اللحن في مديح هجرة الابن: سؤال ضرورة الشعر

55
َ َ ُ ُ ِ ْ َ اﻟﻜﺘﺎب ﻌﺪُ : اﻻﺑﻦ ﺠﺮةِ ﻣﺪﻳﺢ اﻟﻠﺤﻦ اﻟﺸﻌﺮ ورة ﺳﺆال( ّ ﻣﻴﻨﻮريّ ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻲﺗﺤﻮﻳﺮ) ﻧﺎﺷﻒ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ

Transcript of اللحن في مديح هجرة الابن: سؤال ضرورة الشعر

٣٤٥

المناداة رش

بعد الكتاب

اللحن يف مديح هجرة االبن:سؤال رضورة الشعر

(تحوير فلسطيني مينوري)

إسماعيل ناشف

٣٤٦

إسماعيل ناشف

٣٤٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

.1

ما هـي رضورة الشـعر اليوم؟ سـؤال أود معالجته

هـا هنا، وقـد يبـدو للوهلـة األوىل أنه مجرد سـؤال

بسـيط ومبـارش، ومبتـذل إىل حد ما!

مـن املمكن تنـاول هذا السـؤال من مناح عـدة، من

شـحنته األخالقيـة لغايـة بحثـه مـن حيث شـكله

الجمـايل. وأختـار أن أتناولـه بطريقة أخـرى، هي

عـرب حـذف مـا يف السـؤال مـن وفـرة ال تمـت إىل

جوهره. وسـأحذف بدايـة الـ«ما» وتسـقط حينها

الـ«هـي»؛ وذلـك أن سـؤال الــ «ما هـذا اليشء؟»

يفـرتض وجـود اليشء السـابق عـىل السـؤال عنه،

ا متفقا عليه فرضورة الشـعر ليسـت رشطا وجوديـ

كمعطـى ينطلـق منـه النقـاش والبحث. أما الشـق

الثانـي مـن وفـرة السـؤال أعـاله التي سـأحذفها

ـ فهـي الـ«اليـوم»، حيـث إنـه ال فضـل أو قيمـة ل

«اليـوم»، عىل سـائر األزمنـة يف تاريخ هذا السـؤال،

االجتماعـي الوجـود تاريـخ مـن يـوم كل ففـي

هنالـك من الشـعر ومن الـرضورة ما يكفـي إللغاء

تاريخيتـه وتجاوزهـا. نبقـى، بعـد الحـذف، مـع

٣٤٨

إسماعيل ناشف

«رضورة الشـعر؟»؛ هذا تقشـف يف السـؤال، فكرة

حـد الجملة غـري املفيدة. ولكـن التقشـف هنا ليس

ـ مـن بنيـة الفضـاء املمتد ما بـني الحـدود الثالثة ل

«رضورة الشـعر؟»، بـل هـو مقحـم عليهـا لما لها

مـن تاريـخ، وفاعليـة، وسـلطة. إن «؟»، السـؤال،

هنـا هـو رافعـة معرفيـة نقـف عليها لنكـون من

خاللهـا، بمثابـة أنـا أسـأل فأنـا أعمـل؛ فالوجـود

شـكل عمل منتج. يف هذا السـياق، «الشعر»، االسم،

هـو اختـزال سـلطوي لطبيعـة الحدث الشـعري،

فالشـعر هو هيـكل هرمي ينفـي الحـدث بتحويله

إىل محـور يف بناء االسـم، هذا بحيث يصبح الشـعر

املمكـن هـو الحدث الشـعري خاصة حركـة النظام

وهرميتـه بمـا هما تجسـيد للسـلطة. أما بالنسـبة

الوجـود طبيعـة إىل تـرد فهـي «الـرضورة» ـ لـ

االجتماعـي، فهـذا الوجـود كمـون يتحقـق بآليات

بسـياق تجليهـا يف طبيعتـه مـن تنبـع متعـددة

تاريخي محـدد، والحدث الشـعري هـو آلية تحقق

محـددة تنبثـق مـن الوجـود وتكشـفه. بهـذا فهو

رضورة وجوديـة، مـن حيـث إن الوجـود يحتمهـا

ليقـوم وجـودا. إال أنه باسـتطاعتنا أن نفهم الحدث

الشـعري، كآليـة تحقـق كمـون الوجـود، ضمـن

٣٤٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

آليـات متعـددة وحينها تصبح الـرضورة ناقصة يف

ظـل سـؤال إمكانية الخيـار من عدة آليـات ممكنة.

هكـذا نبقـى مـع السـؤال بمـا هـو شـكل العمـل

األول، والحـدث الشـعري بمـا هو مقاربـة الوجود

يف شـكله األول.

انفصـل الوجـود اإلنسـاني عـن الطبيعـة ليصبـح

ا، ولكـن بانفصالـه هذا مـن ثمـة وجـودا اجتماعيـ

عـن الطبيعـة حملهـا كعنـرص مشـكل ملا هـو، أي

لـم تنتـف الطبيعـة عـن طبيعـة اإلنسـان بحالته

االجتماعيـة، بـل أضحـت تلـك املسـاحة األسـاس

التـي يتولـد منهـا ويمـوت فيهـا، حرفيا ومجـازا،

اإلنسـان االجتماعي. إن الحدث الشـعري هو حركة

الـوالدة/ املـوت األوىل، كمـا ترحاالتهـا وأقلمتها يف

البقـاع املختلفـة للوجـود االجتماعي العامـل. بهذا

فالحدث الشـعري كآلية تحقيـق للوجود، ليس بآلية

ضمـن أخـر، بـل هـو عصـارة كل عمـل اجتماعي

منتـج، بغـض النظر عـن املضمون العينـي للعمل،

فـكل عمـل يضبـط من حيـث حركتـه بـني الوالدة

واملـوت ومـا يقـوم بينهما من شـكل يف املـادة، و/

أو مـادة يف الشـكل. يصبـح السـؤال حينهـا عـن

شـكل تركيب العمل االجتماعـي العينـي، فالكيفية

٣٥٠

إسماعيل ناشف

التـي يرتكـب عربها هـي تفاعـل محدد بـني حدثه

قـه األخـرى. ومـن املمكـن الشـعري وآليـات تحق

أن نذهـب أبعـد مـن ذلـك: إن التفاعـل هـو انبثاق

يجـري عىل شـكل الـوالدة، بمـا هي انبثاق للشـكل

مـن ماديـة مـا، وهـو، أيضـا، تقعيـد يجـري عىل

شـكل املوت، بمـا هو انبثـاق للمادية مـن صريورة

تشـكيلة مـا. يحـدد االنبثـاق والتقعيد مبـدأ العمل

االجتماعـي املنتـج، واملبـدأ هنا نـوع مـن النحوية

تجيب عـن «كيـف يعمل هـذا؟». الحدث الشـعري

هـو عمليتا االنبثـاق والتقعيـد القائمـة يف كل عمل

اجتماعـي منتـج، وهو قـد يأخذ عـددا غـري نهائي

مـن األشـكال؛ وذلـك بحسـب معايـري ذات طابـع

اجتماعـي تاريخـي. والسـؤال هـو ما هـي طبيعة

العمـل االجتماعـي املنتـج الـذي يقـوم عـىل إنتاج

أشـكال محـددة مـن االنبثـاق والتقعيـد ذات صلة

لسـياق تاريخـي محدد؟ يبـدو أن الشـعر، كمجال

عمـل اجتماعـي منتـج، هو الـذي يقـوم عىل ضبط

والتقعيـد. االنبثـاق مـن محـددة أشـكال إنتـاج

يه، مـن هنـا، العالقـة بني الحـدث الشـعري، بشـق

والشـعر هـو إشـكالية مـن الدرجـة األوىل، حيـث

إن األول قضيـة وجوديـة بامتيـاز، بينمـا الثانـي

٣٥١

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

قضيـة اجتماعية نظاميـة محضة. وقـد تفرس هذه

اإلشـكالية اللـزوم البنيوي لـكل شـاعر مبتدئ بأن

يعيـد تعريـف الشـعر بنـاء عـىل حدثـه الشـعري

الخـاص بـه، فـكل والدة/ مـوت هـي والدة/ موت

عينيـة ال تشـبه أخـرى، فضال عـن كونهـا والدة/

. موتا

ر محـدد ملا هـو الوجود ينبـع مـن هذا الفهـم تصو

قه عرب مـواد وأمكنة وأزمنة االجتماعـي وآليـات تدف

متواليـة هـو بأساسـه، الوجـود، فهـذا متعـددة.

مـن األحـداث الشـعرية التـي تضبط شـكل العمل

االجتماعـي املنتج له. ونـرى أن املجـاالت الوجودية

االجتماعيـة املختلفـة تتفاعل بحسـب نمـط والدة/

موت عينـي خاص بـكل منها كتحويـر عىل والدة/

مـوت وجـود الجماعة ككل. مـن هذا املنطلـق، ارتد

الشـعر إىل رقعـة الخلـق، الـوالدة، كمـا إىل رقعـة

حتميـة نهايـة الوجـود الفـردي، املـوت، يف حالتـه

األفضـل، حيث يبقى االنبثـاق والتقعيد لـب القول.

وبارتـداد الشـعر إىل عمليـة إدارة نظاميـة للخلـق

بانزياحـه كسـلطة، اقتصاديـة اجتماعية سياسـية

ولغويـة وأخـرى، تجـىل يف حالتـه األسـوأ، حيـث

تسـود النظاميـة بما هـي القـول الفصل.

