشــتغل التــي اآلليــات تفتــرض

. ية لبشــر ا

أجــل، لقــد قــدم العلمــاء العــرب القدمــاء مــادة

علميــة ضخمــة فــي ميــدان علــم اللغــة، ولكــن هــذه

ــادئ ــى إعــادة الصياغــة وفقــا لمب ــاج إل المــادة تحت

التنظيــر فــي وشــروطها الحديثــة اللســانيات

والنمذجــة، ويبــدو أن كثيــرا من الباحثين اللســانيين

التــراث لقــراءة يبذلــون جهــودا منهجيــة العــرب

اللغــوي وإعــادة تركيبــه وفقــا للتصــورات اللســانية

الحديثــة.

مــه ــا قد ــى اإلفــادة مم ــف الســبيل إل ولكــن كي

علمــاء العربيــة القدمــاء، لبنــاء لســانيات عربيــة

ومعاصــرة؟ أصيلــة

اللســانيين مــن كثيــر اجتهــد أنــه الجــواب

العــرب المعاصريــن فــي تقديــم معالجــات لســانية

))( مــازن الوعــر: قضايــا أساســية فــي علــم اللســانيات الحديث، دار طاس، دمشــق، 88)1

للنحــو العربــي خاصــة وللتــراث اللغــوي والباغــي

قــراءات وقدمــوا عامــة، والكامــي واألصولــي

لســانية واعيــة لهــذا التــراث فــي ضــوء مــا يناســبه

مــن نمــاذج لســانية حديثــة. وانطلقــوا فــي هــذه

نظــري وإطــار محــددة، منهجيــة مــن القــراءة

يوحــد بيــن ظواهــر الوصــف والتحليــل، مــن هــذه

الــذي التداولــي الوظيفــي النحــو نجــد القــراءات

صالحــا لســانيا إطــارا عليــه المشــتغلون عــده

النســق واستكشــاف التــراث هــذا لمقاربــة

النظــري العــام الــذي يؤطــر علومــه جميعــا علــى

ــا ورجالهــا، د مصنفاته اختــاف مواضيعهــا وتعــد

أن عوامــل نشــأتها ومصادرهــا واحــدة، وخاصــة

وهــذا مــا يفــرض علــى قــارئ هــذا التــراث أن يتنــاول

علومــه ال علــى أنهــا مســتقل بعضهــا عــن بعــض،

متجانســا خطابــا اعتبارهــا أســاس علــى ولكــن

نظــري جهــاز مــن ومنهجــه مفاهيمــه يســتمد

بــة)7( – يركــز واحــد – كمــا يقــول أصحــاب هــذه المقار

علــى عناصــر وظيفيــة تداوليــة رئيســة منهــا مقــام

الخطــاب، ومنهــا مقاصــد المتكلــم ونيتــه مــن وراء

الخطــاب، ومنهــا أن وســيلة التخاطــب فــي التــراث

ــى ــي تجــاوزت المفــردات والجمــل إل الفكــري العرب

النــص بوصفــه وحــدة تواصليــة متكاملــة ينتظــم

وغــرض. أجزاءهــا موضــوع

اللســاني الخطــاب لهــذا المميــزة فالســمة

العربــي الحديــث هــي حرصــه علــى »التوفيــق بيــن

مــه تقد ومــا العربــي اللغــوي التــراث مضاميــن

اللســانيات الحديثــة مــن نظريــات ونمــاذج وأدوات

لســانيو ويســتعمل تحليــل، وطرائــق إجرائيــة

اللغــوي الفكــر فــي الوظيفــي المنحــى المتــوكل، أحمــد )7(ــاط، 7)14هـــ/ )00)م. ــداد، دار األمــان، الرب ــي، األصــول واالمت العرب

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 174

التــراث شــتى الوســائل المعرفيــة لتحقيــق هــذا

إعــادة أو بقــراءة عــرف مــا المســعى، فــي إطــار التــراث«)8( قــراءة

نتحــدث أن يمكــن االســتفادة مســألة وبعــد

عــن حــدود االتصــال بيــن علــوم العربيــة والنمــاذج

لســانيات علــى للحصــول المعاصــرة اللســانية

ــة مســتقلة، وبالضبــط يمكــن أن نتحــدث عــن عربي

القدمــاء العربيــة علمــاء أفــكار اســتثمار إمــكان

ونظراتهــم، وتوظيفهــا فــي تطوير البحث اللســاني.

واالنفصــال المفارقــة مراعــاة ينبغــي ولكــن

واللســانيات القديمــة العربيــة اللغويــات بيــن

تنــدرج المعاصــرة اللســانية فالنمــاذج الحديثــة؛

علمــي ببرنامــج مضبوطــة نظريــات إطــار فــي

د األهــداف. أمــا اللغويــات العربيــة القديمــة محــد

فهــي جمهــرة مــن المعالجــات اللغويــة المتعــددة

فــي العمــق حيــث مــن والمتفاوتــة المســتويات،

ــد الوصــف والتحليــل، واإلجمــال أو التفصيــل، وال ب

مــن أخــذ هــذه الفــروق بعيــن االعتبــار...

السؤال السادس

المنعقــدة العالقــات إلــى بالعــودة بيــن اللغويــات القديمــة واللســانيات الحديثــة، كيــف يمكــن اســتثمار علــوم اآللــة العربيــة مــن بالغــة ونحــو وصــرف الدراســات تجديــد فــي وعــروض

العربيــة؟ اللســانية

المنهــج، العربية–أســئلة اللســانيات غلفــان: مصطفــى )8(.184 ص:

الحقيقــة أننــا ال نســتطيع أن نتحــدث عــن

اللســانيات العلــوم العربيــة وصلتهــا بميــدان

إال إذا تطرقنــا إلــى أهميــة تجديــد مناهــج النظــر

إلــى هــذا التــراث؛ فقــد أحدثــت اللســانيات فتحــا

ــى فــي ــة، تجل ــم المعرف ــا ضخمــا فــي عال معرفي

تجديــد مناهــج الدراســة، وإدراج مفاهيــم علميــة

وأدوات منهجيــة جديــدة مــن أحــل إعــادة قــراءة

هــذا التــراث قــراءة واعيــة تكشــف عــن نقــاط

فــي وتبحــث الحديــث، اللغــة بعلــم االلتقــاء

إمــكان صياغــة لســانيات عربيــة حديثــة تســتمد

الموروثــة، اللغويــة المصــادر مــن مادتهــا

الحديثــة، اللســانية النظريــات مــن ومنهجهــا

إنهــا لســانيات عربيــة حديثــة تنطلــق مــن التــراث

الســتمداد المــادة الصالحــة للوصف والدراســة،

ومــن النظريــات اللســانية الحديثــة الســتمداد

المنهــج والتصــور وأدوات الوصــف والتفســير.