٣٥٢

إسماعيل ناشف

.2

حيـث مـن درسـت التـي املجتمعـات أغلـب يف

والدتهـا/ موتهـا، هنالـك فسـحة مـا بـني والدتها

عـىل الشـعري الحـدث يتشـكل حيـث وموتهـا،

االمتـداد بـني شـكل االنبثـاق/ الـوالدة وصـريورة

التقعيـد/ املـوت. التحويـر الفلسـطيني عـىل هـذا

الحـدث هـو أن لحظـة موتـه، النكبـة، هـي ذاتها

لحظـة والدتـه الجديـدة، املأسـاة كعامـل مشـكل

لمـا تالهـا. وهنـا التحوير بمسـتويني، فمـن جانب

والدة/ مـوت/ والدة/ للمتواليـة... قطـع جـرى

مـوت... بحيـث جـرى تثبيـت املـوت كـوالدة، عىل

بنيتـه يف تناقـض مـن القطـع هـذا يحمـل مـا

فسـحة توجـد ال آخـر، جانـب ومـن الداخليـة؛

ممتـدة بـني املـوت/ الـوالدة، كأنهما واحـد، وهما

لدينـا لذلـك االجتماعـي. للوجـود أصـل االثنـان

حدث شـعري يتحرك بنـاء عىل قتل الـوالدة، وبهذا

انبثـاق عصابـي باحث عـن إمكانية وجـوده، ولكن

ال يتحقـق، فقتلـه هـو مبدأ تشـكله كانبثـاق ميت،

ومـن هنا أبـدا لـن ينجـز تقعيـدا. فالتقعيـد، تلك

الحزمـة من اإلجـراءات الحاملة للحدث الشـعري يف

دهاليـز قلعة التشـكيل النظامي، يتناسـل من والدة

٣٥٣

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

ناجـزة كانبثـاق، وهـو غري متـاح يف حالـة الحدث

الشـعري الفلسـطيني. من هـذا املنظـور، إن النفي

بـني االنبثـاق والتقعيد البنيـوي لالمتـداد الجـديل

يرسـم مأسـوية املأسـاة الفلسـطينية كعمليـة قتل

إلمكانيـة حضورهـا مأسـاة، إلغاء االنبثـاق كوالدة

يف تقـول أن جماعـة، بإمكانـك، فمـاذا للمأسـاة.

حالـة أن حدثـك الشـعري مأسـاة تمنـع مـن أن

تـربح حدثهـا لكـي ال تصبـح مأسـوية الحضور؟

أي، تقتـل إمكانيـة توليد الحدث الشـعري ذاته بما

حياة؟ نبـض هـو

املـوت الـوالدة/ أن التوضيـح مـن بـد ال بدايـة،

بذاتهـا ال تتطلـب نظاما ثنائـي الجنـس/ ربوبيا/

ا. إن صعـود وسـيطرة هـذا النظـام الجماعي أبويـ

هـو مسـار اجتماعـي تاريخـي محدد لـه تفاصيل

وأنـواع صـريورة متعددة. كمـا أن سـيطرة النظام

األبـوي لم تنـف اإلمكانيـات الجنسـانية األخرى بل

ردتهـا إىل حقـل تناقضـات، قـد يبـدو أحيانـا أنه

غـري ظاهر للعيـان، إال أن فعله وفاعليته يف تشـكيل

مسـار وصريورة النظـام الثنائي الجنـس هما ركن

أسـايس يف كل مـا هـو رب-أب. ولقـد قامـت عالقة

بـني العربي-اإلسـالمي اإلرث يف األقطـاب ثالثيـة

٣٥٤

إسماعيل ناشف

الـرب-األب، والشـعر، والنظـام القائـم عـىل إدارة

الـوالدة/ املوت وامتالكهمـا.1 وال يتسـع املجال هنا

للخـوض يف هـذا، بـل نريـد تثبيـت هـذه البنية يف

السـياق الفلسـطيني بمـا هـو امتـداد لهـذا اإلرث

ونظامـه ذي األبعاد الثالثة.2 والشـكل الفلسـطيني

الـرب-األب بكـون أساسـا يتميـز البنيـة لهـذه

املتعـارف املعايـري عـىل بنـاء وظيفتـه يف فاشـال

عليهـا يف منظومتـه، هذا الفشـل أدى إىل اسـتخدام

الشـعر بشـكل مكثف بغيـة ردمه. لب الفشـل هو

فقـدان إمكانيـة إدارة الوالدة/ املوت الفلسـطينيني

هنالك كم هائل من الدراسات حول موقع الشعر العربي يف املنظومة 1العالقة بني البنية العامة. لالطالع، بداية، عىل االجتماعية التاريخية

االجتماعية التاريخية واألنظمة املعرفية عامة، انظر:الجابري، محمد عابد، 2009. بنية العقل العربي: دراسة تحليلية دراسات مركز بريوت: العربية. الثقافة يف املعرفة لنظم نقدية

الوحدة العربية، ط9. سبيل فانظر-عىل الشعر، حالة يف بينهما االنشباك عىل لالطالع أما

املثال-:البيضاء: الدار العربية. الشعرية الدين، 2008. جمال الشيخ، بن

دار توبقال، ط2. هي األوىل املحاولة الشأن. هذا يف الدراسات من العديد ثمة ليس 2لفيصل دراج، حيث تربط بني العمل الثقايف والعمل السيايس. انظر،

مثال، كتابه:الفلسطينية. املؤسسة يف الثقافة بؤس .1996 فيصل، دراج،

بريوت: دار اآلداب. للتوسع يف هذا الجانب يف مناح ثقافية أخرى، انظر:

الثقافة سؤال الفقدان: معمارية .2012 إسماعيل، ناشف، الفلسطينية املعارصة. بريوت: دار الفارابي، ص 37-97.

٣٥٥

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

رجعـي. بأثـر جديـد مـن امتالكهمـا واسـتحالة

مـن هنا لـم يكتمـل الحدث الشـعري الفلسـطيني،

نصبـت بـل واملـوت، الـوالدة بـني الحركـة تلـك

خيمـة الشـعر، بانتظـار اكتمالـه، عىل أبـواب املتن

الشـعري العربـي الحديـث. وكان، وال يـزال، األب-

الـرب يعلـن أنه صاحب مأسـاة، وأنهـا جديرة بأن

ى مأسـاة، وأن لهـذه املأسـاة موعدا سـيأتي، تسـم

وأنـه هـو األب-الـرب نبيهـا ومالكها. أما مأسـوية

هـذه املأسـاة، أي نفـي طبيعتهـا املأسـوية عنهـا

كمأسـاة، وهـو عينا عـدم إمكانيـة اكتمـال حدثها

الشـعري، فلـم يطـف شـعرا. إن عـدم الطفـو هذا

ليـس إال آليـة للحفاظ عـىل األب-الـرب كصاحب/

مالـك للوالدة/ املـوت بالرغم مـن انتفـاء ربوبيته-

أبويتـه عنه. يف البداية أدت هـذه اآلليات إىل رضورة

انزيـاح الحـدث الشـعري إىل حـدث إعالنـي كبنية

شـعرية تعوض عـن عـدم إمكانية اكتمـال الحدث

الشـعري الفلسـطيني. ولقـد تثبت هـذا التعويض

ردحـا مـن الزمـن حيـث شـكل الذائقة الشـعرية

السـائدة، وأصبح القالـب الذي تشـتق منه املقوالت العينية.3 الشـعرية

ساد هذا الشكل الشعري عىل امتداد ما يقارب أربعة عقود(-1950 3

٣٥٦

إسماعيل ناشف

تقـوم البنيـة الثنائية الجنـس/ الربوبيـة/ األبوية

عـىل إقصـاء األم، وردهـا إىل وجـود أويل يف كنفـه،

ويف حالـة تاريـخ الشـعر العربـي نـرى أنـه جرى

سـحب منظومة القيـم الربوبية-األبوية، عىل شـكل

الفحولـة ومـا يشـتق منها، إلنشـاء جهـاز تقييمي

لمـا هو الشـاعر الفحل.4 من نافل القـول أن العديد

مـن التيـارات االجتماعيـة والسياسـية والشـعرية

املنظومـة لهـذه نقـض نفـي/ كأصـوات قامـت

السـائدة. يف السـياق الفلسـطيني املعارص، نرى أن

فـدوى طوقان حملـت سـؤال األم الباحثة عن حدث

شـعري آخـر، وإن كان حملهـا هذا بعالقـة تناص

الربوبـي- الشـعر نظـام مـع حميميـة وامتـزاج

األبـوي، بل وأحيانـا كجزء منـه أيضـا. بالرغم من

ع، فـإن مدونة هـذا التنافذ، وهو إىل حـد بعيد متوق

فـدوى طوقـان الشـعرية تحمـل بـذور وفسـيالت

أن إىل شتى، تحويرات عليه ومورست واكتمل، تطور وقد ،(1990انتهى عهده. وهو يعترب اليوم كجزء من نظام قديم، حتى إن البعض يرى قسما منه «شعارات» ال «شعرا». من املمكن مراجعة التايل إللقاء

نظرة عامة حول هذا الشكل الشعري:الفلسطيني األدب موسوعة .1997 الخرضاء، سلمى الجيويس،

املعارص: الشعر. بريوت: املؤسسة العربية للدراسات والنرش. حول هذا املوضوع راجع دراسة عبد الله الغذامي اإلشكالية: 4

الثقايف املركز بريوت: واللغة. املرأة .1996 الله، عبد الغذامي، العربي.

٣٥٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

وأشـجارا شـعرية لالنشـباك من جديد مـع الوالدة

عرب املـوت تقوم عـىل طاقـة سـؤال األم النابعة من

معضلـة وجوديـة ال يمكـن للـرب-األب أن يراهـا

يف لحظـة تبوئـه منصـب الخالـق. ففـدوى طوقان

تصـوغ السـؤال الباحث عـن معنى الوجـود خلف

النظـام القائـم، وتشـحن أبياتهـا الشـعرية بهـذه

الطاقـة لتصـل طرف املعنى ولتشـق عصـا الطاعة

الشـعرية. تقول يف قصيـدة «خريف ومسـاء» (من ديوانهـا األول «وحدي مع األيـام» -ص 13-12):5

ت شعري، ما مصري الروح، واجلسم هباء؟!أتراها سوف تبىل ويالشيها الفناء؟

أم تراها سوف تنجو من دياجري العدم ... دم ... ة عرب الس حيث تم حرة خا

وبساط اجور مرقاها، ومأواها السماء؟!الشـعرية بالتقنيـات التحـوالت مـن وبالرغـم

الواقـع باتجـاه والتحـول املضامـني، واختـالف

األم سـؤال فـإن ومقاومتـه، لالحتـالل اليومـي

الوجـودي النقيـض للنظامـي، ببحثـه عـن الحدث

مـرشوع يف ا مفصليـ عمـودا اسـتمر الشـعري،

طوقان، فدوى، 1993. األعمال الشعرية الكاملة. بريوت: املؤسسة 5العربية للدراسات والنرش.

٣٥٨

إسماعيل ناشف

فدوى طوقـان. فنراها تقـول يف قصيدتهـا «املدينة

ا» -ص 445- الهرمـة» (مـن ديـوان «أعطنـا حبـ6 :(446

وتلقفين يف املدينة هذي الشوارعواألرصفة

، ها البرشي مع اجاس، جيرفين مدأموج مع املوج فيها، بل السطح أبىق

بغري تماسويكتسح املد هذي الشوارع واألرصفة

وجوه وجوه وجوه، تموج- باس، بل السطح، يقطن فيها ا

وتبىق بغري تماسهنا االقرتاب بغري اقرتاب

ء إال هنا الالحضور حضور، وال حضور الغياب

إن سـؤال األم الوجـودي لـم يبـارح حقـل الشـعر

الفلسـطيني، بـل أقلقـه وأثـار حفيظـة العديد من

الشـعراء يف طورهـم األول كبنـني، والحقـا كفحول

يبحثـون عـن أنثى يزيحـون إليهـا ما عجـزوا عن

ممارسـته مـع أمهـم األوىل. فبعـد نكسـة 1967،

املصدر السابق. 6

٣٥٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

قامـت فـدوى طوقان بزيـارة إىل حيفـا، ويف أعقاب

هـذه الزيـارة سـجلت انطباعاتهـا يف القصيدة «لن

أبكي» (من ديـوان «الليل والفرسـان» -ص 394)، مطلعها:7 يف تقـول

لن أبكي

«إىل شـعراء املقاومـة يف األرض املحتلـة منذ عرشين

عامـا.. هدية لقاء يف حيفـا» 4/ 3/ 1968

بل أبواب يافا يا أحباور و فو حطام ا

وبني الردم والشوكوقفت وقلت للعينني: يا عينني

قفا نبك بل أطالل من رحلوا وفاتوها

ار تنادي من بناها اار وتنيع من بناها اوأن القلب منسحقا

وقال القلب: ما فعلتبك األيام يا دار؟

وأين القاطنون هناوهل جاءتك بعد اجأي، هل

املصدر السابق. 7

٣٦٠

إسماعيل ناشف

جاءتك أخبار؟ ويف مقابـل هـذا القلق الوجـودي عىل املأسـاة، نرى

رد محمـود درويش عـىل هذه القصيـدة/ قلق األم،

وقـد أوردتهـا فـدوى طوقـان يف ذات الديـوان بعد

قصيدتهـا «لـن أبكـي»، عـىل الشـكل التـايل (ص 8:(399

من الشاعر محمود درويش

يوميات جرح فلسطيني

«رباعيات مهداة إىل فدوى طوقان»

«محمود درويش»

(1)

حنن يف حل من احكذاكر فالكرمل فيناوبل أهدابنا عشب اجلليل

ها تنا نركض اكجهر إ : ال تقوال تقو

حنن يف حلم بالدي، ويه فينا(2)

لم نكن قبل حزيران كأفراخ احلماما لم يتفتت حبنا بني السالسل و

حنن يا أختاه من عرشين خم

املصدر السابق. 8

٣٦١

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

حنن ال نكتب أشعارا ولكنا نقاتل!بهـذا املدخـل أزاح درويـش األم إىل منزلـة األخـت،

ومـن ثم أعـىل من صوتـه كـرب-أب يقاتـل، حيث

ال مـكان للسـؤال الوجـودي، سـؤال األم، وهو بهذا

لـم يجدد بـل شـغل مـن جديـد منظومة شـعرية

عربية-إسـالمية متجـذرة، لتحـدد فضـاء النظـام

الشـعري الفلسـطيني مقابل الحدث الشـعري غري

املكتمـل، تلـك الـوالدة عـرب املـوت.9 ولعـدة عقود

تلـت، لـم يأت صوت شـعري يحمل سـؤال األم بعد

فـدوى طوقـان، وكأن زيـارة حيفـا، وبعدها رحيل

درويـش عـن حيفـا، أغلقـت بـاب هـذه اإلمكانية.

بعـد هـذا الحسـم الجزئـي واملؤقـت، ظهـرت قوة

نقيـض أخـرى من خـالل االبن الـذي اشـتد عوده

ليبني هـو اآلخـر خيمة شـعره.

لـم يكـن مـن املصادفـة بمـكان أن أغلـب املدونـة

واحـد أب-رب نتـاج هـي الفلسـطينية الشـعرية

عينـي، محمـود درويش، مـع تحويـرات عليها من

لتتبع معالجات درويش الشعرية ملوتيف «األب»، راجع: 9حمزة، حسني، 2012. معجم املوتيفات املركزية يف شعر محمود

درويش. حيفا: مجمع اللغة العربية، ص 32-40. أما بخصوص معالجاته الشعرية ملوتيف «األم»، فراجع:

املصدر السابق، ص 110-123.

٣٦٢

إسماعيل ناشف

قبل األبناء التابعني. ولقد كانت املشـاريع الشـعرية

الصامتـة، أي تلك التـي ال تسـجل يف املدونة، قائمة

أن منـذ لحظـة تأسـيس هـذا النمـط األبـوي، إال

أغلبهـا لـم يظهـر إال يف مراحـل متأخـرة. وأدعـي

أول هـي الشـعرية الربغوثـي حسـني تجربـة أن

املأسـاة يف املـوت الـوالدة/ اقتنـاص يف محاولـة

من جديـد كقاعـدة الحدث الشـعري الفلسـطيني،

وتطويـر مقولـة شـعرية ذات ذائقة جماليـة بناها

عـىل مفهـوم العـودة إىل «الـربي النبيـل» كنقيض

لنظاميـة محمـود درويـش الشـعرية. فـإن كانت

نظاميـة محمـود درويـش تبـدأ مـن بريـة الريفي

ة كنقطـة بدايـة لطريـق تنتهـي يف محطـة املدنيـ

الغائبـة أبـدا يف بحثهـا عن حدثهـا الشـعري، فإن

بريـة حسـني الربغوثـي النبيلـة تعـود مـن ريفية

كحـدث أول جوهرانـي بـر إىل الحطـام املدينـة

شـعري بامتياز. فلنسـمعهما يحـاوران ريفيتهما:

درويـش يف قصيدة «قصيـدة األرض» مـن ديوان « أعـراس» (1977) (ص 635):10

أنا األرض

درويش، محمود، 1994. األعمال الشعرية الكاملة، الجزء األول. 10بريوت: دار العودة، ط14.

٣٦٣

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

واألرض أنت خدجية! ال تغليق اكاب

ال تدخيل يف الغياب. سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويلسنطردهم من هواء اجلليل.

....سيم الرتاب امتدادا لرو

أ

سيم يدي رصيف اجلروحأ

سيم احل أجنحة أ

سيم العصافري لوزا وتنيأ

سيم ضلويع شجرأ

وأستل من تينة الصدر غصناوأقذفه اكحلجر

وأنسف دبابة الفاحتني.

الربغوثـي يف قصيـدة «أنانـا» مـن ديـوان «الرؤيا» 11:(19 (ص

ربة املاعز األبيض ترىع ماعزا،

الربغوثي، حسني، 2008. األعمال الشعرية. رام الله: بيت الشعر، 11وزارة الثقافة.

٣٦٤

إسماعيل ناشف

ربة الزبد اكحري ترىع محام الشمس فوق املوج،ترىع ماعزا،

ربة اخلرضة ترىع عشبا أو مشمشا خجزا،تين يا

يأكل من عشب داست عليه ثور أبيض الصوف حخطاها!

ل قرب نهر سار حتت سماها! تين ثور جتو يا يا أنانا!