اإلحيائيــة العمليــة هــذه ســياق فــي وتــرد

ــة ــة ضــرورة اســتثمار النظــرات العلمي التحديثي

العميقــة لعلمائنــا العــرب، للوصــول إلــى مرحلــة

ــس مــا بيــن األنظــار منهجيــة وهــي محاولــة تلم

ــة قديمهــا وحديثهــا مــن صهــر ونســب غوي الل

ــل فــي أم بــى، فرضتهــا طبيعــة الت ووشــائج قر

ــة، وأماهــا االنتســاب إلــى هــذا غوي واهــر الل الظ

كلــي بشــري حقــل هــو الــذي ، غــوي الل الحقــل

ــروف واألحــوال، وال ــر الظ ــر بتغي شــامل ال يتغي

مــون مهمــا تكــن وســائل ــه المتكل يســتغني عن

ميــدان فــي ة المســتجد البدائــل و االتصــال

فاهــم و التخاطــب . الت

والــرأي عندنــا أن العلمــاء العــرب القدمــاء

175مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

قــد قدمــوا مــادة علميــة ضخمــة فــي ميــدان

إلــى تحتــاج المــادة هــذه ولكــن اللغــة، علــم

اللســانيات لمبــادئ وفقــا الصياغــة إعــادة

الحديثــة وشــروطها فــي التنظيــر والنمذجــة،

اللســانيين الباحثيــن مــن كثيــرا أن ويبــدو

العــرب يبذلــون جهــودا منهجيــة لقــراءة التراث

للتصــورات وفقــا تركيبــه وإعــادة اللغــوي

الحديثــة. اللســانية

والباحثيــن العلمــاء أن فــي شــك وال

وفــي عامــة، اإلنســانية العلــوم فــي الغربييــن،

عندمــا الخصــوص، وجــه علــى اللســانيات

ارتضــوا ألنفســهم الخــوض فــي دراســة اللغــات

الشــامل، اإلنســاني بعدهــا فــي الطبيعيــة

متجاوزيــن بذلــك الدراســات اللغويــة الكاســيكية

لغــات أو لغــة وصــف فــي تنحصــر كانــت التــي

خاصــة، فقــد ألفــوا أنفســهم ملزميــن بتمحيــص

لوصــف وضعوهــا التــي النظريــة فرضياتهــم

اللغــة وتفســيرها، إلثبــات قوتهــا التجريبيــة، وال

يتــم تمحيــص هــذه الفرضيــات إال باســتعراض

جهــود كثيــر مــن العلمــاء القدمــاء. فتشومســكي

علميــة مــادة علــى التوليــدي نحــوه بنــى مثــا

اعتمــادا كثيــرة، مصــادر مــن اســتقاها غزيــرة

ذات 18م و 17م القرنيــن أنحــاء منهــا نقــدا، أو

مــن وغيرهــا والمنطقيــة، الفلســفية األســس

تــه األنحــاء الكاســيكية األخــرى، كمــا اســتقى ماد

"بنينــي"، القديــم الهنــدي اللغــوي أعمــال مــن

ومــن الفيلســوف الفرنســي ديــكارت، وفاســفة

ومفكريــن ولغوييــن أوروبييــن وأمريكييــن مثــل

وهاريــس وهمبولـــدت وبلومفيلــد ديــكارت

والكتابــات المصــادر ولكــن كثيــر، وغيرهــم

ــرا الطــاع تشومســكي علــى اللســانية ال تذكــر أث

النحــو أعــام مــن علــم علــى أو العربــي النحــو

مــن ينقــص ال عليــه اطاعــه وعــدم العربــي.

قيمتــه بــل تــدل كتــب متقدمــي النحــاة كســيبويه

النظــر فــي عمــق علــى وغيرهمــا والمبــرد

والتقعيــد. وليــس بعيــدا أن يكــون تشومســكي

قــد ســعى إلــى االطــاع علــى نظريــة العامــل فــي

كتــاب ســيبويه، ومــا يــدور فــي فلكهــا مــن مفاهيــم

كالتقديــر والحــذف وغيرهمــا، ال يســتبعد أن يكون

قــد اطلــع علــى العامليــة النحويــة العربيــة قبل أن

يؤســس نظريتــه الشــهيرة، "العامليــة والربــط"

]Government & Binding[ وإن لــم يصــرح بذلــك،

كمــا يقــول بعــض الباحثيــن، ولكــن هــذا االحتمــال

يحتــاج إلــى دليــل علــى كل حــال .