...لم يبق من عمرنا إال القليل القليل

نابيع، يا إهلة هذي اخلرضة اخلرضاء، هذي ا، هذا الرنجس الربي

نا احلقول؟ هل سوف حيدث، يوما، وتم إيا أنانا،

صربت، وصربي نيق

فـإن كان محمـود درويـش يسـعى إلعـادة امتالك

لحظـة الـوالدة/ املـوت الريفيـة يف زمـن املدينـة،

وذلـك يف مسـعاه ليمسـك الحـدث الشـعري مـن

قرنيـه، فلقد جـاء حسـني الربغوثي ليقول شـعريا

أزمنـة يف تحصـل حصلـت/ املـوت الـوالدة/ إن

٣٦٥

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

وأمكنة أخـرى، وقد يكون األهم يف مـادة أخرى. إنه

يسـعى إىل ما قبل القائـم نظاما شـعريا، وباإلحالة

ا تاريخيا إلدارة إىل مـا قبـل القائم نظامـا اجتماعيـ

خاصـة، الفلسـطينيني، املـوت الـوالدة/ شـؤون

ولكـن اإلنسـانيني، عامـة. يقـول حسـني الربغوثي

يف قصيـدة «الرحلـة إىل داخـل األرض» (مـن ديوان «الرؤيـا» (1988) -ص 32):12

حو بعد املطر، مشيت إىل ذلبة مغسولة بالص«هذا وضوح»، قلت ملوجات شمس الصباح، مياه تسيل

، قلت: وتصخب بني احل اآلن يف املاء ترسي؟». «رب املياه يرثثر أم رو

واحننيت بل قطرة تتأمل أين ستسقط، مثيل، احننيتشائكة املسالك حو تلتف : اللب يف ألسكن

االخرضار، يلتف ي ا لك ، حو تلتف بأكملها ذلب متاهات

حو قرشي. عت يف لب بلوطة مثل قطرة ماء تزيد صفاء، ويعربها جتمء، ولك شعاع يشق ي يف القلب من شعاع اججوم ا

إىل قطري. نصفني هذا الصفاء يشلك

املصدر السابق. 12

٣٦٦

إسماعيل ناشف

وأم رب-أب، الفلسـطيني الشـعر يف إذا، لدينـا،

وجوديـة وبيتها الشـعري القابـع يف الظـل، ولدينا

ابـن خـرج مـن ظـل خيمـة أبيـه، وأنشـأ خيمتـه

خيمـة ينفـي قـد شـكل آخـر، بشـكل الخاصـة

ا مما الـرب-األب. إال أن هـذه ال تسـنفذ ولـو جزئيـ

يجـري، تزامنا مـع بنية املأسـاة وعمال بهـا وفيها،

يف املشـهد الشـعري الفلسـطيني مـن محـاوالت يف

اإلخصـاب والقتـل، يف إعادة تعريف مـا هو االنبثاق

ومـا هو التقعيـد كمقولة يف عصارة شـكل الوالدة/

املـوت الفلسـطيني. فلقد فتـح االبن بالذات سـؤال

البحـث عـن األم، وبهـذا عـاد سـؤال األم الباحثـة،

وهكـذا تشـكلت ثغـرة يف بنيـان النظـام الشـعري

القائـم. إن هـذه الثغرة ما فتئت تتسـع باسـتمرار

منـذ ذلـك الحـني، وذلـك أن الـوالدة/ املـوت لـم

تربحـا موقعهمـا األول، بـل نـرى أن الـوالدة عـرب

املوت، عىل مسـتوى الحـدث االجتماعـي التاريخي،

ا. هـذه ا وبالتجـذر عموديـ آخـذة يف االتسـاع أفقيـ

منظومـة ا، جزئيـ قوضـت، التاريخيـة العمليـات

الـرب-األب حتـى إن محمـود درويـش حـاول أن

يرتجل عنها، فلم يسـتطع ألسـباب شـتى. نسـمعه

يقـول يف قصيـدة «أنـزل، هنـا، واآلن» (مـن ديوان

٣٦٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

«ال تعتـذر عمـا فعلـت» (2004) -ص 33):13

نزل، هنا، واآلن، عن كتفيك قربكأ

وأعط قمرك فرصة أخرى لرتميم احلاكية ليس لك احلب موتا

ليست األرض اغرتابا مزمنا،فلربما جاءت مناسبة، فتن

لسعة العسل القديم، كأن حتب نت ال تدري فتاة ال حتبك

وأ

أو حتبك، دون أن تدري ملاذاال حتبك أو حتبك/

أو حتس وأنت مستند إىل درجبأنك كنت غريك يف اخكنائيات/

فاخرج من «أنا»ك إىل سواك ومن رؤاك إىل خطاك

ولعـل مـن أهـم مـا يف التقـاء كثافـة الـوالدة عـرب

املـوت مـع سـؤال األم الباحثـة، ومع سـؤال البحث

عـن األم، بعـد تصـدع نظام الـرب-األب ومـا يبدو

عـىل أنـه انتهـاء صالحيـة منظومـة معانيـه، هـو

بريوت: األول. الجزء الجديدة، األعمال محمود، 2009. درويش، 13دار الريس للنرش والكتب.

٣٦٨

إسماعيل ناشف

صعـود البنـت النبيـة/ الحكيمـة/ الشـاعرة، مـن

النبـي/ الجنـس املثـيل االبـن وصعـود جانـب،

الحكيـم/ الشـاعر؛ وكال التياريـن لـه إرث عريـق،

العربيـة الحضـارة يف نقيـض، شـعري كفعـل

قهما يف السـياق اإلسـالمية، والسـؤال هو حول تحق

السـعي يف التيـاران يقـوم اآلنـي.14 الفلسـطيني

األول، الشـعري الحـدث مـع االنشـباك إلعـادة

الـوالدة عرب املـوت، ليقيما، ال بمـوازاة أو عىل جانب

الـرب-األب، بـل إىل مـا وراء من انتهـت صالحيته.

وبمـا أننا سـوف نفرد الجـزء التايل من هـذا املقال

لصعـود ابـن مثـيل الجنس نبـي/ حكيم/ شـاعر،

قي املناداة» (2013) لحسـني الخطيب ديـوان «رش

شـحادة، فسـأعرض عينة نموذجية من شـعر ريم

غنايـم، وذلـك بغيـة توضيح مـا القصـد يف صعود

البنـت النبيـة/ الحكيمة/ الشـاعرة. يتميـز ديوان

ريـم غنايـم «ماغ-سـرية املنـايف» (2011) بكونـه

يطرح مرشوعا شـعريا جديدا لبدايـة الخلق، وبهذا

أمر وذاك الفلسطينيات، الشاعرات من العديد األخري العقد يف ظهر 14هو بحد ذاته الفت للنظر -مقارنة مع الفرتات السابقة-. نذكر منهن-

عىل سبيل املثال ال الحرص:أسماء طه؛ داليا الرشوف؛ هال السويس؛ سمية الحيات؛ أبو مايا

عزايزة.

٣٦٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

فهـو يحمـل موتـا جديـدا أيضـا.15 ويبـدأ الديوان

مرشوعـه بتغريب املفـردات، بحيث يصبـح املألوف

الشـعري الفحـويل قديمـا وغري ذي صلـة، كأنه من

عهـد بائـد، ليسـتمر الطـرح الشـعري بمسـتوى

أسـطوري األوىل للوهلـة يبـدو الـذي املضمـون

النفحـة، أي يعيدنـا إىل لحظة الخلـق، بما هي والدة

جماعيـة، لتتشـكل من ثـم حركة رفـض «للصبية»

(الفحـول الصغار) وحركـة احتـواء رحمية للحظة

والدة آتيـة مـع موتها املحقـق. تقول ريـم غنايم يف قصيـدة «تدويـن لنشـأة الرسـولة» (ص 15):16

أي طيش عنيف يسكنك.تتساءلني عن صخور اآلخرين

وصخرك استثناء ناري ضارب إىل احلمرة.فحم حجري اضطربت معادنه.

فن... ت من رحم ا لعلك واختذت أبدية صمدية لعلك العنق... يف مصدوخ بلورا

شلك رسولة. لعل غياهبك أثر قديم حلفر هش...

أو شلك فراء خرنق أعىم تفتتت يوما داخل اضطرابه..

غنايم، ريم، 2009. ماغ: سرية املنايف. بريوت: دار الجمل. 15املصدر السابق. 16

٣٧٠

إسماعيل ناشف

كفكرة احتملت الوقوع داخل حطام صخري. لعل رساحكك انثالم كوىي متعمد

اشتباك اخلارسين يف املعاركرصاع خوذات معدنية صدئة

إخدة هدم للفرضياتبداية تشكيل الطني

بعـد هـذا العـرض األويل لتاريـخ «عائلـة» الشـعر

انهيـارا يبـدو ومـا النكبـة، منـذ الفلسـطيني،17

األبويـة، الربوبيـة/ الجنـس/ ثنائيـة ملنظومتـه

قي سـنعرض لديوان حسني الخطيب شـحادة «رش

املنـاداة» (2013)، الصـادر عـن «دار راية» للنرش

يف حيفـا. وهـذا هـو ديـوان حسـني الثانـي بعـد

«تقاسـيم عـىل ناي مكسـور»(1996).18 وحسـني

مجـدل مـن أصلهـا الجئـة عائلـة مـن ينحـدر

عسـقالن، جـرى تهجـري جـزء من أهلـه إىل غـزة،

بينمـا الجـزء اآلخـر اسـتقر يف اللد. يعمل حسـني

حول مفهوم آخر للعالقات العائلية يف الشعر، انظر: 17دار بريوت: الشعر. يف نظرية التأثر: قلق هارولد، 1998. بلوم،

الكنوز األدبية. مكسور. ناي عىل تقاسيم .1996 حسني، شحادة، الخطيب 18

القدس: د. ن.