السؤال السابع

فــي المعاصــرة الحيــاة تنصبــغ البحــث وضمنهــا مناشــطها، شــتى االكتشــافات بتســارع اللســاني، عــن مــاذا ذلــك. واطــراد وتطورهــا العلمــي البحــث إليــه مــا توصــل آخــر فــي مجــال اللســانيات؟ وكيــف تــرون العربــي؟ اللســاني البحــث مســتقبل

الــدرس أهميــة إلــى اإلشــارة مــن بــد ال أوال

الوعــي فــي العميــق وأثــره الحديــث اللســاني

بالمفاهيــم وقيمتهــا فــي بنــاء المعرفــة اإلنســانية

اللســانيات أن فــي شــك وال العلــوم، وتطويــر

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 176

المفاهيــم تأســيس فــي كبيــر نصيــب ذات

والمصطلحــات التــي ال يحصــل التواصــل العلمــي

النظريــات تعــرف وال بهــا إال األفــكار وتــداول

واألدوات والطــرق والمناهــج وأنســاق المعرفــة

بهــا إال

ثانيــا: مــدى إســهام اللســانيات الحديثــة فــي

خدمــة نحــو العربيــة

- هــل تعالــج النظريــات اللســانية النحويــة

ــات ــف النظري ــة النحــو العربي؟ هــل تضي قضي

اللســانية طرقــا جديــدة لتعليــم النحــو العربــي

هنــاك وهــل التقليديــة؟ الطريقــة مــن بــدال

نتســاءل أن ويمكــن لهــا؟ ناجــح تطبيــق

بطريقــة أخــرى: مــا مكانــة النحــو العربــي مــن

الحديثــة؟ اللســانيات

ال شــك فــي أن اللســانيات قبــل أن تنظــر

فــي نحــو مــن األنحــاء التقليدية كالنحــو العربي،

قــد اســتفادت – بمختلــف مذاهبهــا ومناحيهــا

التقليديــة بأخــرى، مــن األنحــاء أو – بطريقــة

والنحــو المعيــاري والنحــو التاريخــي كالنحــو

وربمــا والقياســي العــام والنحــو المقــارن

اســتفادت العربــي، النحــو مــن اســتفادت

مــن هــذه األنحــاء فــي بنــاء نماذجهــا وصياغــة

التحليــل اللســاني، مفاهيمهــا وأدواتهــا فــي

فــي واضــح االســتفادة هــذه علــى والمثــال

النحــو التوليــدي، حتــى قيــل إن النحــو التوليــدي

واألنحــاء التقليديــة األنحــاء بيــن تركيــب

البنيويــة التــي ظهــرت بعــد دوسوســير، وقيــل

إنــه أخــذ فكــرة بنــاء "نحــو كلــي" مــن "مدرســة

بــور رويــال" فــي القــرن الســابع عشــر، وأخــذ

ــة"، ونظيــر ذلــك ــه" مــن األنحــاء البنيوي "صورنت

األنحــاء مــن الوظيفــي" "النحــو اســتفادة

النحويــة"، "بالوظائــف القــول فــي التقليديــة

"الباغــة مــن الحديثــة" "الداللــة واســتفادة

مــن "التداوليــات" واســتفادة القديمــة"،

. والمنطــق" اللغــة "فلســفة

أن يمكــن االســتفادة مســألة وبعــد ثالثــا:

النحــو العربــي بيــن نتحــدث عــن حــدود االتصــال

والنمــاذج اللســانية المعاصــرة، وبالضبــط يمكــن

النحــاة أفــكار اســتثمار إمــكان عــن نتحــدث أن

فــي وتوظيفهــا ونظراتهــم، القدمــاء العــرب

. اللســاني البحــث تطويــر

ولكــن ينبغــي مراعــاة المفارقــة واالنفصــال

بيــن اللغويــات العربيــة القديمــة واللســانيات

المعاصــرة اللســانية فالنمــاذج الحديثــة؛

تنــدرج فــي إطــار نظريــات مضبوطــة ببرنامــج

د األهــداف. أمــا اللغويــات العربيــة علمــي محــد

المعالجــات مــن جمهــرة فهــي القديمــة

اللغويــة المتعــددة المســتويات، والمتفاوتــة

والتحليــل، الوصــف فــي العمــق حيــث مــن

واإلجمــال أو التفصيــل، وال بــد مــن أخــذ هــذه

االعتبــار... بعيــن الفــروق

العــرب اللســانيين مــن كثيــر اجتهــد ولقــد

لســانية معالجــات تقديــم فــي المعاصريــن

للنحــو العربــي خاصــة وللتــراث اللغــوي والباغــي

قــراءات وقدمــوا عامــة، والكامــي واألصولــي

لســانية واعيــة لهــذا التــراث فــي ضــوء ما يناســبه

177مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

مــن نمــاذج لســانية حديثــة. وانطلقــوا فــي هــذه

نظــري وإطــار محــددة، منهجيــة مــن القــراءة

يوحــد بيــن ظواهــر الوصــف والتحليــل، مــن هــذه

القــراءات نجــد النحــو الوظيفــي التداولــي الــذي

عــده المشــتغلون عليــه إطــارا لســانيا صالحــا

النســق واستكشــاف التــراث هــذا لمقاربــة

النظــري العــام الــذي يؤطــر علومــه جميعــا علــى

د مصنفاتهــا ورجالهــا، اختــاف مواضيعهــا وتعــد

وخاصــة أن عوامــل نشــأتها ومصادرهــا واحــدة،

أن التــراث هــذا قــارئ علــى يفــرض مــا وهــذا

أنهــا مســتقل بعضهــا يتنــاول علومــه ال علــى

عــن بعــض، ولكــن علــى أســاس اعتبارهــا خطابــا

مــن ومنهجــه مفاهيمــه يســتمد متجانســا

جهــاز نظــري واحــد – كمــا يقــول أصحــاب هــذه

ــة ــة تداولي ــة))( – يركــز علــى عناصــر وظيفي ب المقار

رئيســة منهــا مقــام الخطــاب، ومنهــا مقاصــد

أن ومنهــا الخطــاب، وراء مــن ونيتــه المتكلــم

وســيلة التخاطــب فــي التــراث الفكــري العربــي

تجــاوزت المفــردات والجمــل إلــى النــص بوصفــه

أجزاءهــا ينتظــم متكاملــة تواصليــة وحــدة

وغــرض. موضــوع

ومــن اللســانيين العــرب مــن اجتهــد فــي وضــع

نحــو جديــد للعربيــة المعاصــرة وذلــك مــن خــال

ألنمــوذج النظريــة للمبــادئ التطبيــق إمــكان

أو العربيــة المعاصــرة)10( اللغــة لســاني مــا علــى

علــى أجــزاء منهــا، ويــؤدي هــذا التطبيــق إلــى تغييــر

العربــي، اللغــوي الفكــر فــي الوظيفــي "المنحــى انظــر: )((بــاط، الر األمــان، دار المتــوكل، د.أحمــد واالمتــداد، األصــول

)00)م. 7)14هـــ/

)10( اللســانيات واللغــة العربيــة، د.عبــد القــادر الفاســي الفهري، دار توبقــال للنشــر، الــدار البيضــاء، المغرب، )8)1م