٣٧١

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

العربية-اإلسـالمية، الحضـارة تاريـخ يف باحثـا

حيـث يتخصـص يف الفـرتة اململوكيـة مـن حيـث

الفـن واألدب والتاريـخ االجتماعي للمهـن، وتحديدا

البيطـرة. ولقـد صـدر لـه مؤخـرا عـن دار بريـل

الهولنديـة كتـاب جامـع لتاريـخ الطـب البيطـري

يف العهـد اململوكـي، ويعتـرب هـذا الكتـاب إضافـة

نوعيـة، مـن حيـث التجديـد والشـمولية والتحليل،

للمعرفـة عن الفـرتة اململوكية، تحديـدا، والحضارة

عامـة. العربية-اإلسـالمية،

.3

يف تلـك اللحظـة التـي ينهـار فيهـا نظـام مـا، أيا

كانـت طبيعتـه أو نظاميتـه، نجد أنه مـن الصعب

لفظـه كليـة عىل حطامـه وإرثه السـابق. فما ينبثق

مـن لحظـة االنهيـار يحمـل مـن السـابق عنـارص

مختلفـة تجـري معالجتهـا بطريقة جديـدة، حيث

إن املهـم يف حـال كهـذا هـو إمكانية نحـت طريقة

جديـدة يف تنـاول مفاصـل الحيـاة. ولعل مـا يربز

يف انهيـار نظام شـعري ما هـي الطـرق املمكنة يف

إعـادة االنشـباك مع الحدث الشـعري عـىل االمتداد

مـا بـني االنبثـاق/ الـوالدة والتقعيـد/ املـوت. أما

٣٧٢

إسماعيل ناشف

يف حـال أن االنهيـار ناتـج عـن خطاطـة تقويضية

تحملهـا قـوى حياتيـة لـم تطـف يف السـابق عـىل

السـطح مبـارشة، بـل كانـت يف حالـة مـن القمـع

والكبـت، فـإن التقويـض قد يحمـل، كمونـا، طرقا

جديـدة يف االنشـباك مـع الحـدث الشـعري تتالءم

وطبيعـة القوى التي تشـق طريـق التقويض.19 ويف

حـال أن التقويض يخـص مبارشة قضيـة الوالدة/

املـوت والحركـة املولـدة للحـدث الشـعري ذاته، ال

بـد لالنشـباك من جديـد معها أن يـرد تفكيـكا إىل

مقومـات املواقـع يف املتتاليـة: والدة/ مـوت، حدث

شـعري، نظام شـعري. ومقومات هـذه املواقع عىل

التـوايل هـي: املـادة؛ املـكان؛ الزمـان. فمـن حيـث

املبـدأ، يقـوم التقويض الشـعري عىل إعـادة قراءة

ملاديـة املـادة، ومكانيـة املـكان، وزمانيـة الزمـان.

نقصـد بإعـادة القـراءة عمليـة خلق وتشـكيل من

جديـد تكشـف الكامـن لتنشـئ احتمـاالت والدة/

مـوت أخـرى. إن ديوان حسـني الخطيب شـحادة

«رشقـي املنـاداة» لهـو مـرشوع تقويض شـعري

يحفـر يف قضيـة الـوالدة/ املـوت والحركـة املولدة

يف الحداثة العربية، هنالك عدة نماذج من عملية التقويض الشعري، 19الحاج وأنيس أدونيس مجلة «شعر»، أصحاب مرشوع أبرزها ولعل

وغريهما.

٣٧٣

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

للحـدث الشـعري واألنظمة الشـعرية املمكنة، وذلك

املـادة (تلـك الجسـد األساسـية: مقوماتهـا عـرب

األوىل)؛ األمكنـة؛ األزمنـة.

يرتكـب ديـوان «رشقـي املنـاداة» من ثالثـة أجزاء

أساسـية، هـي: تهافـت الجسـد؛ تهافـت األمكنـة؛

تهافـت األزمنـة. وبالرغـم مـن أن كل تهافـت منها

يتنـاول مقومـا مختلفـا، وسـنتناوله الحقـا، ثمـة

بعـض املميـزات املشـرتكة والتـي سـنقف، بداية،

عندهـا للولـوج إىل الديـوان ككل. امليـزة األوىل هي

الصـوت وجرسـه، حيـث نالحـظ أنهمـا مجبـوالن

مـن مـادة صوتيـة مينوريـة،20 ال تتسـم بالفحولة

الصوتيـة خاصـة الشـعراء واألنبياء وامللـوك؛ فمثال

يف قصيـدة «بـوح» (ص 32) يقـول:

ماذا يمكن أن تصف السماء؟حبرا

أم عشقا أزرقمع تنضب عناقيد احكحمل ملوحة املوج

نستخدم املصطلح «مينوري» هنا باملعنى الذي حدداه دلوز وجتاري. 20انظر:

Deleuze, G., and Guattari, F., 1986.Kafka: Toward a minor literature. Minneapolis: University of Minnesota Press.

٣٧٤

إسماعيل ناشف

واهلوجفاحكصق

احكصقكبدا بل كبد ...

......... بل كبدبل آهات

وطرقات مشؤومةوالرتكيـب املوضـوع مـن بالرغـم أنـه فنـرى

الشعري، يكشـف الصوت وجرسـه تركيبة أرضية،

قريبـة، وكأنها لـم تبتعد عـن املـادة األوىل بعد. أما

امليـزة الثانيـة فهـي اللغـة؛ فهـذه لغـة مألوفة إىل

حد بعيـد وال تحمـل غرائبية أو مفـردات عجائبية،

حيث تبـدو للوهلـة األوىل لغة أقـرب للغة القصص

والروايـات منهـا إىل مـا تعودنـاه سـابقا عـىل أنه

لغـة الشـعر. فمثـال، يف قصيـدة «يوميات مسـافر

أندلـيس إىل فلسـطني إبـان الفـرتة الصليبية» (ص

:(143

أقلعت باخرة اكنادقةمن مرفأ مالقة

إىل الرشقمرورا بالقريوان

٣٧٥

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

فاإلسكندرية...اجلباة عتاة قساة

ال يرمحونخول ممنوع وا

واقرتبنا من مرفأ عسقالناكن مغلقا

توجهنا إىل غزة عن طريق الربتغـري واملألوفـة السلسـة الروائيـة اللغـة هـذه

يف التـي، املغريـات مـن لـه تقـرتح القـارئ،

املعتـاد، ال يعرضهـا الشـعر النظامـي. أمـا امليـزة

الثالثـة، فهـي تقنية التنـاص مـع اإلرث التوحيدي

العربيـة واملدونـة عامـة، املختلفـة، وأسـاطريه

اإلسـالمية، تحديـدا، حيث يقـوم حسـني برتكيبها

مـن جديد بطرق شـتى، تـؤول إىل أرضنـة املقدس

يف سـياق جديـد. مثـال، يقـول يف قصيـدة «ألسـنا

:(76 (ص يوسـف؟» كلنـا

.....رفقا

فتشنجات األصابعتأخذ ماكنها الطبييع

أما النسوة

٣٧٦

إسماعيل ناشف

عن أصابعهن فقطألسنا لكنا يوسف؟ألسنا لكنا يوسف؟!

ويف أرضنـة األسـطورة، واملقـدس منهـا عـىل وجه

التحديـد، طـرح ملبـدأ العـودة إىل مربـع الخلـق/

األصـل األول، حينهـا عندمـا جرى تقعيـد القوانني

األوىل التـي مـا زال البـرش يمشـون عليهـا زرافات

زرافـات. أما امليـزة الرابعة فهي حركـة التقويض،

حيـث تتميـز هذه الحركـة بعدة خطـوات قد يكون

أهمهـا إبـراز نفاد صالحية شـكل املعنـى النظامي

السـابق. فمثـال، يف قصيـدة «حيفـا هـي الكـذب»

:(239 (ص

حيفا تعانق فرحها املصطنعلرتسم رموشها اكالستيكية حول عينني من زجاج

ووجه أثري...تقاسم مغتصبها الرسير

وتقدم فستانها احلريرعاود الكرة تلو الكرة

وتبىق زهرتها الليلك مفتاحا كيت قديم تهدم!تأخذ بيد عشيقها الرسي

٣٧٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

إىل قبو حكمارس معه خطيئتها األلف

فتمتلك قلوب الشعر حني ينتيف الشعر

....إن إبـراز نفـاد صالحية املعنى يجري عرب الكشـف

عـن طبقات متعـددة مـن الوجـود، حيث مـا نرى

خاصـة والحقيقـة مصطنـع، زائـف، هـو منهـا

الشـعر تكمـن يف مكان آخـر. أما بخصـوص امليزة

الخامسـة، فهـي يف السـعي يف اكتشـاف الحقيقـة

الشـعرية، حيـث يؤدي هذا السـعي إىل اسـتحضار

حـدث شـعري يعيـد حالـة االنشـباك مـن جديـد

مـع الهاجـع املمكـن، ذلـك الـذي يمـور بانتظـار

صاحبـه. يقـول حسـني يف قصيـدة «أبحـث عـن

رجـل غجـري!» (ص84):

أريدك رجال يعلمين احلب بل الطريقة الغجريةينسيين حبا أدما

ويصنع يل حدودا لسماء أخرىيداعبين حني يعاود احلنني... يبعرثىي...

ه بنعاس األلم والوحدة ... ثم أبصقه دون أن أنظر إأريدك رجال يغرس يف كتيف أظافره... فيدميين...

٣٧٨

إسماعيل ناشف

... أبدل من أجله ديين يل وأر أناوره ينسيين بصوته اجلهوري أذان الفجر....

الالفـت للنظـر يف هـذا املقطـع ليس فقط الشـهوة

املثليـة، والتـي هي بحـد ذاتها تمور يف كل إنسـان،

وإنمـا يف السـعي فيهـا نقـف أمـام تشـكيل حيس

مختلـف يسـتبدل القائـم بالهاجـع املمكـن، ولكن

ال يقيمـه نظامـا بعـد. إنهـا لحظـة الكشـف ذاتها

دون غرسـها يف تاريـخ عيني بعـد، وكأنمـا إلطالة

زمـن التحضـري للـوالدة/ املـوت. وهـذا مـا يأتـي

بنـا إىل امليـزة السادسـة، واألخرية، فبعـد التقويض

والسـعي، نجد أن االقـرتاح الجمايل الشـعري يقوم

عـىل الغرف مـن مادة الجسـد الحضـاري العربي-

اإلسـالمي ليعيد غرسـها ومزجهـا بأمكنـة وأزمنة

أخـرى لم تكـن مألوفـة، ظاهريا عىل األقـل، بحيث

واآلن الهنـا يف الوجـودي العمـق عبـق يف تعيـش

املتجدديـن أبـدا. يف قصيـدة «صلواتنـا الخمـس»

(ص 122-123) تتجـىل هذه امليزة بالشـكل اآلتي:

خرج من عنفوان الصباحأ

ألحكمس أرق الظهريةوحبيبات العرق... تتساقطرذاذ خشق يرنو بل جسد

٣٧٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

با ملح تمثال بل شفا ذو حبيب حبرية املوت... حني يلتقيان

لك عيد! ***

نبدأ صالة عرص النشوةهديا يتضوع غغم شوق

جا قائمني راكعني ساجدين حيوفنطوف يف اكيت خكفني

غمرنا الرب برمحته! حنو قبلتنا...