الفنيــة، المصطلحــات وإعــداد اللغــوي، الوضــع

تجديــد قصــد اللغــة أجهــزة فــي النظــر وإعــادة

التعبيــر بهــا، وإتاحــة الفرصــة للتطويــع اللغــوي،

جديــدة، وعلميــة حضاريــة مفاهيــم وإدمــاج

وبرمجتــه، وتصميمــه التعليــم مشــاكل وتنــاول

وتحقيــق األهــداف المتوخــاة منــه، ووضــع الكتــاب

النحويــة، والكتــب المعاجــم وتأليــف ، المدرســي

تعليــم فــي اللســاني البحــث نتائــج واســتثمار

اللغــة العربيــة، للناطقيــن بهــا وبغيرهــا، وتطبيــق

اللســانيات فــي تحليــل أنــواع الخطــاب المختلفــة،

وتحليــل اآلثــار الفنيــة، وتحليــل الظواهــر النفســية

والمرضيــة المتصلــة بالنشــاط الكامــي، ومعالجة

النصــوص معالجــة آليــة حاســوبية، إلــى غيــر ذلــك

التطبيقيــة... المياديــن مــن

جديــدة طــرق أحدثــت قــد أنــه نجــد وهكــذا

الوظيفيــة المقاربــة منهــا العربيــة، تعليــم فــي

ــة مــن خــال بعــض ــة التوليدي ــة، والمقارب التداولي

نماذجهــا التــي تركــز علــى البنيــة الســطحية والبنيــة

... والتحويــات العميقــة

ــه أن العربيــة لغــة تتضمــن ومعنــى ذلــك كل

مــن تمكنهــا طاقــات تعبيريــة وتواصليــة هائلــة

ــر تيس مختلفــة لســانية بمقاربــات تعالــج أن

تعليمها وإدماجهــا فــي الســياق العــام للمعرفــة

ية. البشــر

العالــم فــي اللســانيات مســتقبل عــن أمــا

حركــة تطــور بمــدى يتعلــق أمــر فهــو العربــي

بقــوة واردة الترجمــة إلــى والحاجــة الترجمــة؛

فائدتيــن: لتحقيــق

العدد 12 | شتاء 2021 م دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية 178

الكبــرى اللســانية األعمــال نقــل أوالهمــا -

العربيــة اللســانيات لتزويــد العربيــة اللغــة إلــى

وتزويــد الجديــدة، اللســانية ة بالمــاد وإمدادهــا

اللســاني الفكــر فــي جــد بمــا العربيــة الثقافــة

المواكبــة. شــرط وتحقيــق الحديــث،

اللســانية الترجمــة ســار فــي والماحــظ

وواجــه متواصــل ــر لتعث تعــرض أنــه العربيــة

عقبــات كثيــرة، منهــا غيــاب التكامــل والتنســيق

بيــن المترجميــن اللســانيين العــرب، ومــا أســفر

وعــدم وتناثرهــا األبحــاث تكــرار مــن ذلــك عنــه

يفضــي ــم منظ معرفــي تراكــم إلــى انضباطهــا

إلــى إرســاء قواعــد البحــث العلمــي الصحيــح )11(.

ومــن مشــكات ترجمــة األعمــال اللســانية أيضــا

العربيــة واضطــراب اللســانية المعاجــم نقــص

مشــاكل وأكبــر ومصادرهــا. ومنهجهــا هــا مواد

الترجمــة اللســانية إشــكال المصطلــح اللســاني؛

وانتشــاره اللســاني المصطلــح وضــوح فــإن

صخــب زمــن فــي المفاهيــم؛ تمايــز فــي شــرط

هــذا عــل ترتــب ومــا تها، وتشــت المصطلحــات

خــب مــن اختــاط المفاهيــم وتداخلهــا ومــن الص

ــق البحــث العلمــي. وال متاهــات األنفــاق فــي طري

تســتقيم لغــة البحــث العلمــي فــي اللســانيات إال

ووضــوح المفهــوم وتمييــز المصطلــح بضبــط

المنهــج لوقايــة القــارئ والمتلقــي مــن تناقــض

الذهــن. فــي المعانــي

األولويــات مــن أصبــح ذلــك أجــل ومــن

والمصطلــح

الترجمــة

مناهــج توحيــد

)11( حافــظ إســماعيلي علــوي: اللســانيات فــي الثقافــة العربيــة المعاصــرة، ص: ))1.