تكـون كل مـن هـذه امليزات السـت مدخـال محددا

ملقاربـة ديوان «رشقـي املنـاداة». وأردنـا بعرضها

بهـذا الشـكل املتسلسـل أن نـربز مـدارات الحـدث

الشـعري املحمـول يف هـذا الديـوان، فهنالـك مدار

الصوت وجرسـه، حيث يشـكل مادة الشـعر األوىل،

واللغـة بمـا هي اقـرتاح لنفـي نظام وإحـالل آخر،

وتقنيـة التنـاص مـع أسـطورة الخلـق التوحيدية

ومـا اشـتق منهـا، بما هـي تنفيـذ إجرائـي للنفي

واإلحـالل، أمـا مـدار التقويض فيحـاول أن يرتقي

املحـاور، النفـي مـن أشـمل حالـة إىل بالتنـاص

الهاجـع عـن البحـث يف السـعي مـدار لندخـل

٣٨٠

إسماعيل ناشف

والكامـن يف األنظمـة الجسـدية واملكانيـة والزمنية

املـدار مقومـات تكتمـل وبهـذا لنسـتحرضه،

السـادس، االقرتاح الجمايل الشـعري، حيـث ينادي

رشقيتـه عرب تجذيـر/ توليد وجود الهنـا/ اآلن يف/

مـن املـادة العربية-اإلسـالمية. لقـد حاولنـا يف هذا

القسـم تشـخيص وتحديـد طبيعـة هذه املـدارات

دون أن نتطـرق إىل آليـات عملهـا كنقطـة ارتـكاز

نقدي، وفيما سـيأتي سنحاول أن نسـتخلص نقديا

عمـل هـذه املـدارات بمـا هـي وحدة.

.4

ممـا ال شـك فيـه أن قـراءة العالـم املحيـط بنا من

خـالل الجسـد، يف سـياق نظـام ثنائـي الجنـس/

سـؤال جديـد مـن تفتـح قـد أبـوي، ربوبـي/

عـىل املنبثـق الشـعري والحـدث املـوت الـوالدة/

امتـداد الحركـة بينهمـا. إن الجسـد، يف جغرافيتـه

املبنية عـىل الفتح/ اإلقفـال بعالقاتـه التنافذية مع

بيئتـه، هو حمـال أوجه متعـددة قد يأتـي كل منها

بقـراءة مختلفـة لهـذا العالـم. ويف إمكانيـة إعـادة

قراءة الـوالدة/ املـوت والحدث الشـعري من خالل

تماريـن تشـكيلية يف الفتح/ اإلقفـال وجغرافيتهما

٣٨١

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

الجسـدية، تكمن عـودة إىل مـا يبدو عىل أنـه املادة

األوىل. يسـعى حسـني الخطيـب شـحادة يف ديوانه

الفتـح/ يف تشـكيلية تماريـن ممارسـة إىل هـذا

مـع الجسـد جغرافيـة تنشـبك حيـث اإلقفـال

جغرافيـة اللغـة وجسـدها؛وذلك أن جسـد الحـدث

الشـعري هـو اللغـة. فنـراه يعـرب حـدود الجسـد

نافذا إىل اللغـة، وبالعكس، وكأنهما امتداد لشـمول

ما. يبـدأ الديـوان بقصيدة «عشـق» (ص 11) التي

جسـد-لغة: بالعبور تفتتـح

يعبث العاشق جبسدههتك حرمة احلروف

كورة األبدية لم تزده عذرية افينجو حنو قوم لوط

قبل جفاف حبر املوتويسـتمر العبـور يف الديـوان ككل، وإن باتجاهـات

شـتى، حيث نرى يف قصيـدة «تكاويـن» (ص 38)

أن العبـور والد يفتـح آفاقـا أخرى، أي لغة-جسـد:

(4)ونهايات الطواف

نهايات طوافوأمواج

٣٨٢

إسماعيل ناشف

اكداية واجهايةيف دوائر ودوائر ودوائر

أخرى لرتكع بل الركبتني

وتبتهل لإلمنحك

نغماختلق بهإلها آخر

وحاكيا أخرى وأساطري ولغة

أخرىفيتكون اجلسد من جديد

ويكون جسد آخر وجنس آخر!

هـي لغة2-جسـد2 جسـد1-لغة1/ الحركـة إن

الطبقـة األوىل يف السـعي لالنشـباك مـن جديـد مع

الحـدث الشـعري، وهـي تتـوازى تباعـا مـع فتح

اإلقفـال/ إقفـال الفتـح، أي تركـه يف حالـة الفتـح

املسـتمر. إال أن العودة الفاتحة للجسـد تكتشف أن

٣٨٣

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

الجسـد الفعـيل بما هو جـزء رئيس يف مـادة املكان

جـرت مصادرتـه، تحويـر عىل الـوالدة عـرب املوت

الفلسـطينية حيـث إن لحظـة والدة الجسـد الجديد

هـي تحديـدا عـرب قتله. وهـذا ممـا يحتـم معالجة

مـادة املك ان كطبقة ثانية يف السـعي لالنشـباك من

جديـد مع الحدث الشـعري، حيـث عنونها حسـني

كمحـور العمـل الثانـي «تهافـت األمكنـة». يف هذا

املحـور، نجـد أربعـة أصناف مـن األمكنـة: املكان

األول املصادر عسـقالن؛ املـكان الثاني اللـد؛ املكان

الثالـث املدينـة العربيـة اإلسـالمية، الرابـع مـدن

العالـم. الالفـت للنظـر أن املـكان العينـي املفصيل

والـذي ينفـذ إىل كل التهافتـات الثالث، وإىل سـائر

أصنـاف األمكنـة، ليصبـح مـادة املـكان األوىل، هو

عسـقالن. ال تذكـر عسـقالن لوحدهـا و/ أو مـن

أجـل ذاتها، فهـي دوما جزء من نسـيج أسـطوري

مـكان تشـكل حيـث تاريخـي، حـدث دينـي/

الحـدث. ففـي قصيـدة «وأولد مـن جديـد» يبحث

عـن والدة أخـرى عـرب الجسـد واللغـة ليصـل إىل

عسـقالن بالشـكل اآلتـي (ص 27-26):

تضع يل معالم وحضارات

٣٨٤

إسماعيل ناشف

وتواريخوأساطري

مزيفة وتقول يل

أنت إنسان!!!أو

قبس من نور اإلأو بعوضة

تمتصرحيق العدم

ونملةتدوسها أفراس سليمان

يف وادي اجمل يف عسقالن

تصنعين أسطورة ضائعة وأمنية

ترد عسـقالن هنـا وكأنهـا موقع ملثـال، النملة، عىل

مـا قـد يكـون أصـل غـري األسـطورة التوحيديـة،

وذلـك يف سـعي القصيـدة لتعيـد الـوالدة/ الخلـق

مـن جديد. تتكـرر هـذه الطريقة من االسـتحضار

يف العديـد مـن القصائـد، وأغلبهـا مقـرون بوادي

٣٨٥

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

النمـل وسـليمان، ويف الحـاالت األخـرى يف سـياق

حـروب صـالح الدين، وشمشـون وجدائله، وسـفر

األندلـيس إىل فلسـطني ومحاولة سـفينته أن ترسـو

يف مرفـأ عسـقالن. يف اإلرث الشـعبي الفلسـطيني

الخـاص بأهـل عسـقالن، هنالك حكايـة حول كون

وادي النمـل الـذي مـر به سـليمان وخاطـب النمل

فيه هـو يف عسـقالن، كما يذكـر البعض أنـه كانت

هنالـك طقـوس وموالـد تخـص هـذا الـوادي قبل

عـام 21.1948 ونجـد يف بعـض قصـص األنبيـاء

عسـقالن، يف سـليمان نمـل وادي موقـع تحديـد

وورد يف «معجـم البلـدان» (لياقـوت الحمـوي) أن

وادي النمـل بـني جرييـن وعسـقالن.22 أما سـورة

«النمـل»، حيث تـرسد قصة سـليمان ووادي النمل،

فمـا يخصنـا منهـا مبـارشة هـو قضيتـان، األوىل

هـي أن سـليمان كان يتكلـم لغة الحيـوان والطري،

والثانيـة ذكـر قصة قـوم لوط من ضمـن القصص

املذكـورة فيهـا. بهـذا تجتمـع هنـا بعـض املحاور

األساسـية التـي يعالجهـا حسـني يف ديوانـه هـذا:

حيث عسقالن، أهل من الثاني الجيل أبناء مع شخصية محادثات 21يذكرون القصص التي سمعوها من أهلهم حول هذا املوضوع.

الحموي، ياقوت، 1977. معجم البلدان، الجزء الخامس. بريوت، 22دار صادر، ص 346.

٣٨٦

إسماعيل ناشف

الجسـد واللغـة واملـكان، حيـث هـي بمثابـة املواد

األوىل التـي يجـري تقويـض أنظمتهـا بحثـا عـن

الحدث الشـعري. فعسـقالن هي البداية والصياغة،

وموضـع الخلـق ومادتـه، ومـن هنـا عـدم القدرة

عـىل معالجتها الشـعرية املبـارشة، فهـي تذكر عىل

ـا هامـش أمكنـة ولغـات أخـرى، كأنهـا هـي حق

املثـال لقضيـة مـا وليسـت القضيـة األوىل. إن هدم

املـكان األول ومادتـه ولغتـه، عسـقالن، وارتـداده

إىل موقـع ألحـداث مشـكلة يف األسـطورة والتاريخ،

يـؤدي إىل حالـة مـن الرتحال بـني األمكنـة حيث ال

يسـتقر الشـاعر يف مدينـة مـا، بـل يحلب مـن كل

واحـدة عصارتها ليسـائل املـكان عـن مكانيته وما

احتمـاالت تشـكيلها من جديـد. ويقـول يف عودته،

الالنهائيـة بحثـا عـن املكانيـة، إىل القاهـرة املكان

والتاريـخ (قصائد عشـق قاهرية، ص 184-183):

(1)مع الفجر

أتساقط ضبابابل نهر حيمل

..... لك األوجاعوخيلقين ثانية من نور

٣٨٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

(2)أودعك للمرة األلفوأعود ثانية هائما يف

سحر يعود وأنت بل بقاء أ

.....(6)

سوف أعود ثانية وسأعود مرة أخرى... وأخرى... وأخرى

ألملس الظنونوأقبل الشكوك

فأرى أشباه األشياء يف بقايا تاريخ

لم يعد سماء! إن مكانيـة القاهـرة تتجـىل كملجأ، كحضـن، ولكن

يف كل مـرة نعـود إليـه نعي مـن جديـد أن األحداث

ال-مكانيـة إىل وحولتهـا املدينـة نفـت التاريخيـة

تدفـع الشـاعر إىل نـوع العـودة الالنهائيـة بحثـا

عـن ذلـك امللجـأ الحضـن. يتكـرر هـذا النمط مع

املـدن املختلفـة، وإن بتحويـرات مختلفـة؛ فمثـال

نـراه يقـول يف مطلع قصيـدة «غرناطـة... محاولة

٣٨٨

إسماعيل ناشف

إلغـالق الدائـرة» (ص 165):

استقبليين بذراعيكواحتويين

ذوبيين يف مسامك عرقاوانضحيين

ررششيين رذاذا من بلوريف باحاتك

! وأعديين إىل صوريت األومـن هـي الصـورة األوىل، عسـقالن أم غرناطة؟ أم

هـي مكانية املـكان العربي-اإلسـالمي، واإلنسـاني

عامـة؟ إن هـذا البحث يف الطبقـة الثانية من الحدث

الشـعري هو نوع مـن الحركة الرتحاليـة، تلك التي

بعـد فقدانهـا املـكان األول لـن تسـتطيع أن تكون

ـا يف أي مـكان ولذلك هـي كل األمكنة، أي تحمل حق

املكانيـة كعنـرص مشـكل لهـا. بهـذا مـن املمكـن

القـول إن شـكل الفتـح/ اإلقفـال املكانـي يتميـز

بـأن محاولة فتـح إقفـال املـكان األول (البحث عن

عسـقالن) فتـح عـىل مرصاعيهـا كل إمكانية حلول

يف مـكان آخـر، هذا بحيـث إن كل األمكنـة أصبحت

مفتوحـة مـن منطـق الرتحـال ذاتـه. بهـذا يصبح

لدينـا الشـكل التايل مـن الصياغـة: فتـح اإلقفال/

٣٨٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

إقفـال الفتـح (الرتحـال). إن إقفال فتـح املكان قد

يحركـه باتجاهـات عدة، وقـد يكون فتـح اإلقفال،

الـذي يبـدأ من العـودة إىل عسـقالن، سـؤاال مكانيا

عـن أحـوال زمـن يأبـى إال أن يقيص مادة/ جسـد

ا إقصاء مادة/ جسـد املـكان عـن مكانيتهـا؛ عينيـ

الشـاعر عن ذاتـه يف زمن النظـام ثنائـي الجنس/

الربوبـي/ األبوي، وإقصاء مادة/ جسـد فلسـطني

عـن ذواتها يف زمـن نظام االسـتعمار.

يف الطبقـة الثالثـة يف السـعي لالنشـباك مـن جديد

تهافـت حسـني يعالـج الشـعري، الحـدث مـع

زمنـي تطابـق يف يبحـث نـراه حيـث األزمنـة،

اإلقصـاء، األبـوي واالسـتعماري. ويعي الشـاعر أن

ال بـد مـن تشـكيل إيقاعـي، مـادة الزمـن، لطرح

أفـق جمايل شـعري، إال أن هـذا التطابـق يولد لديه

حالـة حـزن مريرة شـديدة الكثافة. يبكـي زمنه يف

قصيـدة «عبـث» (ص 261) قائـال:

أجتمع أجزاء يف خضم الزوال

ألحلم بأن احلياة باقية ما بيق اإلنسان!

..... هراء

٣٩٠

إسماعيل ناشف

****هراء!

قرن من الزمان يم لك ما هو زائل

ولك ما هو إنسان ****

ار املصري جيري حنو عتبة اوقرن من الزمان جديد

جيري حنو املصري!****

احلدود اليت أحاول أن أراها تبحث عن خيوط العنكبوت

ي يسري حثيثا اوحدودي .....

... اليت أسري عليها ...... جمرد خيوط

نـرى هنـا أن الورطـة الوجودية نابعة من هشاشـة

الوجـود الزمني بالنسـبة للشـاعر الـذي يقع تحت

وطـأة تطابـق زمنـي اإلقصـاء، مـن جانـب، ومن

ترافقهـا مع حتميـة تدفـق الزمن املسـتمر الذي ال

يلقـي أي اهتمـام لهذه الهشاشـة، مـن جانب آخر.

٣٩١

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

فعندمـا يصبـح الزمـن الوجـودي اآلنـي مجموعة

مـن خيـوط بيـت العنكبـوت، ال يمكـن إال االنطالق

يف البحـث سـعيا يف أزمنة أخرى، ليسـت بالرضورة

جديـدة أو قديمـة، وإنما هي يف األغلب مـادة زمنية

يقـوم الشـاعر بمعالجتهـا شـعريا وذلـك يف بحثه

وراء االنشـباك من جديـد بالحدث الشـعري. فنراه

يف قصيـدة «تعـال إىل نجمي لتومـض نجمك» يزور

زمنـا ويجلس فيـه من جديـد (ص 255):

ق من الرشق الشمس ترشوأنا الرشق

بدايات... وروائح... وألوانل املسري ال يعج

فللرشق أزمنة للردالقمر ليس بهالل

ال وليس ببدربل... قليل من هنا وقليل من هناك

****األرض تسري ملستقر هلا

حكحملين تارخيا وبدايات ونهايات........... بال حدود

وعيون عسلية

٣٩٢

إسماعيل ناشف

تلتقط ما حيلو هلا وما ال حيلو هلا من دمع ومن فرح...

ال أقول آه فلم أعد يف زمن اآلهات

ولم أعد أمتشق السيف أو اللكمبل أمحل عشقا

ولغة لم تعد حتاور األنبياء ت وإليه... إليه أسطورة و

بالصدفة... كمايو عقيل إشعاخت من وميض

ودوائر رسمدية تلمس الكبدمن العروق

و كبدي دوائر كونية الـذات الـرشق/ الزمنيـة املـادة إىل العـودة إن

وتوليدهـا مـن جديد هو املقـرتح الجمايل الشـعري

هنـا. ذلـك أن الوجـود الزمنـي اآلنـي الهـش يحتم

سـعيا إىل زمنيـة أخـرى، زمنية تتأتى مـن الغوص

يف املـادة الرشقيـة/ الذات، فهـي تعـود إىل البداية،

للـرد، وميقـات مواعيـد إىل وتشـري الحـس، إىل

وتشـبك الهـالل بالبدر من جديـد، لتنطلـق معرفة

مـن جديـد األرض/ املـكان والجسـد واللغـة عـرب

٣٩٣

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

زمنيـة رشقيـة ولـدت للتـو مـن تـزاوج رحمـني:

الوجود الزمنـي الهش، والعمق الحضـاري العريق.

بهـذا فقـد قـام حسـني بمعالجـة شـعرية للزمن

مـن خالل فك هشاشـة اآلنـي، واالنطـالق يف رحاب

زمنيـة الـرشق/ الـذات، وذلـك ليـس ليقـف عـىل

زمـن صلب، فهـذا يناقـض الزمنية بما هـي كذلك،

بـل ليسـري بـال عجالـة يف أروقـة املـكان والجسـد

واللغـة خالقـا إياهـا مـن جديـد. بهـذا، إن الطبقة

الثالثـة، تهافـت األزمنـة، من السـعي يف االنشـباك

مـع الحـدث الشـعري مـن جديـد تجـري بـذات

الصيغـة املنبثقة مـن القـراءة الجسـدية للطبقتني

األوىل والثانيـة: فتـح اإلقفـال/ إقفـال الفتـح، أي

فتـح قفـل الزمـن الوجـودي الهـش، وإقفـال فتح

السـعي يف رحـاب زمنيـة الـرشق/ الذات.