ــرق واألدوات، ــد الجهــود والط اللســاني، بتوحي

فــي اللســانية البحــث فــرق بيــن والتنســيق

األعمــال بترجمــة المعنيــة العربــي العالــم

اللســانية الكبــرى عامــة وترجمــة المصطلحــات

يتحقــق وال الخصــوص. وجــه علــى اللســانية

ــق حهــود ــة تنس ســة علمي ــك إال بوجــود مؤس ذل

ههــا، وتتولــى مراجعــة المترجمــات الترجمــة وتوج

المقترحــات االصطاحيــة. ومراجعــة اللســانية

الوقــت باختصــار كفيــل الجهــود تنســيق فــإن

اللســانية األعمــال صــدور حركــة ومواكبــة

ترجمتهــا))1(. علــى ــب للتغل العالميــة،

فــي

اللســانيات إســهام الثانيــة -

ها ــها وإمداد

الترجمــة نفس

عمليــة

تطويــر

وفــي ،والمنهجيــة

العلميــة

بــاألدوات

وتطبيقاتهــا الترجمــة لعلــوم اســتثمار ذلــك

إلــى الحديــث اللســاني الفكــر نقــل عمليــة فــي

رت تطــو فقــد العربيــة؛ اللســانية الثقافــة

عندمــا صناعــة، أو علمــا بوصفهــا الترجمــة

تســلحت بــأدوات اللســانيات الحديثــة ومناهجهــا

. تهــا مصطلحا و

وتتجلــى عاقــة اللســانيات بالترجمــة فــي أن

للظاهــرة دراســة علميــة منهجيــة اللســانيات

اللغويــة ووصــف لبنياتهــا الصوتيــة والصرفيــة

ــة؛ والتداولي والمعجميــة والدالليــة والتركيبيــة

تهــا ووظائفها، أمــا وذلــك لمعرفــة قوانيــن حركي

ــة ــة ركــب األعمــال العالمي ــن مواكب ــف ع ))1( مــن نمــاذج التخلل الكبــرى والتقصيــر فــي تعريبهــا، مــا ذكــره الباحثــون مــن أن أوترجمــة ظهــرت لكتــاب سوســير ظهــرت فــي الثقافــة العربيــة، ســنة 84)1، أي » بعــد مــرور حوالــي ســبعين ســنة علــى ظهــور الطبعــة األولــى مــن الكتــاب ســنة )1)1... « : حافــظ إســماعيلي

ــة المعاصــرة، ص: 00). علــوي: اللســانيات فــي الثقافــة العربي

179مراجعات الحداثة: قراءة يف كتاب '' الجذور )األصول( الالهوتية للحداثة

لغــة مــن المعانــي نقــل فــن فهــي الترجمــة

إلــى أخــرى مــع الحفــاظ علــى خصائــص اللغــة

المنقــول إليهــا، والجامــع بينهمــا أن اللســانيات

تمــد فــن الترجمــة بمعرفــة خصائــص اللغــات

هــا وتمد فيــه تختلــف ومــا فيــه تشــترك ومــا

بالتقنيــات اللغويــة لنقــل المعانــي. وتســتعين

بنيــات معرفــة فــي باللســانيات الترجمــة

ومعرفــة ومميزاتهــا، وخصائصهــا اللغــات

ــا التواصــل بيــن اللغــات والتقريــب بينهــا. قضاي

األعمــال بنــاء فــي كبيــر تأثيــر فللســانيات

النظــر فــي كبيــر ر تطــو وقــد حصــل الترجميــة،

يمتلــك وتقنيــة ــا فن كونهــا مــن الترجمــة إلــى

المترجــم آلياتهــا، إلــى كونهــا علمــا قائمــا علــى

مبــادئ دقيقــة أثــرت اللســانيات فــي صياغتهــا

ــد آن األوان لتتخــذ وبســطها أمــام الترجمــة. وق

مــن رئيســة أداة الترجمــة العربيــة اللســانيات

أولوياتهــا. مــن كبــرى وأولويــة أدواتهــا