الثالثة-الجسـد للتهافتـات القـراءة هـذه مـن

واألمكنـة واألزمنـة-، يتبـني لنـا أننا أمـام مرشوع

شـعري ينطلـق مـن فحـص كنـه الجسـد، الفعيل

واملجـازي، ليسـتخلص عصـارة عمـل الجسـد، يف

بنـاء يف طريقـة إىل ثـم مـن وليحولهـا ماديتـه،

جسـد املـكان وجسـد الزمـان. وطريقة االنشـباك

مـع العالـم واإلنتاج عـربه هي مـا اصطلحنـا عليه

٣٩٤

إسماعيل ناشف

فتـح اإلقفـال/ إقفـال الفتح. فالجسـد، كل جسـد

فتحتـه وإذا يمـوت، أغلقتـه إذا كذلـك، هـو بمـا

يعيـش، واإلغـالق أنـواع ومجـازات، ولكـن الفتـح

أجـود من النـوع وأرحب مـن املجاز. الفتـح يف هذا

الديـوان عـىل طبقاته املختلفـة اتخذ شـكل التوليد،

وهـو بهـذا يسـعى إىل إنشـاء حدثـه الشـعري عرب

التموضـع مـن جديـد يف االمتداد القائم بـني الوالدة

واملـوت، إال أن شـكل التموضع هو ليـس عفويا، بل

هـو انبثاق من شـكل مـادة املأسـاة الفلسـطينية.

.5

«رشقـي ديـوان يف الشـعري الجمـايل االقـرتاح

حركـي تشـكيل إنشـاء عـىل يقـوم املنـاداة»

االنشـباك ليعيـد الفعـل ذات يف ويبنـي يقـوض

مـن املنبثـق الشـعري الحـدث مـع جديـد مـن

صيغـة الـوالدة/ املـوت الفلسـطينية. وقـد عرضنا

أعـاله املميـزات السـتة الرئيسـية للنص الشـعري،

باملسـتوى إنشـاء وتقنيـات مقومـات هـي بمـا

الحـريف، وانتقلنا مـن ثـم إىل املحـاور املضامينية-

. العـام النـص هيـكل تصـوغ والتـي الشـكلية

فاملقومـات والتقنيـات هـي لبنـات يف بنـاء املحاور

٣٩٥

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

املضامينية-الشـكلية، فالصـوت وجرسـه املينوري،

قـان ماديـة الجسـد يف مفـردات معينة مثـال، يحق

والعالقـات الصوتيـة بينهـا، لتقويـض التجانـس

للجسـد املاجـوري الصوتـي للنظـام املزعـوم

الثنائـي الجنس السـلطوي، وبذلك تفتـح التجانس

املفـروض عـىل آفـاق املمكـن. أمـا اللغـة الروائية

فهـي، مثـال، تحقق مكانيـة املكان عـرب إعادة رسد

«الجملـة الشـعرية» من مسـامات اليومـي املتدفق،

مقابـل مكانة لغـة الشـعر املتعاليـة. أمـا التناص

مـع األسـطورة التوحيديـة، فيحقـق زمنيـة الزمن

مـن خـالل أرضنة الزمـن املقـدس، مقابـل الزمن

األسـطوري املطلـق الـذي ال يتغـري. وتأتـي تقنية

التقويـض لتعمـل يف املحـاور الثالثـة عـرب إبـراز

نفاد صالحيـة نظاميتهـا الربوبية-األبويـة، وبذلك

كشـف رضورة قتلهـا. وبهـذا تنبثق مـن التقويض

تقنيـة السـعي وراء مادية جسـد ومكانيـة وزمنية

أخريـات. يـرد السـعي الباحـث إىل مادية الجسـد

العربي-اإلسـالمي، حيـث تقـوم تقنيـة الغرف من

وزمنيـات مكانيـات يف غرسـها إىل املاديـة، هـذه

مفتوحـة عىل اآلن/ الهنا، عسـقالن. نسـتخلص من

هـذا الشـكل مـن البنـاء نحويـة ضابطـة للهيـكل

٣٩٦

إسماعيل ناشف

الـذي يقـرأ العالم مـن خـالل مادية الجسـد: فتح

اإلقفـال/ إقفـال الفتـح. هـذه النحويـة هي جرس

للعبـور االنشـباكي باتجـاه الحـدث الشـعري من

جديـد، ذلـك الحـدث الشـعري الفلسـطيني غـري

املكتمـل نتيجـة لطبيعـة مأسـاته.

قد تأخذ الـوالدة/ املـوت والحدث الشـعري املنبثق

تاريخيـة مختلفـة، مـن االمتـداد بينهمـا أشـكاال

قهـا مرهون بعوامـل ذات صلة بحقل حيـث إن تحق

التناقضات األسـايس ملجتمـع ما يف لحظـة محددة.

والشـكل الفلسـطيني هو الوالدة عرب املـوت، النكبة

كلحظـة والدة، وضيق الفسـحة بني املـوت والوالدة

بحيـث ال يكتمل الحـدث الشـعري، أي إن التناقض

للـوالدة، كتكـرار القتـل تكـرار يف هـو الرئيـيس

ممـا يمنع نبـض الحياة الـرشط األسـايس الكتمال

الحـدث الشـعري. إن الحركـة الجماليـة الشـعرية

املقرتحـة يف ديـوان «رشقـي املنـاداة» تنشـبك مـع

هـذا الشـكل عـرب فتـح أقفالـه بعـدة مسـتويات،

أبرزهـا فك تطابـق زمنـي النظام الثنائـي الجنس

مـع النظـام االسـتعماري، يف األول عـرب تقويضـه

وإبـراز نفاد صالحيتـه، ويف الثاني عرب اسـتحضار

قـراءة خـالل مـن يجـري والفـك «عسـقالن».

٣٩٧

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

جسـدية للمـكان والزمـان، كـوادي النمـل والزمن

الضـارب يف العمـق التاريخـي. إن هـذا النـوع من

الفـك هو فتح للجسـد واملـكان والزمن عـىل رحاب

مسـبقا. إحداهـا غلـق دون الوجـود، احتمـاالت

تكمـن اإلشـكالية األساسـية يف هذا الشـكل الجمايل

يف أنـه لكـي يتغلـب عـىل قلـق اإلقفـال األول عليه

بنـاء إقفال ثـان ليمنع بذلـك تكرار تجربـة اإلقفال

ذاتهـا، أي إن مـا قـد يضمـن عـدم تكـرار اإلقفال

هـو ممارسـة اإلقفـال عـىل منطـق الفتـح، وهـو

نقيـض للمنطـق وللفتـح معـا. ولعـل أبـرز تعبري

لهـذه اإلشـكالية هـو نفحـة الحـزن الكثيـف التي

تعبـق يف أنـف القـارئ/ ة بـني لون فـرح وآخر يف

الديوان.

بناء عـىل التحوير الفلسـطيني للحياة والشـعر، قد

تكـون الـوالدة موتـا وقد يكـون املـوت والدة. ومن

هنا يتناسـل السـؤال: هل هـذا مجـرد الـ«انقالب»

عـىل طبيعـة سـريورة العمـل االجتماعـي املنتـج؟

أم هـذا منطـق عمـل إنتاجـي آخـر يختلـف عـن

الـوالدة/ املـوت واالمتـداد بينهما؟ بعبـارة أخرى،

هـل لدينـا هنـا إمكانيـة لحـدث شـعري أصيـل؟

هـذا ممـا قـد يعيدنـا إىل السـؤال الـذي بدأنـا بـه

٣٩٨

إسماعيل ناشف

هـذا املقال،حـول تحويل «مـا هي رضورة الشـعر

اليـوم؟»، إىل السـؤال عمـا هو شـكل العمـل األول،

والحـدث الشـعري بما هو مقاربة الوجود يف شـكله

األول. كيـف يعمـل الحـدث الشـعري األصيل؟

إن املقـرتح الجمـايل الشـعري يف «رشقـي املناداة»،

حركـة فتـح اإلقفـال/ إقفـال الفتـح، هي إشـارة

دالـة عـىل إمكانيـة شـق طريق السـعي لالنشـباك

مـن جديد مـع الحـدث الشـعري األصيـل. يف هذا،

الديـوان يشـق الطريق إىل مفرتق مـيلء باإلمكانيات

ـ «فتـح اإلقفـال/ دون أن يلتـزم بـأي منهـا إال بـ

إقفـال الفتـح» كنقطـة ارتـكاز جماليـة شـعرية،

وذلـك رغـم خصوصية الحالة، فلسـطني والجسـد

يعرضـه مـا إن العربي-اإلسـالمي. الحضـاري

لنـا هـذا املقـرتح، إذا، هـو ليـس رضورة الشـعر،

وإنمـا الرشط الـرضوري لالنشـباك مـع أي حدث

شـعري أصيـل وتأسيسـه. وإن أردنـا تجذير هذه

املقولة، فمـن املمكن االدعـاء أن املتتاليـة «الوالدة/

املـوت/ الـوالدة/ املـوت»، التـي تقـف يف أسـاس

الوجـود اإلنسـاني بهيئتـه االجتماعيـة التاريخيـة،

تتسـم بمنطق تدفقـي متحـرك، ومن هنـا فحدثها

مـن الشـكل هـذا نحويـة عـىل يقـوم الشـعري

٣٩٩

اللحن يف مديح هجرة االبن: سؤال رضورة الشعر

العمـل. إن الشـكل الـرضوري لالنشـباك مـع هذا

املنطـق التدفقي املتحـرك هو بخلـق نحوية موازية

لتقويـض النظاميـة التـي تعتمـد السـيطرة عـرب

السـكون. فالشـق األول مـن «فتح اإلقفـال/ إقفال

الفتـح» يقـوم بعمليـة تقويـض النظاميـة، بينمـا

يرتـد الشـق الثانـي إىل التدفـق املتحرك. والسـؤال

هـو هـل هنالـك إمكانيـة للتغلـب عىل اإلقفـال من

النـوع الثانـي، إقفـال الفتـح، أم إن هذه بمسـتوى

الـرضورة لحمايـة الحـدث الشـعري األصيل؟ هل

النكـوص إىل النظاميـة هـو حتمـي، رضورة؟